مجلة المقتبس/العدد 39/ضراء العلماء
→ الجباية في الإسلام | مجلة المقتبس - العدد 39 ضراء العلماء [[مؤلف:|]] |
الرتب والأوسمة ← |
بتاريخ: 1 - 4 - 1909 |
2
بين هذا الجيل الناشئ نفرٌ لم يكتب لهم الوقوف على حضارة المشرق وآدابه بل غاية ما وصلت إليه أفهامهم من البحث والتدقيق أخذهم بغشاء العلوم الغربية الحديثة فقط فراحوا وهم ثملون بحثالة تلك الثمالة يهرفون بما لا يعرفون زاعمين أن المشرق وحده منبعث الأعمال البربرية كما أن البعض حتى من علماء المغاربة يصورون الشرقي ذلك الغر المجرد والعربي ذلك الذي يخوض بحاراً من رمال محرقة وأشعة الشمس المذابة قطراتها تتصبب عليه فتصهر رأسه في فضاء صحاري جرداء تكاد لا تتناهى. . .
ولو تهيأ لذلك العربي ما تهيأ للغربي من التربية والبيئة (المحيط) وتكاثر الوسائل والوسائط ما كان مدعاةً للتأثير في أخلاقه وأفكاره وخيالاته وقوته العقلية وطبيعته الحيوية الخ. . . . لاستعاض عن ظلال الخيام التي كان يستحضر في زواياها بدور الكيمياء ذات البنيان الضخم والمعامل الكبيرة ولكانت له ضفاف الأنهار مباءة يتفيؤ ظلالها الخضراء.
ولقد رأينا العرب لما اختلفت عليهم مؤثرات التربية والبيئة وأنشاؤا يدوخون الممالك ويمصرون الأمصار أمة ناهضة بلغت في التحضر والتمصر شأواً بعيداً وضربت في المدنية والعمران بسهم وافر. ونبغ بين ظهرانيهم من الدهاة من ألفوا في العلم والاجتماع والأدبيات على اختلاف ضروبها فبرز الكندي وجابر الكوفي والطوسي وابن رشد وابن سينا والفارابي وابن أبي أصيبعة والسمرقندي في الرياضيات والطب والفلسفة والغزالي والرازي وابن حزم وابن باجة وابن خلدون والمتنبي والمعري في الاجتماع والتاريخ والأخلاق والشعر وأخذ العظماء من الأمراء يسرفون في إنشاء معاهد العلم في بغداد وسمرقند والشام والأقطار الأخرى وعهدوا وظيفة التعليم إلى من تأفقت شهرتهم في العلم في ذلك العصر مما يدل على نهضة علمية كبرى نشأت في المشرق بقي من آثار القائمين بها أطلال بالية ومن نتائج قرائحهم بقايا ملئت بها مكتبات المشرق والمغرب على كثرة ما عداها من عوادي الأيام.
ألا وإن الأمم تسير في تقدمها وتأخرها على نواميس عامة قد لا تختلف في الغالب إلا بقدر الاستعداد الفطري وتأثير الإقليم. وما يصح أن يقال عن تلك الأمم من الأعمال البربرية أن هو إلا أمر طبيعي لا بد من وقوعه بين أي شعب أسفَّ للانحطاط في العلم وأخلد للجمود في الدين.
مر على أوربا من أدوار الظلم والظلمات ما سجل لنا التاريخ من آثارها في الأمم الغربية ما يصح أن يكون عبرة همجية وذكرى سوء. وذلك في الغالب يرجع إلى عوامل ثلاثة كانت علة العلل لما نجم عنه من سقوط وصعود: الملوك ورجال الكنيسة والنبلاء. أما النبلاء: فلم يؤثر عنهم في الأعم الأغلب من حالهم سوى أنهم كانوا يسعون وراء تأييد نفوذهم ونيل مشتهايتهم وملذوذاتهم بأية طريقة كانت سواءٌ دعا سعيهم هذا إلى إهراق دماءِ الشعب وابتزاز أمواله واكتساح الأراضي الشاسعة من مستعمراته أو إلى مقاومة الملوك إذا آسوا منهم مالا ينطبق على ما ينزعون إليه من حب السلطة والجار الذي كان دينهم وديدنهم حتى أتيح لهم نفوذ قوي كان لهم عوناً في عامة ما تذرعوا به من الذرائع لحفظ سلطتهم وإحرازهم ميزةً على غيرهم من بني البشر حتى في المحاكم ومسائل القضاء.
وأما الملوك: فإن استئثارهم في الملك وإغراقهم في البذخ والترف خملهم على مبالغتهم في الإرهاق والعسف وإتيانهم كل امرء منكر لمطاردة قادة الأفكار من رجال الأمة فكان الملك يذيب أيامه ولياليه التي كان يجب أن يقضيها فيما يعود على الأمة والوطن بالمصلحة العامة في اختراع صنوف الحيل والدسائس تارة وفي أحلام الموبقات مرة أخرى فمن طنطنة أقداح إلى إزاقة ابتسامات بين وصيف وبغا وكثيراً ما كانت الحرب بالباب والسلطان في لعب.
ومما ساعدهم على عملهم هذا غفلة الشعب واتخاذهم من اعتقاده بالملوك والقياصرة والأقيال والأكاسرة إنهم آلهة الأرض والآمرون الناهون في العالمين آله صماء لتنفيذ آمالهم وأعمالهم. فكان الشعب مغلول اليد والفكر واللسان ليس له من الأمر شي إلا الطاعة العمياء. وفوق هذا كله فإنه كان يرى في هذه الطاعة خيراً يصيبه أو ثواباً يناله. ولم يكن من الشعب الغافل إلا أن وسمهم بالألقاب السماوية ووصفهم بعامة صفات الربوبية.
وأما رجال الكنيسة: فكانوا يبالغون أيضاً حفظاً لسلطتهم واستبقاء لعزيز جبروتهم في اضطهاد العلم والعلماء. وتم لهم ذلك بما أسدلوه على الأبصار من السجف المبرقشة التي هي ليست سوى خيالات خداع وختل ونفاق وتلاعب قالوا عنها أنها الدين وليست منه في شيء حتى كان منهم أن كانوا يقسمون الممالك ويوزعونها ويخلعون من الملوك من يشاؤن وكانوا كما قال أحمد شعيب بك حكام أوربا المطلقين (ديكتاتور).
غضب مرة الأب (هيلدي بران) على هنري الرابع وأصحابه فحرمهم جميعاً حتى اضطر الإمبراطور هو وزوجته إلى أن يقصدوه ليغفر لهم سيئاتهم فقطع جبال الألب في أيام الشتاء وقد ارتدى قميصاً أبيض أعد للمجرمين ووقف أمام القصر الذي كان جالساً في صدره ذلك الأب ثلاثة أيام وهو يرتجف من صبارة القر وأخيراً أذن له بالحضور فتمثل بين يديه وقبل قدميه وهكذا استطاع أن يظهر بمظهر العفو.
وإن أعمال رجال الكنيسة في محكمة التفتيش لا تكاد تمحى آثارها من صفحات الوجود فقد كان الغرض من إنشاء هذه المحكمة مقاومة العلم والفلسفة عندما خيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد وتلامذة تلامذته خصوصاً في جنوب فرنسا وإيطاليا. وفي مدة ثماني عشرة سنة من سنة 1481 ـ 1499 حكمت على عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصاً بأن يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير فشهروا وشنقوا وعلى سبعة وتسعين ألفاً وثلاثة وعشرين شخصاً بعقوبات مختلفة فنفذت ثم أحرقت كل توراةٍ بالعربية.
وقد قرر مجمع لاتران سنة 1503 أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه من ينظر في كلامه شيئاً من الصناعة والعبادة. قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: لكن ذلك لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيءٍ من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره ثم قال: وأوقعت هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه شيءٌ من نور الفكر إذا نظر حوله والتفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه وأن السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه من ورود الفكرة العلمية إليه.
هذا ولا تنس ما كان للحروب والثورات باديء بدء من التأثير السيء في الحركة العلمية في المدارس فالثورة الفرنساوية دعت إلى إلغاء دار الفنون الذي ظل يختلف إليها الطلبة منذ زمن مديد. وألغيت بالقرار المؤرخ في 10 آذار عام 1794 كلية باريس وثلاث وعشرون جامعة في الولايات الأخرى وصودرت أوقافها وأملاكها وإن حروب التتار الشعواء أغارت على الجامعات التي أُنشئت في مدينة (نوفوغوردو) و (كرسون) و (موسقو) من بلاد روسيا لما فتحها التتار بحد سيوفهم.
ولما دب في بولونيا دبيب الحياة وقامت تطالب باسترداد حريتها أنشأت الحكومة الروسية تتذرع بكل جليل وتافه لصد هجماتهم وأول ما بدأت به إغلاق الجامعات والمدارس ومن ذلك جامعة (فارسوفيا) الشهيرة التي أغلقت عام 1832 وظلت كذلك موصدة سنين وأعواماً. وإنه وإن أذن للجامعات بعدئذٍ أن تفتح أبوابها بيد أنه لم يعد يراعى فيها أصول الحرية في التربية والتعليم في حال من الأحوال.
وإنك لترى الجامعات والمدارس بعد ما توالى على أوربا من الأزمات العلمية والفكرية في حالة النزع والاحتضار إدارة وتعليماً. فأما ما كان من أمر التعليم فأنها كانت تسلك الخطة التي كانت متبعة في القرون الوسطى وكان المتطفلون على موائد العلم يتصافقون الرتب العلمية على رؤوس الأشهاد ولم يكن من المعلمين الحقيقيين من يستطيع أن يدرب التلاميذ على أصول التربية الحديثة وإن كان يوجد فإنهم كانوا يتقاضون مرتباً نزراً يسيراً.
في ذلك الزمن الذي اشتدت فيه الأزمة كانت أوربا تتمخض بالثورات السياسية والدينية. بيد أنها لم تستطع أن تضع حملها إلا بعد أن نبغ فيها فريق من أهل العلم والأدب فبدأوا يجدون بما في طوقهم وطاقتهم وراءَ مكافحة أولئك الخونة المارقين ومنافحتهم في القلم واللسان ليستردوا لبني البشر حقوقهم المغصوبة فكان فيهم العلماء والحكماء والأدباء والقصصيون والشعراء أمثال نيوتن وباكون ويكارت وهيكو وفولتر ولامارتين وتولستوي ولوك وفيختي وكانت وميرابو وموليير وغيرهم من رجال الإصلاح وكذلك كان بين هؤلاء من رجال الإصلاح الديني كثيرون ومن أشدهم جهاداً وجلاداً لوثيروس زعيم المذهب البروتستانتي في البلاد الأوربية والأميركية جمعاء.
فسد هؤلاء العظماء العجز في تربية الشعب وتعليمه واغتنت النفوس بما تجدد في البلاد من الأوضاع وما ظهر في عالم المطبوعات من المصنفات العلمية والأدبية واكتسبت بما اكتسته من الحلل القشيبة ميلاً خاصاً من القلوب فتهافت الناس عليها وهم في أشد الحاجة إلى ما يمحو ما تلطخ على صفحات الأفكار من الشوائب المبهمة. وكان أول انقلاب وقع في نظام الأسرة (العائلة) والمعتقدات. وتمثل هذا الانقلاب بأكمل مظاهره في المبادئ والأفكار وعلم الشعب حق العلم أنه مهضوم الجانب مهيض الجناح وأن الملوك والأمراء بأجمعها ليست سوى إجراء له وآنئذٍ نزع استرداد حقوقه بما مازج روحه من قوة الحرية في القول والعمل.
شعر الملوك ورجال الكنيسة لما آنسوا من الشعب ميلاً إلى الإصلاح ورجاله بالخطر الذي يتهدد سلطتهم الملطقة فأخذوا يضيفون على مظالمهم الأولى ضروباً من الجنايات والخيانات. ألا وإن قيصر الباستيل والآلة المدعوة المقصلة (كيلوتين) ومحكمة التفتيش وفيافي سيبريا وسراي التويليري أعظم شاهد على ما أتوا به من الفظائع والفجائع لمناهضة العلماء والحكماء ورجال الإصلاح:
هذا لافوازيه العالم الكيماوي المشهور الذي عني بهذا الفرع من العلم عناية خاصة واكتشف عناصر جديدة لم تكن معروفة من قبل ووضع نواميس عامة أبان فيها ما خفي تعليله على المتقدمين حتى دعي بـ (واضع الكيمياء الجديدة) ـ هذا الرجل على فضله وعلو كعبه في العلم وخدمته الإنسانية جمعاء حكم عليه بالإعدام وسيق إلى ساحة القتل حيث ذهب ضحية الجهل والغدر والخيانة.
وهذا غاليله العالم الإيطالي الفلكي المشهور عقدت من أجله جلسات متوالية في إيطاليا ضمت أهم رجال الكنيسة وغيرهم وأجمعوا بخروجه عن أوامر الدين في قوله بحركة الأرض ثم حكموا عليه بالإعدام فالتفت إلى الجمهور وهو جذل فرح وقال: هي تدور وفوق ذلك هي كروية.
وكذلك دانتي حكيم إيطاليا وشاعرها أمر الكردينال بورجينو عام 1339 بإحراق بعض مؤلفاته في بولونيا جهاراً وطلب إخراج جثته من القبر وإحراق عظامها انتقاماً من على إلحاده ثم لم تمضِ على هذه الأحكام عشر سنين حتى شعر الشعب الإيطالي بمنزلة هذا الجرل ففي سنة 1350 قررت جمهورية فلورنسا أن تدفع مبلغاً من النقود إلى ابنة له راهبة تدعى بتريس وفي عام 1396 قررت أن يبنى له ضريح ويقام له تذكار في فلورنسا على أنهم ما زالوا يحاولون بذلك إلى أوائل هذا القرن فابتنوا له ضريحاً وقد احتفلوا بافتتاحه في 14 تموز عام 1865 وهو تذكار مضي ستمائة سنة من يوم ولادته.
ومثله فولتر حكيم الأدباء في فرنسا نظم قصيدة هجا بها لويس الرابع عشر ملك فرنسا فحكم عليه بالسجن فسجن في الباستيل سنة نظم أثناءها قصيدة سماها التعاهد (ليبج) ورواية دعاها (أوديبوس) قالوا أنها أحسن ما كتبه من حيث شرح العواطف الحقيقية وذلك عام 1718 ثم أطلق سراحه بدعوى أنه مريض يحتاج إلى تبديل الهواء في (بلومبيار) فسار وقد عول على أن لا يعود إلى فرنسا ولكن قلمه ثنى عزمه فعاد إلى مثل ذلك فأعيد إلى السجن مهاناً بالضرب واللكم عام 1726 فلبث هناك ستة أشهر ثم أطلق سراحه والتجأ إلى إنكلترا لعله يتخلص من دسائس الفرنسويين.
ولقد كتب مقالات فلسفية قيل أنه تعرض فيها للدين والسياسة فأحرقت بأمر مجلس الأمة (البرلمان) واضطر إلى مغادرة باريس خوفاً على حياته وقد ذهب بعضهم إلى أنه ملحد لأن الكهنة لم تأذن بدفنه على العادة المألوفة وإن أحد أبناء أخيه كان رئيساً لدير فأخذ الجثة سراً إلى ديره ودفنها في الكنيسة وفي سنة 1791 نقلت الجثة إلى البانتيون مدفن الملوك والعظماء والكبراء.
وكذلك روسو فإنه نال من نبال الطعن والاحتقار ما لا يكاد يخطر على بال وما ذنب هذا الرجل الكبير ـ كما قال أحد حكماء فرنسا ـ سوى أنه خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتمادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجه خطاباً إلى الوالدات والأطفال وهو أمر هداه إليه ما فطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة ثم قال: وإن أردت أن أبين لك كيف خدم روسو الأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار لهم قلت أن ذلك إنما كان بما ألقنه تلك الكتب في نفوس الفرنسيس من بذور الثورة وهيأتها به لها.
ومثله لوتيروس المصلح الديني الألماني فإنه قام بالدعوة إلى ما صح عن المسيح فطبق ما ورد في الإنجيل ضارباً بتلك الأوهام التي تعلقوا فطفوا بها عرض الحائط. وأول ما ناهضه هو مسألة الغفران ولم ير داعياً للأبوة فألغى الرتب الروحانية وشركات الدنيا والقاعدة التي تخول الرهبان عدم الزواج ظهرياً.
وحملته طبيعة الحال على أن يدعي ويثبت مدعاه بأن كنائس الكاثوليك جمعاء تناقض أحكام الدين المسيحي على خط مستقيم وقد دعا الإمبراطور شارلكان المجلس العام في ألمانيا إلى الالتئام فالتئم وطلب المجلس بأكثرية الأصوات إحراق لوثيروس وقد كاد يقع ذلك لولا أنه أقام سنة كاملة في دار نبورج مختفياً عن أعين الرقباء وأتم خلال هذه المدة ترجمة الإنجيل الذي كان شرع بترجمته بادئ بدء وأحدث انقلاباً كبيراً في الأدبيات الإنكليزية والأفكار.
وبلغ بالقسيسين التعصب في إسبانيا على عهد سكسيمون الثالث مبلغاً هذا حده ولم يكن منهم إلا أن أبعدوا عامة من كانت تهزهم أريحية الوطنية أيام كان القسم الأعظم من واردات الحكوممة مخصصاً لصندوق الكنيسة. وإن شعور التعصب قد بلغ في أوربا أشده حتى كان الوباء إذا فشا نسب إلى الموسويين ومن ثم ترى هؤلاء المساكين يستهدفون لضروب الإيذاء والجفاء ما الله به عليم.
وبعد فإن سلطة العلم لا تقاوم ومن قاومها كان خليقاً بكل أذى يلحقه إن لم يكن عاجلاً فآجلاً. وصوت العلم النافع ـ كما قال رنان ـ كثيراً ما يتضاءل أمام هجمة المهاجمين وقحة الدجالين وللعم صوت متى سكن ضجيج تلك الظواهر يظل ذاك الصوت يسمع فلا يعود أحد يسمع غيره قال: ومن أجل هذا ترى المجامع العلمية على كثرة شكوى أهل الأفكار المنحطة منها فائزة بفضل الغلبة لأنها حارسة حسن الترتيب الحقيقي وهي قليلة ولكنها مفلحة وليس لغير العقل سلطة تبقى.
وإن رجال الإصلاح كلما أغرقوا في الدعوة إليه صموا آذانهم عن جلبة الوشاة والمشائين ولم يحفلوا بما ينزل بساحاتهم من الكوارث وإنهم ليعدون ما يصيبهم من إهانة واحتقار شرفاً لهم وفخراً كما قال الكتاب الفرنسوي: كل قبضة من الوحل تلقى في جبهة صاحب صناعة فهي إكليل من الفخار وقد سيق من سيق من هؤلاء المصلحين إلى القتل وعلى شفاههم تلوح ابتسامة السرور ولسان حالهم يقول كما قال لازوروس: نحن نموت الآن لأن الشعب نائم وتموتون أنتم غداً متى استيقظ الشعب.
هذه آثار الأدوار السوداء ونتائجها ولقد كان للأمم الشرقية من آثار مثل هذه الأدوار حظ وافر ولو لم يزل فيهم من القوة بقية ومن الذكاء الذماء لأودت بحياتهم الأدبية منها والمادية. ومما يقوي آمال رجال الإصلاح ويشد عزائمهم ما رأوه من نهضة المشارقة في هذه القرون الأخيرة فقد تناولت الحركة الإصلاحية الشمس المشرقة (اليابان) ففارس فالأمة العثمانية مما يدل على أن الاستعداد كامن في نفوس البشر التربية تظهره والإهمال يخفيه.
ولا بدع إذا قامت تلكم الأقوام بنهضة حديثة اهتزت لها الأرض من أقصاها إلى أقصاها وهم الذين كانت لهم فيما مضى حضارة ضخمة فخمة قضت عليها النواميس الطبيعية بالاندثار والعفاء وقيضت من رجال الغرب عني بأمرها فبزوا بها وبرّزوا. وما على الأمم الشرقية اليوم إلا أن تطرس على آثار الغربيين في العلم والاجتماع وتأخذ بالأمور المعقولة من حضارتهم ومدنيتهم ليكتب لها عمر مديد وتاريخ مجيد!. .
دمشق:
صلاح الدين القاسمي