الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 38/العربية والتركية

مجلة المقتبس/العدد 38/العربية والتركية

مجلة المقتبس - العدد 38
العربية والتركية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 3 - 1909


أصيبت الأمة بعد سقوط دولة بني العباس بفتور غريب في العلم والآراء لما عايشته من أهاويل الحروب والفتن. ولما قامت الدولة العثمانية فجمعت تحت لوائها الأقطار المختلفة نظرت إلى الأقطار العربية من الوجهة السياسية ولم تعن بها ولا بغيرها من الوجهة العلمية الاجتماعية شأنها في عامة أدوارها وأقطارها ولم يشذ عن ذلك إلا مصر فكانت أشبه بمملكة مستقلة حتى بعد استيلاء العثمانيين عليها. وبعيد أن قامت الدولة تؤسس لها مدارس في العاصمة والولايات لتعلم العلوم الحديثة وتستبدل النور بالظلمة والعلم بالجهل قام محمد علي والي مصر فنزع القطر المصري من المماليك في الظاهر ومن الدولة في الباطن وأنشأ فيه مدارس عربية وتوفر بدلالة جماعة من مستشرقي الفرنسيس النبهاء على ترجمة الكتب العلمية من اللغات الأوربية فانتعشت اللغة العربية في مصر فقط وظلت كهف العرب عنها يأخذون علومهم وموطن الطباعة والكتب والصحف وبأنوارها يستضيئون وذلك لغناها العظيم وتاريخها المجيد القديم.

بقي الأمل في نهوض العربية محصوراً في مصر لأن الشام والعراق والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش أمست في فتور. وقد أنشئت في تونس وسورية بعض المدارس والمطابع تدرس بالعربية وتطبع اللازم من الكتب العربية لكنها لم يمضِ على تأسيسها بضع سنين حتى أطفئت شعلتها بما أصاب سورية من بلاء المراقبة وما أصاب تونس من الاحتلال الفرنسوي. والمراقبة واحتلال الغريب مما يقتل روح العلم وينزع حياة النهضة القومية. وقد أوشكت مصر أن تصاب بضعف لغتها لما احتلها الإنكليز لولا أن قامت الأمة وطلبت جعل العربية لغة المدارس الابتدائية والثانوية فلم تر الحكومة بدّاً من إجابة طلبها.

أما هذه الديار فكان أول ما انصرفت إليه الوجوه بعد إعادة القانون الأساسي العثماني مسائل التعليم فالتركية لسان الدولة الرسمي تريد أن تعلمه جميع العناصر العثمانية ليجيء منهم في المستقبل مزيج واحد وتقوي وحدتهم السياسية. وقد نشرت نظارة المعارف برنامجها ولم نشهد فيه ذكراً للعربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية بل قالت أن تعليم العلوم التركية للذكور والإناث وللصغار والكبار وللعرب والترك والروم والأرمن والبلغار والأرناؤد حتى أن المبادئ البسيطة التي سمحت تعلمها من العربية تدرس ف ألفها أتراك باللغة التركية. فأدرك بعض الباحثين في أحوال البلاد والعناصر أن غرض الحكومة من هذه الخطة (تتريك) العرب وغيرهم وهو عمل إذا كان نافعاً من حيث السياسة فلا نفع فيه من حيث الاجتماع والعلم خصوصاً بعد أن رأينا أصغر الشعوب الأوربية تحافظ على لغتها الأصلية محافظتها على أعراضها وأموالها وأرواحها.

لا بد للحكومة أن تجعل التعليم إجبارياً في المملكة فإذا جعتله باللغة التركية ولم تراع حالة كل قطر ولغة أهله تسوء العاقبة ولا تأتي الشجرة التي تريد غرسها الآن بثمرة جنية بل يكون شأن البلاد العقم في العلم والفكر ومن لم يتعلم العلوم بلغته هيهات أن يأتي منه عضو يفيد أمته وبلاده. وإذا فعلت الدولة ذلك الآن فتكون في عهدها الدستوري أظلم منها في عهدها الاستبدادي وتكون حكومة مصر أرفق بأهل مصر من حكومتنا بنا لأنها منا فينتظر عن يدها الكثير وتلك ليست منهم وكل شيء تأتي به يعد كبيراً.

وبعد فإن كانت الحكومة العثمانية لم تنشط اللغة العربية في الماضي مع أنها لغة الدين والآداب والحضارة فهي لم تضع العقاب في سبيلها مباشرة ولكن الغلطة الفظيعة التي ارتكبتها ولا يغفرها لها التاريخ هو أن القائمين بأعبائها منذ البدء جعلوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية خلافاً لما جرت عليه دول الإسلام السالفة كدولة المصامدة البربر في الغرب الأقصى والأدنى ودولة الجراكسة في مصر والشام ودولة آل سلجوق التركية في العراق وشبه الجزيرة ودولة بني بويه الفارسية ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها من الدول التي طرحت لغاتها وعمدت إلى اتخاذ اللغة العربية لغة الحكومة والدولة الجراكسة والبربر والفرس والأكراد والأتراك يتخلون عن لغاتهم مختارين ولا يستعملون في الرسميات غير العربية لغة البيان والعلوم أما الترك فجروا على غير سنة الدول السالفة فلم يروا من المصلحة تعلم لغة عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها واكتشفوا بلغة ملفقة بدوية ما برحوا يتوفرون منذ قرون على إصلاحها وهيهات أن تكون كما يحبون.

ولما جاء السلطان سليم الفاتح مصر والشام وكان على شيء من المعرفة يحسن العربية كما يحسن الفارسية والتركية أحب أن يتلافى الغلط الذي سارت عليه دولته وأن يجعل اللغة العربية لغتها الرسمية أسوة الدول الإسلامية البائدة فقام عليه بعض ضعاف العقول من أهل دولته وأرادوه على العدول عن رأيه مخافة أن تندثر لغتهم بل تخلصاً من أن يتعلموا لغة غيرها فكان عملهم هذا من جملة السدود التي حالت دون آل عثمان وبسط أيديهم على الممالك الإسلامية المجاورة لهم واللغة العربية أعظم رابطة بين المسلمين.

ولقد كانت الدولة ولا تزال تعلم في مدارسها الرسمية العربية كما تعلم الفارسية وذلك لأن التركية مزيج من هاتين اللغتين وبدون معرفة قليل من اللغتين لا يتأتى لتركي أن يكتب كتابة صحيحة في لغته فكان شأنها من بعض الوجوه شأن المدارس في أوربا لا تزال إلى اليوم تعلم اللاتينية واليونانية لأنهما أصل لغات أوربا وإن كانتا بادتا أو كادتا. ولكن مدارس أوربا أخرجت كتاباً بهذين اللغتين ولم نعهد من مدارس الحكومة العثمانية كاتباً بالعربية أو الفارسية. هذا والتركية ليست لغة دين ولا لغة علم ولا لغة حضارة قديمة ولا مدنية معروفة كالعربية التي شهد أهل الأرض بأمجاد أهلها وحضاراتهم. ومن الغريب أنه لم ينبغ في الدولة العثمانية كاتب عربي من أصل تركي على حين نبغ وينبغ من الفرس والأكراد وغيرهم أناس يؤبفون بالعربية فتحسبهم عرباً خلصاً. وإنك لتقرأ العجمة في كلام ابن كمال باشا وكاتب جلبي وطاشكو بربلي وغيرهم من الأتراك الذين عانوا القلم العربي وعدوا في المصنفين ما لا تقرأوه في كلام الراغب الأصفهاني وأبي بكر الخوارزمي وحجة الإسلام الغزالي بل إن هؤلاء على منشأهم الفارسي كانوا أئمة الإنشاء العربي.

إذا تعلم أبناؤنا اليوم على الطريقة التركية لا يلبثون أن يجيئوا أتراكاً ويتقنوا التركية كأرقى أبنائها وبذلك لا يخدمون أبناء لغتهم أدنى خدمة وقد رأينا معظم الذين تعلموا من أبناء سورية والعراق في المدارس الرسمية لا يحسنون التكلم بالعربية العامية فضلاً عن أن يكتسبوا سطرين صحيحين بلغتهم بل ربما رأيتهم يمزجون المصطلحات التركية وبعض الألفاظ التركية بينما هم يكلمونك بالعربية فكأن شأنهم في هذا شأن أكثر التوانسة والجزائريين من سكان المدن يتكلمون بعربية تكاد تكون أقرب إلى الإفرنجية لما خالطها من الألفاظ الإفرنسية والإسبانيولية والطليانية.

وقد رأى بعض العقلاء أن أحسن حل لمسألة اللغة العربية في المدارس الرسمية وسلمه عاقبة على أجيال الدولة المختلفة هو أن يجعل تدريس العلوم المادية كلها باللغة العربية كالطبيعيات والرياضيات والفلك والكيمياء والطب وأن تجعل العلوم السياسية كلها باللغة التركية كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحقوق والاجتماع وبذلك لا يقع حيف على العرب وهم نصف الدولة أو يزيدون ولغتهم أفضل لغات سائر العناصر العثمانية. والمستقبل كفيل بحل هذه المعضلة العلمية.