الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 38/التجارة والإسلام

مجلة المقتبس/العدد 38/التجارة والإسلام

بتاريخ: 1 - 3 - 1909


يا كرام الشام أراني كمن هو في المنام يتنقل من أمر غريب إلى أمر أغرب وكل ما أراه من هذه المظاهر يزيدني في كل ليلة سروراً على سرور حتى لا يكاد يوجد موضع لزيادة السرور. رأيت في هذه الليلة مشهداً حافلاً ومثالاً يدل على الوطنية الحقيقية في هذه المعاهد فلذلك لم أتمالك أن أبتدأ كلامي بالإشارة إلى حكمة من رجل قديم وهي أنه جمع أحد الرجال أولاده وأوصاهم بالرمز لأنه وجد الإشارة أفضل من كل عبارة فقدم لهم أعواداً من أغصان الشجر وأعطى لكل واحد منهم عوداً وقال له إقصم هذا فكان ما أسهل عليه من كسره. ثم ضم الأعواد بعضها إلى بعض وأعطاها للقوي من أولاده فالثاني فالثالث فالرابع فكانت النتيجة سلبية فقال بهذا الاتحاد يكون نيل المراد. لذلك أحييكم بوجود هذه العاطفة عاطفة الود والاتحاد التي تربطكم بعضكم ببعض وما افترق عضو إلا وكان مشلولاً والاتجاه ممدوح ويد الله مع الجماعة.

من دواعي السرور التي رأيتها في هذا البلد الأمين أنني اجتمعت بنفر من الخاصة ثم بالعامة أمس واليوم اجتمعت بالوسط وهم التجار وخير الأمور الوسط اجتمعت بهؤلاء في نادي التجارة وهي أساس الملك وركن العمران ولا أطيل الكلام في فوائدها فكلكم أدرى بها مني وتعرفون مزاياها. على التجارة قامت الأمم وارتقت الممالك حتى قيل في الأمثال: إذا كان مجد العالم بكراريسه فمجد التاجر بكيسه ولكن مجد العالم لا يكون له شأن في ترقية الوطن إلا إذا أمده التاجر بكيسه. العلماء قوم يشتغلون بالعلم ولو اشتغل الناس كلهم بالعلم لكانوا في غير هذه الدنيا أو من غير هذا العالم إذ ما الفائدة من الورق المكتوب إن لم ينضمَّ له الورق المضروب وما الفائدة من الطمامير إن لم تؤيدها الدنانير. أم تروا أن سيد الخلق كان تاجراً وأن كثيراً من علماء الإسلام اشتغلوا بالتجارة والعلم لما في التجارة من سعادة الدنيا وحياة الأمم وما في العلم من سعادة الآخرة. إذا نظرنا إلى المسلمين رأينا الخلفاء وأرباب الدولة منهم يتجرون بأمتعة الدنيا ليكتسبوا قوتهم من الحلال لأن التجارة هي المكتسب الحلال الصافي من كل قذر.

تعلمون أن علوم العرب قد أخفى عليها الزمان ولكن بقي لنا شيءٌ من ذلك البحر الزخار. كان ابن جبير الأندلسي وابن حوقل البغدادي والمسعودي يطوفون البلاد للتجارة والمكسب ويدونون كل ما يشاهدونه من المعارف ليفيدوا أبناء جنسيتهم بكل ما استفادوا من بهذه الوسيلة تملك العرب في أيام مجدهم أطراف الدنيا وارتقى لديهم العلم ولذلك كان الإسلام ذلك المظهر البديع في الدين والسياسة الذي ضمن له كل درجة في ارتقاء العلم.

ما هي الأسس التي قامت عليها الحياة؟ هي الزراعة والصناعة والتجارة. فالزراعة أول مصدر حقيقي لمعيشة الإنسان حتى أخذ في التحضر والتمصر ولكنها كانت قاصرة فجاءتها الصناعة فاشتغلت بما تنتجه الأرض من الخيرات واستحصلت منها خيرات أخرى صناعية. بقيت هذه الحالة في دور الطفولية في أدوارها الأولى فجاءت التجارة وصلةً بين الزارع والصانع سبباً في تقدم العلوم وارتقاء المدارك وحسب التجارة فضلاً أن سيد البشر ونبي العرب والعجم قد اشتغل بها كما ذكرنا.

ليست كل البلاد زراعية بل منها ما هو جبل أو واقع في سفح البحر فلا يمكن أن تنبت لها الأرض شيئاً ونرى الإنسان في مكان كهذا ليس للزراعة فيه أثر ومع ذلك يعيش بفضل التجارة ولهذا يمكن للإنسان أن يستغني عن الزراعة والصناعة ولا يمكنه الاستغناء عن التجارة لأنها تنقل له المحصولات الزراعية والصناعية من البلاد التي تمتاز بهما ولكن إذا بارت التجارة عدمت الزراعة والصناعة فالتجارة والأمر على ما ذكر سيدة المعايش.

كان تجار الشام ملوك التجارة وأعني بالشام تلك البلاد التي يحدها من الشرق العراق ونهر الفرات ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) ومن الشمال بلاد آسيا الصغرى المعروفة عند العرب بأرض الروم ومن الجنوب بادية الشام أو بادية السماوة أو بادية النفود ولا أدري معنى النفود فأغتنم الفرصة لفهم معنى هذه الكلمة:

رأيت في كتب الإفرنج وخرائطهم تسمية هذه البادية ببادية النفود قائلين أن النفود معناه الرمل ولكني بحثت في هذه الكلمة وحورتها وقلبتها فلم أعثر في كتب اللغة على اسم يوازي هذا الاسم الذي هو شبيه بالعربي ونقله جغرافيو الألمان والإنكليز.

وكلامي يسمعه بالطبع كثير من التجار الذين تمر قوافلهم بتلك البادية فعسى أن يحققوا معنى هذه الكلمة حتى لا يقال أن الإفرنج يأتوننا بكلمة عربية ولا نعرف معناها.

وبهذه المناسبة أقول أنا نجد لبلادنا مصورات باللغة الإفرنجية واللغة العربية وإذا نظرنا للعربية نجدها كلها مترجمة عن الإفرنجية وربما كان المترجم يتحرج في بعض الأسماء فيتركها.

في أحد دروسي أردت أن أشرح للتلاميذ حالة بلاد العرب عند ظهور الإسلام فرأيت خرائط مصر ودار السعادة كلها خلواً من أسماء البلاد والأماكن لذلك دعوت تلامذتي لأن يتلافوا هذا النقص ويستعينوا بالذي أبقاه لنا مثل ابن خرداذبة والأصطخري والمسعودي لنسد هذا النقص حتى إذا قرأنا شيئاً عن أخبار العرب عرفنا مواطن القبائل والشعوب وقلت لهم إن الذي يساعدنا على العمل الأكبر لهذا المقصد أن نسأل التجار وتلاميذ الجامعة الإسلامية الكبرى وهي الأزهر الذين يأتوننا من سائر البلاد الإسلامية فإنهم إذا سألوا أهل العلم والتجار الوافدين إلى مصر يمكننا أن نرسم خريطة وافية لبلاد العرب كافة أحسن من التي عملها الإفرنج وأضاعوا في سبيلها كثيراً من الأموال والأرواح ثم نعمل خريطة لبلاد العراق والشام وأتمنى من الذين يهمهم ذلك أن يستعينوا بأهل البلاد سواء كانوا من أهل العلم أو التجار لأنا بمجرد انقطاعنا عن طلب العلم والكسب قد نزلنا إلى الحضيض ووقفنا في طريق الجمود بينما كان الإفرنج يكدون.

أنا إذا أردت أن أعرف مواقع دمشق لا أقدر على ذلك إلا بالخرائط الإفرنجية وأما خرائط مصر ودار السعادة فكلها خلو من ذلك. هذا نقص يجب أن نتعاون على سده حتى لا نكون عالة على الإفرنج لا في العلوم فقط بل في مواقع بلادنا.

أول خريطة رسمت في العالم رسمها نفر قليل من أهل الشام وهم الفينيقيون وبلادهم جزر صغيرة متواصل بعضها ببعض ولم يكن لديهم قوة غير التجارة فملكوا بها العالم كله ووصلوا في ذلك الزمان المظلم إلى مضيق جبل طارق ومنه إلى بلاد الإنكليز وهم أول من عرف تلك البلاد وقد ملكوا منها كثيراً كما أسسوا كثيراً من البلاد في إسبانيا وكانت لهم المستعمرات في صقلية وغيرها. ثم نزحوا إلى تونس وأقاموا في قرطاجنة تلك المدينة الكبيرة ولقد كانت هذه المدينة تاج ملك الفينيقيين والدهر تارة لها وتارة عليها. أولئك هم آباء الشام حتى دار الدوروغار منهم الروم واليونان فأتوا أيضاً بطريق التجارة والملاحة وصاروا يأخذون أملاك القرطاجنيين وحينئذ تقدمت رومية وأزالت أثرهم من الوجود لكنا لا ننسى أن آنيبال بفضل التجارة مر من الجزائر ومراكش إلى إسبانيا ومنها إلى فرنسا فإيطاليا ووقف حتى صاح الرومانيون ببعضهم: ما لكم قاعدون والعدو على الأبواب وحينئذٍ لم يتمكن آنيبال من إتمام مقصده ولو كانت عنده السفن الحربية لكان محق رومية ولكنه أبعد عنها كثيراً ولم يأته المدد فذهب فريسة إقدامه الهائل ولا شك أنه فخر لأهل الشام لأنه فينيقي والفينيقيون من الشام.

دار الزمان دورته وجاء المجد للعرب فابتدأت تجارتهم بالصعود وكانوا يقصدون الفتوح والتوسع في الملك بواسطة التجارة ولذلك كان الخليفة العباسي يهدد أهل الهند إذا أقفلوا باب التجارة أمام تجار بغداد والشام.

لكن الهنديين حرفوا اسم الكوفيين وسموهم (كوكل) وكذلك أتاها جماعة هربوا من الحجاج أيام تجبره على الذين يرغبون في مناوأة السلطة المروانية وذلك أنه أجلى نفراً من قريش وكان فخر قريش قبل النبوة بالتجارة كما قال تعالى (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) فلما أجلاهم ذهبوا عن طريق البحر إلى الهند فسماهم أهلها بالنوائت (النوتية) وبقوا فيها زمناً طويلاً حتى انتشروا انتشاراً هائلاً وهم الذين أسسوا الإسلام هناك.

فللتجارة إذن فضل كبير في انتشار الدين الإسلامي أيضاً. كان التجار يذهبون إلى شطوط أفريقية فيرى أهلها من حسن معاملتهم وعظم أخلاقهم ما يزهدهم في دينهم رغبة في انتحال الإسلام ولذلك لم ينجح كثير من النصارى كما نجح تجار الإسلام. فالتجارة هي أساس العمران والتاجر أساس نجاحه الأمانة والصدق في الأخذ والعطاء.

لما دالت الدولة في دمشق وانتقلت إلى بغداد اختار المنصور الموقع التجاري لبناء العاصمة الكبرى وهي بغداد التي قال عنها علماء العرب: إن العراق سرة الدنيا وبغداد سرة العراق فبغداد سرة الدنيا.

كان كرسي الدولة العباسية عند أول قيامها في الكوفة ثم صار في الهاشمية ثم في الأنبار لكن الخليفة رأى عاصمة بلاده في موقع غير تجاري فأراد أن يجعلها في أهم مركز تجاري لتكون مضمونة البقاء على الدوام ولذلك أرسل الرسل ليقفوا على الجهة المطلوبة فاختاروا البقعة التي أقيمت فيها بغداد قائلين للخليفة: هنا تجيئك الميرة من المغرب وطرائف مصر والشام عن طريق الفرات وتجيئك في السفن من الصين والهند عن طريق دجلة. وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة وتجيئك الميرة من أرمينية فما فوقها عن طريق الزاب وأنت بين أنهار لا يصل عدو إليك إلا على جسر أو قنطرة فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لا يصل إليك عدوك وهو محتاج لعبور دجلة والفرات وهما خندقان طبيعيان لبلدة أمير المؤمنين.

فأمر بحشر الصناع والفعلة من الشام والموصل وفارس والكوفة وواسط والبصرة واختار قوماً من أهل الدين والعدالة والمعرفة والهندسة فوكل إليهم أمر العمال وكان فيهم الحجاج بن أرطاة المهندس وأبو حنيفة ابن ثابت الفقيه (وإنما اختار أبا حنيفة لأن المنصور أراد أن يولي أبا حنيفة القضاء فامتنع فضربه فامتنه فحلف أنه لا بد أن يوليه عملاً ولذلك أمره بأن يتولى الطوب واللبن ليبرّ بقسمه) وأمر بتخطيط المدينة كلها فلما تم تخطيطها بالرماد أقبل يدخل من كل باب ويمر في طرقاتها ورحابها فرآها وافية بما تميل إليه النفس فوضع أول حجر بيده قائلاً: بسم الله وبالله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال للعمال: ابنوا على بركة الله. وعند البناء أمر بطبخ الطوب الأحمر (الآجر) وكان يعد على يد أبي حنيفة بالملايين فاستدعى لذلك وزيره جعفر البرمكي وقال له ما رأيك في هدم إيوان كسرى لجلب أنقاضه واستعمالها في البناء فأجابه الوزير: إنه رأي غير صائب لأن الإيوان من آثار الفرس وهذا البناء الذي تقيمه الآن من آثار الإسلام ينبغي أن لا يدخل فيه أثر لغيرهم. فقال له الخليفة: أخذتك النعرة لقومك وحننت إلى العجم فأردت أن تمنعني عن ذلك. ولم يعبأ بقول وزيره وأرسل فعله فنقضوا بغضه وأتوا به إلى بغداد فحسبوا النفقة فوجدوها تزيد بكثير على استحضار أدوات جديدة ولذلك رأى الخليفة أن الأولى جلب الطوب الأحمر الجديد وحينئذٍ استدعى جعفر ثانياً وسأله في ذلك قائلاً: أريد أن أجلب الأحجار من الجبال لا من أنقاض الإيوان فأجابه الوزير: لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين بل ثابر على ما باشرت به لئلا يقال أن ملك الإسلام عجز عن نقض ما بناه ملوك الأكاسرة رأى المنصور أن الكلام صواب ولكن لا يمكنه العمل به لأن المدينة تجارية اقتصادية فلم يسمع قول وزيره.

استمرت دولة العرب على هذه الحال من الترقي في العلم والتجارة في آن واحد والتجارة من فرنسا وروسيا وبريطانيا إلى الهند وغيرها كلها عن طريق بغداد حتى دالت الدولة منها وانتقلت إلى الأندلس فكان للتجارة فيها رقي عظيم لكن أهلها أصبحوا بعد مدة مثل الأعواد التي ذكرتها لكم فدالت دولتهم بسبب التفرق والانقسام.

قامت على أنقاضهم دولة إسبانيا وسعت حتى رقيت بما اكتسبته من علوم الشرقيين وكذلك أخذت في الترقي دولة البرتغال وليس في وسعها التوسع في الملك فهجم أرباب الأقدام فيها على المخاطر ولما كانت الهند أعظم محل تجاري بما ترسل من البهارات والأباريز والفلفل والأفاوية إلى بغداد وأوربا أرادوا أن يذهبوا إليها ليستعمروها وتولدت عندهم رغبة جديدة في أن يصلوا إلى الهند عن طريق آخر لأن الإسلام في المغرب الأقصى ومصر واقفون لهم بالمرصاد لذلك استغنوا عن طريق البر وسلكوا طريق البحر فاكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وتملكوا موزامبيك وزنجبار ووصلوا إلى الهند وعاملوا تجارهم قائلين لهم لا نزيد سوى الفلفل بهذه الوسيلة صار لهم مع أهل العند معاملة قوية لكن تفرق تجار الهند جعل لهم عليهم كلمة فاستغاثوا بملوك مصر وآل عثمان فلم يجيبوهم لأن العداوة كانت متأصلة بين السلطان سليم والغوري ملك مصر.

وذلك أن الغوري أرسل طائفة من الجند إلى الهند عَلَى سفن (ويسمونها أغربة) صنعها في السويس فلما وصل قائده إلى اليمن حدثت بينه وبين أهلها مناوشات اضطرته لأن ينسى الوظيفة التي أرسل إليها وهي إنقاذ البلاد من البورتقال فبقي في اليمن وفي أثناء ذلك كانت القاهرة في اضطراب شديد أنساها الهند أيضاً لمحاربتها مع السلطان سليم وانتصاره في واقعة (مرج دابق) التي قتل فيها الغوري واستولى هو على حلب ومصر والشام ثم اشتغلت الدولة العثمانية بمحاربة السلطان اسماعيل الصوفي ونسيت الهند فكان هذا التفرق والاضطراب أعظم وسيلة لامتلاك البورتقال تلك البلاد الغنية بتربتها ومحصولاتها.

رأينا بلاد الهند فتحت على يد التجار كما امتلكها الإنكليز اليوم بواسطة التجارة أيضاً لما أصبحت إنكلترا ملكة البحار وأهلها ملوك التجار.

في ذلك الوقت قامت إسبانيا لتوسع دائرة ملكها فرأت أنها لا يمكنها طلب الهند من طريق البورتقال والمنافسة التجارية أساس الاستعمار فقام خريستوف كولمب وجرى في البحر من جهة الغرب ليملك بلاد الهند. بهذه الوسيلة اكتشف أميركا وسماها الهند الغربية. وارتقت إسبانيا حتى كانت كلمتها هي العليا خصوصاً في أيام شارلكان فإنها اغتنت وتدفقت إليها الأموال من جهات الدنيا ولكنها تضعضعت أخيراً بإخراج المسلمين وبالتراخي فألهاها التكاثر حتى دخلت في عداد أهل المقابر. في هذه الآونة كانت أوربا جارية نحو التمدن والشرق قد أخلد إلى النوم والسكون إلى الموت والجمود. وهنا أذكر لكم كلمةً عن تمدن الأوربيين:

كانت أوربا في منتهى التوحش حين كانت بغداد في أوج الحضارة حتى أن تجار العرب لما ذهبوا لاستحضار العنبر من شلسويج وصفوا أهلها بأنهم وحوش عراة لا يسترون عوراتهم إلا بقطع من الجلود (ذكره القزويني في آثار العباد وأخبار البلاد) هذا وصف أحد سياح العرب لتلك الدولة التي هي اليوم في أرقى درجات الحضارة.

تنبهت أوربا من رقدتها باختلاطها مع العرب شرقاً في الشام وغرباً في الأندلس فجمعت الزبدة والخلاصة النافعة من مدنية اليونان والرومان وضمت إلى ذلك ما أخذته من احتكاكها بالشرق أيام الحروب الصليبية فتولدت لديها الحضارة. دخل أحد أمرائها في زمن الحرب الصليبية أحد الحمامات في فلسطين (صور أو صيدا) فاستعمل معه الحمامي النورة فاستعجب الأمير من ذلك وخرج في الحال فأتى بامرأته وقال له افعل معها كمافعلت معي. في تلك الأيام كان تعليمهم مبنياً على أسس العرب مثل كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرها مما ترجموه إلى لغاتهم.

كانت هذه الحركة أول مبدأ لترقيهم بعد أن كانوا عبيداً لقليل من السادة وكانت أوربا ملكاً لأفراد من الملوك. كان السكان عبيداً لهؤلاء السادة فإذا بيعت الأرض بيعت رجالها وحيواناتها وكل شيء معها حتى كان للسادات حق التفخيذ أي أن لا تزف العروس حتى يأخذها الرئيس.

فباختلاطهم بأهل الشرق دفعوا هذه الوصمة عنهم وقامت لديهم شبه حكومات ابتدائية في تلك البلاد ثم عثروا على مصنفات اليونان فصاروا يأخذون عنها مباشرة بعد ما كانوا يأخذون عن العرب واستمروا على هذه الحالة لكن هبت عليهم نفحة من الأفكار الصائبة التي اكتسبوها من المسلمين فأخذوا بالتجارة مع القوم ودرس علومهم بإتقان غير أن ضغط الملوك وخصوصاً الباباوات باسم الدين كان سبباً لتفرقهم على بعضهم إذ كان التعصب آخذاً منهم مبلغاً عظيماً. ومع ذلك فقد أوجدت شدة الضغط أفراداً نوابغ كسروا قيود الاستعباد وفكوا أغلال الجمود مجاهرين بالحرية فكان من أجل ذلك ما كان من أمر ديوان التحري القسيسي وواقعة القديس برثلماوس بين البروتستانت والكاثوليك وواقعة صلاة العصر في صقلية حيث قام الناس بعضهم على بعض. ولذلك اضطر أرباب الأفكار الحرة وهم البروتستانت إلى المهاجرة من ألمانيا وفرنسا إلى إنكلترا وهولاندة حيث نشروا العلوم ووسعوا دائرة الأفكار فترقت بهم البلاد وأفاضت المعارف منها على باقي بلاد أوربا.

سعى القوم وراء العلم والمعارف كثيراً فكان ذلك أسهل طريق لتأصيل دعائم التمدن بينهم حتى أن غاليله لما قال بدوران الأرض وأنكروا قوله وحكموا عليه بالإعدام قدم إلى النطع والسيف وهو يقول: ومع ذلك تدور. وكذلك قام في إيطاليا (جوردانو برونو) فأحرقوه بالنار لأنه نشر أفكاراً حرَّة وأما اليوم فكم له في بلاد أوربا من تماثيل لأنه كان من الذين سعوا في تفكيك الرقاب من ربقة الجهل والعبودية.

ثم قام ميرابو بنشر الأفكار الحرة بين الشعب حتى أن الملك أرسل من قبله إلى هذا الحزب رجلاً يقول لهم (اخرجوا من هذه الدار) فأجابوه نحن هنا نواب الشعب بإرادته فلا نخرج إلا بأطراف الحراب وكذلك قام (دانتون) وكان يخطب بالقوم ويقول: من أراد الظفر فعليه بالجرأة والإقدام وليكن شعاره على الدوام الجرأَة والإقدام ـ جاء فولتير وروسو فأقاموا هذا الصرح العظيم فوق ذلك الأساس المتين وكانت إحدى الجمعيات العلمية حينئذٍ اقترحت وضع كتابٍ في الاجتماع والعمران جاعلة مكافأة كبيرة لمن يسبق في هذا المضمار ويجيد في التأليف فألف عندها جان جاك روسو كتابه (عقد الاجتماع) إلا أنه لم ينل الجائزة المعينة وإنما أخذها رجل آخر لأغراض في النفوس لكن الأفكار لم تستنر إلا بهذا الكتاب ولذلك أسبل الدهر ستره على ما سواه.

انتشرت بهذه الوسيلة روح الحرية في فرنسا فكانت سبباً لتقويض أركان الاستبداد ورفع منار الحرية على تلك البلاد وصار كل واحدٍ يقول ما يريد لأن الأفراد أصبحوا أحراراً في أقوالهم وأفكارهم وبذلك بلغت أوربا ما نراه اليوم من التقدم المدهش وخوارق الأعمال.

انتشرت الحرية من فرنسا إلى أمم أوربا فترتب على ذلك وجود المجالس النيابية وهي حكومة الشعب بالشعب التي كانت السبب لرقي دول أوربا كلها. وهم اليوم على هذه الدعامة الإسلامية فالحمد لله الذي أعاد لنا الشورى في هذه الأيام. في تلك الآونة انفسح المجال أمام التجار وبات لهم طريقان طريق من الشرق وهو طريق رأس الرجاء الصالح وطريق من الغرب وهو طريق أميركا لكن بعد الشقة وطول المدة التي تزيد عن سبعة عشر يوماً ألجأتهم إلى فتح ترعة السويس فكانت أكبر ممهدٍ للتجارة وترقيها على ما نشاهده اليوم بالعيان.

ولكن لدينا طريق أهم وأكثر فائدة وهو طريق بغداد فمتى تمت السكة الحديدية في هذا الطريق تعود لنا التجارة. والسكك الحديدية في الأرض كالشرايين في الجسم فإذا لم يجر شريان في البلد كان ذلك سبباً لهدم الحياة فيه وكلما انتشرت السكك في البلاد كان فيها زيادة الخير. من أجل هذا أرجو من أهل الشام وخصوصاً التجار أن يسعوا في هذه البلاد التي هي من أغنى أقطار الدنيا على الإطلاق ولكن تنقصها السكك الحديدية وأناشدهم أن يهبوا للتعاون على تأليف الشركات الوطنية حتى تبقى ثروة البلاد في البلاد ولا يتمتع بها الأجنبي وأنتم منها محرومون. أؤمل كم أهل الشام أن يضعوا الميامين بعضها في بعض لنقل خيرات البلاد إلى البلاد وبذلك ترقي دور التجارة والصناعة وتنال كثيراً من الفوائد دون أن يشترك فيها الأجنبي إلا بما لا مندوحة عنه.

رأَيت القسم الأعظم من التجارة هنا بيد الأهلين فحذار حذار أيها الكرام من أن تذهب من أيديكم وعليكم بالسعي في إصلاح طرق المواصلات كيلا تكون بيد الشركات الأجنبية.

نحن نسمع في مصر أن التفاح في الشام يعطى بصورة علف للدواب لما في سبيل نقله من الصعوبة، نسمع ذلك ونأسف كل الأسف لأننا نستجلبه من البلاد الأخرى بقيمة غالية. فإذا أصلحت طرق المواصلات تجدون مورداً للرزق واسعاً وبه تنالون الفوائد الجسام وتعيدون للشرق مجده إن شاء الله.