الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 37/الشام والحرية

مجلة المقتبس/العدد 37/الشام والحرية

بتاريخ: 1 - 2 - 1909


سادتي الفضلاء

أحمد إليكم الله الذي آخى بينكم فجمعكم في صعيد واحد بعد أن كانت كلمتكم متفرقة وأشكره تعالى الذي جعل لي لساناً ناطقاً في هذه الدار الكريمة المشرقة بأنواركم المتألقة وأتقدم إليكم بالثناء الصادر من صميم الفؤاد على تنازعكم بإجماعكم على طلب مقولة مني في هذا المقام وقد سئمت الكلام فهربت من مصر إلى الشام ولكنني أظن أن الله كتب عليّ الكلام حتّى يوم الحمام فليس من مفر والسلام.

بيد أني أسألكم بالصفح يا نجوم الفيحاء عما تجدونه في محاورتي لكم من التقصير فعذري ظاهر وأنتم أنتم الكرام.

لعل هذه تكون أول محاضرة في ربوع هذه الحاضرة بعد أن هبت عليها نسمات الحرية العاطرة وقد طال عليها الاستعباد. والحرية خلق شريف يجاهر بسلطانها الإنسان بما يريد ما دام داخلاً في حدوده المرسومة له ولا يتعدى على دائرة غيره فلذلك أردت أن أتكلم عن شيءٍ من حضارات الإسلام التي توطدت دعائمها في دمشق الشام وفي دار السلام وفي القاهرة الفاطمية وفي قرطبة الأموية. فلأجدادكم في هذه الحاضرة الباهرة فضلان بدمشق وبقرطبة وأنتم البقية الصالحة لهؤُلاء الأسلاف الأشراف والأمل معقود بكم أن تقتدوا بهم وتزيدوا عليهم كما هي سنة الترقي وكما هو شعار الاتحاد.

فلم يبق لكم عذر بعد اليوم في وضع دعائم النهضة الحديثة بدياركم الشجراء الزهراء وقد كمنت فيكم تلك البذرة الصالحة على ما شاهدته بعيني وخبرته بنفسي.

ألا ترون من الفضول أيها الفضلاء أن يقوم فيكم نزيل من النزلاء ويناجيكم بما أنتم أهله بلا مراء. لعمري هذا منتهى الفضول من الواقف بينكم وهو ضعيف وصوته أضعف لأنه لا يتكلم أمام مائة ألف إذ يعتقد أن كل واحد منكم بألف. فأنتم إن لم يكن لكم عذر بعد اليوم في النهوض بأمتكم وبلادكم فلي ألف عذر في هذا المقام وأنتم أنتم الكرام. خصوصاً إذا اعترفت لكم بأنني من الطائفة الثالثة التي أشار إليها الخليل بن أحمد في قوله أن الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك جاهل فعلموه ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك مائق فاحذروه. لا أريد الافتخار بقولي لا أدري لأنن أرضى بذلك المذهب الذي يزعم أصحابه أن من قال لا أدري فقد دري أصف العلم وإنما أرتضي مذهب إبراهيم بن طهمان الخراساني فإنه ولد بهراة ونشأ بنيسابور ورحل في طلب العلم ونال منه قسطاً وافراً حتى كان له ببغداد جراية فاخرة من بيت المال فسئل يوماً في مجلس الخليفة فقال لا أدري فقالوا تأخذ في كل يوم كذا وكذا ولا تحسن مسألة فقال إنما أخذت على ما أحسن ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال ولا يفنى ما لا أدري. فأعجب أمير المؤمنين جوابه وأمر له بجائزة وزاد في جرايته.

فلذلك أرى في إجماعكم عليّ إلزامي بمحاضرتكم على ما أنا فيه من تشتت البال بالأسفار والحنين إلى الديار إنكم إنما قصدتم أن تشجعوا القائمين بالعمل على إحياء حضارة الإسلام وشد أزر الطالبين للعلم فلذلك امتثلت أمركم لئلا أخرق الإجماع ولئلا أكون شاذاً عن رأي الجماعة وتمثلت بما قاله الخليل أيضاً فقد قال ثلاثة تيسر المصائب سهر الليالي والمرأة الحسناء ومحادثة الرجال. فقد جئت لأحادثكم وأستفيد منكم فأردتموني على الخطابة بينكم فكان مثلي معكم كمن يحمل الصدف إلى عمان ولا أقول الدرر أو كمن يحمل الغرض من علوم الشرق إلى أهل دمشق ولا أقول الجوهر.

سادتي الكرام

مصر والشام توأمان ربطتهما الطبيعة والأخلاق قبل الإسلام وبعد الإسلام بعروة وثقى ليس لها انفصام فلا عجب إذا كانت كل منهما تحن للأخرى وتشاركها بعاطفة الود والقربى فيما يحل بها من سعد ورخاء أو ما ينزل عليها من نحس وشقاء لهذا تروني يا أبناء الأكرمين لا أستغرب منكم هذا الحنين لرجل من أبناء النيل أتاحت له الأيام أن يحل بركابه في أرض الشآم وقد كان آلى على نفسه أن لا يضع قدماً في أرض سورية ولا في غيرها من أرجاء السلطنة لما لاقاه من صنوف الحيف حينما غرر بنفسه في أحد فصول الصيف فولى وجهه شطر قبة الإسلام منذ بضعة أعوام.

أما الآن قد تفككت قيود الاستعباد ودالت دولة الاستبداد وزالت سلطة الفرد وقامت شورى الأمة على أساس ثابت كالجبال الرواسي وأعني به القانون الأساسي فأشرق نور الدستور على الجمهور فقد انفك عنه قسمه وصار في حل من العهد الذي أخذه على نفسه فلم يتمالك من الشخوص في أول فرصة إلى تلك الربوع التي خفقت عليها رايات الحرية في صدر الإسلام فمرحت تحت ظلالها ونالت بها أقصى آمالها ونثرت ثمراتها في الشرق ثم أرسلت فروع هذه الشجرة الزاكية النامية إلى ما وراء البر فصادفت خير مغرس في رياض الأندلس فإن الحرية الإسلامية أينعت لأول مرة في الفيحاء فتأرجحت بأريجها الأرجاء وأنبتت حضارة الإسلام في أرض جلق فازدهى بها المغرب كما اختال بها المشرق.

امتازت دولة العرب القائمة في دمشق على عهد معاوية ومن تلقى صولجانه بنعمة الحرية التامة حتى كانت هذه البقعة المباركة عروس الدنيا وقرارة المجد وكهف الشرف وأشرق سناها على الدنيا من أدناها إلى أقصاها.

غير أن الإنسان جبل على الاندفاع مع التيار وعدم الوقوف عند الحدود فلم تلبث هذه الحرية أن انقلبت إلى الإباحة فصار الناس فوضى وكان رؤوس الدولة أول من أسرف في الإساءة إلى الحرية فتابعتهم الأمة والناس على دين ملوكهم فانهار هذا الملك العظيم وغاضت عيون الحضارة في دمشق التي تزدان على الدهر بعيونها الفياضة.

لذلك أناشدكم الله أن تتعهدوا الحرية التي عادت إلى ربوعكم في هذا العهد السعيد فتحافظوا عليها ولا تفرطوا في العناية بها حتى لا تعود إلى الذبول فكفاكم ما حاق بكم من الخمول بسبب الانحراف عن صراطها المستقيم وهذه نصيحة خالصة أنحضكم إياها يا وجوه العرب لئلا تضيع منكم الحرية بتجاوز الحدود الذي يجعلها إباحة فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وكفاكم موعظة ما قاله مروان آخر الأمويين حينما ضاع ملكه في الشام وفر إلى وادي النيل فالتجأ هو وأهله وشيعته إلى كنيسة في قرية بوصير من صعيد مصر فلحقه المسودة أي جنود بني العباس وشعارهم السواد وكانوا في نفر قليل جداً بحيث كان من أسهل الأمور على مروان ومن معه أن يبيدهم عن آخرهم لولا أن دولته كانت في أدبار ودولتهم في إقبال فلم يمهلوه حتى يطلع النهار فلجأُوا إلى شجر ونخل ثم ناوشوه القتال فخرج إليهم وهو يقول: كانت لله علينا حقوق فضيعناها ولم نقم بما يلزمنا فحلم عنا ثم انتقم منا. ثم فكر في كثرة جيوشه بالشام فقال: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. وذلك أنه كان عندما استفحل أمر بني العباس استعرض جيوشه بالرقة فمر به من العرب وحدهم ثمانون ألف فارس على ثمانين ألف فرس عربي. ثم احتزوا رأسه وأخرجوا أكبر بناته من الكنيسة وهي ترعد فقيل لها لا بأس عليك فقالت أي بأس أعظم من إخراجي حاسرة من حيث لم أر رجلاً قط. ثم أجلسوها ووضعوا الرأس في حجرها. فصرخت واضطربت. فقيل لهم ما حملكم على هذا. قالوا كفعلهم بيزيد بن علي حين قتلوه فإنهم جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي (صاحبة المقام المشهور في القاهرة) ثم أرسلوا الرأس إلى مدينتكم هذه فنصب على باب المسجد الأموي ثم بعثوا به إلى الكوفة فخر السفاح ساجداً لله وتصدق بعشرة آلاف دينار.

هذا الذي قاله مروان شبيه بمقوله هرقل حينما جاء أهل الإسلام وأجلوا الأروام عن بلاد الشام. ركب البحر وهو ينظر إلى الشام ويقول الوداع يا سوريا يا سلام عليك يا سوريا. ويشبه أيضاً قول أم أبي عبد الله آخر سلاطين بني الأحمر بغرناطة حينما أجلاه الإسبنيول عن تلك البقعة الباقية للعرب في ديار الأندلس. فإنه بعد أن سلم البلاد إلى فرديلند وإيزبلا وخرج في حاشيته وأهل بيته. أعاد نظرات كلها حسرات وأرسل رائد الطرف بمزيد الأسف وهو يتلهف على الحمراء فتهاطلت دموعه على خديه فقالت له أمه:

أبك مثل النساء ملكاً مضاعاً ... لم تحافظ عليه مثل الرجال

إن الذكرى تنفع المؤمنين لذلك أردت أن أسرد عليكم هذا النبأ الذي كان فيه ضياع الملك من دمشق ونزولها عن درجتها السامية التي لم تعد لها إلى الآن لئلا يتجاوز الناس حدود الحرية وقد أشرقت عليهم وعلينا في هذا العهد النوراني المجيد فيقعوا في شر أعمالهم كما وقع الأولون والعاقل من إذا مرت به العبرة ازدجر أو قيلت له الموعظة ادكر.

فلقد بلغ ملك بني أمية ما بين قرني الشمس ثم زال لأنهم أساؤا إلى الحرية التي نشروا أعلامها ورفعوا منارها حتى بلغت دولتهم من المجد أعلا ذراه فتقرب إليهم ملك الروم بإرسال مائة عامل من مهرة الصناع وأرسل إليه مائة ألف مثقال من الذهب الأحمر وبأربعين حملاً من الآلات حينما أراد الوليد تجديد الروضة الشريفة والزيادة فيها فبعث بهم إلى واليه عمر بن عبد العزيز فاستخدمهم وأنتم تعلمون ورع عمر بن عبد العزيز الذي لا يشبهه ورع مع ما تعلمون من شدة الخلف بين العرب والروم على امتلاك آسيا الصغرى التي كانت بين الفريقين حاجزاً حصيناً يرد العرب عن امتلاك فروق وهي كانت ولا تزال مطمح الأنظار.

ومما يدل على بلوغ الحرية في دمشق نهاياتها دون أن تتجاوز حدودها أن معاوية كان يمد الأسمطة للعامة ويؤاكلهم وأن الوليد بن عبد الملك بنى في مدينتكم دار الضيافة العامة وهو أول من فعل ذلك في الإسلام وذلك للتحبب إلى الرعية بمخالطتها وتعرف أحوالها وكان الخلفاء يسائلونهم في العلم والسياسة بهذه الوسيلة وها هو التاريخ وها هي كتب الأدب تخبرنا بكثير من الإصلاحات التي حدثت بهذه الواسطة الشريفة التي كانت تربط الأمة بالخليفة وسرت من الأمويين إلى العباسيين فكان الرشيد يجالس الناس على المائدة فكانت حكومة المسلمين في الصدر الأول وفي أيام السلف الصالح أشبه بشيء بالحكومة الديموقراطية أي حكومة الأمة بالأمة كما هو الحاصل الآن في دولتنا العثمانية فلم يكن فيها من القاب الشرف ولا رتب ولا يكون التعظيم إلا بالكنية وهي من المفاخر التي استأثر بها العرب دون سائر الأمم إلى هذا الزمان فكانوا يقولون أبو فلان فإن لم يكن له ولد قيل أبو فلان باسم أبيه هكذا كان الناس في أيام بني أمية مهما بلغت درجاتهم وعلت مناصبهم كما هو الشأن الآن في بلاد الأميركان التي هي بلاد الحرية الحقيقية بأكمل معانيها فليس منهم إلا مستر فلان حتى رئيس الجمهورية فنازلاً من الوزراء إلى كل أرباب الوظائف إلى عامة الناس وكذلك الحال في بلاد سويسرة التي تتفجر منها ينابيع الحرية الصحيحة في أوربا فلا يمتاز فيها ولا في أميركا رجل بأي لقب اللهم إلا باللقب الذي يطابق رتبته في العسكرية فقط. فأما أول من تلقب من الخلفاء فهو عبد الله أبو جعفر وقد غلب لقبه حتى أنني لو اكتفيت بهذه الإشارة عنه لما عرف من هو إلا الأقلون وأما ما ذكرت لكم اللقب الذي اشتهر لعرفتموه لأنه أصبح له علماً في التاريخ وهو المنصور ثاني الخلائف من بني العباس ثم تغلغلت الدول الإسلامية في الألقاب فكثرت وتنوعت وتعددت حتى صرنا إلى ما ترونه الآن فصار الجوهر تغشاه أعراض براقة خلابة ضغطت عليه وطمست معالمه حتى كاد يضيع إن لم نقل ضاع فصرنا ولنا الألقاب نتهافت عليها ونتطلبها من سبيل الحرام أكثر مما نتطلبها من سبيل الحلال بل أصبحنا وعدم الالتقاب هو اللقب فيا حبذا الرجل منا الذي يشابه الحرف عند النحاة فيكون عدم العلامة له هو العلامة.

أما وقد تنبهنا من رقدتنا وأخذنا بأسباب الرجوع إلى الحياة فقد أشار إلى محو الرتب وإلغائها كاتب مجيد في جريدة شوراي أمت التي تطبع بالتركية في عاصمة الإمبراطورية العثمانية فأستميحكم أن أقول كلمة في هذا الموضوع.

فقد جاء الوقت الذي نجاهر فيه بضمائرنا وأميالنا ونقول الحق ونصدع به فقد كان هذا العاجز يقول لكثير من أصدقائه في مصر أنني والله أحب أن أتخلى عن هذا اللقب الذي نلته بجدي واجتهادي ولطالما جاهدت بالتأفف منه استنكافاً منه لأنني أراه فوق قدري ولكن استنكافاً لكثيرين ممن حازوه أو حازوا أعلا منه وهم إنما شروه بفضل الدراهم أو ببعض المساعي الممقوتة. كثيرون من أصدقائي وهم أحياء يرزقون يشهدون لي بأنني طالما تمنيت على الله أن يزول عني هذا اللقب لا بالتجريد فإنه مشين ولكن بالتسليم فإنه شريف بحيث أرجع إلى اسمي أحمد أفندي أو أحمد بن إبراهيم أو أبو إبراهيم أحمد زكي فأتكنى باسم والدي إذ قد جعلني الله في نعمة وافية من عدم الحصول على خلف لي ولكن الآن يجب أن نشير في محو الألقاب بطريقة معقولة مقبولة فلا نلغيها مرة واحدة من الحاصلين عليها لأنهم ربما لا يرضيهم ذلك وهم إن لم يعبروا عن عدم رضاهم جهراً فربما يكون فيهم كثيرون لا يرضون به سراً ونحن في عصر الحرية ينبغي أن نحترم إرادة كل إنسان وأن لا يقتات البعض على البعض ولو في الألقاب. وأحسن وسيلة هي أن لا نسلك في هذا الموضوع شططاً بل نسير فيه سيراً وسطاً وذلك في رأيي هو تخبير أصحاب الألقاب في التنازل عنها فمن رضي فيها ونعمت ولا ريب أن الأكثرين يرضون التجرد من هذه الألقاب التي قد ترهقهم عسراً أما الذين يريدون حفظها فأمرهم إليهم. ولكن الدولة تقرر أنها من الآن فصاعداً تلغي الرتب فلا ألقاب عندها منذ اليوم بحيث لا يأتي زمن طويل حتى تنقرض الألقاب ويبقى الناس كلهم أفندي أو سيد أو خواجه أو شيخ أو أبو فلان وتصبح الأمة كلها سواء تحت هلال الدستور لا يتميز بعضهم على بعض إلا بالعمل النافع للمجموع فتكون الأمة كلها راقية لأن كل فرد يتطلب النبوغ ويسعى إلى التفوق بكده وجده وحسبنا ذلك فخاراً.

بهذه الوسيلة يزداد سواد أهل الفضل في هذه البلاد فيكون لأهل العلم والعمل دلال على أرباب الدولة كما كان لأمثالهم في أيام عز الإسلام فإن الخليل بن أحمد الذي ذكرته في صدر هذه المحاضرة كتب إليه سليمان بن علي الهاشمي يستدعيه لتعليم ولده بالنهار ومنادمته بالليل وبعث إليه بألف دينار ليستعين بها على حاله فأخرج للرسول زنبيلاً فيه كسر بالية وقال: إني ما دمت أجد هذه الكسر غني عنه وعن غيره ورد الألف دينار على الرسول وقال أقرأ على الأمين السلام وقل له أني قد ألفت قوماً وألفوني أجالسهم طول نهاري وبعض ليلي وقبيح بمثلي أن يقطع عادة عودها إخوانه وإني غنيّ عنه وعن غيره وكتب إليه بهذه الأبيات:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال

وأن بين الغنى والفقر منزلةً ... معروفة بجديد ليس بالبال

سما بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال

والفقر بالنفس لا بالمال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

والرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال

والخليل هذا كان يقسم الأيام إلى ثلاثة: معهود ومشهود وموعود وكان دائماً يتمثل بقوله:

يكفيك من دهرك هذا القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت

ولم ينفرد الخليل بهذه المزية الفاخرة في التكبر والدلال على أهل الدولة وأرباب المال فأمثاله كثيرون أذكر منهم من يحضرني ذكره في هذا المقام فمنهم حماد بن أبي سلمة دخل عليه مقاتل بن صالح الخراساني فإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه وبيده مصحف يقرأُ فيه وبجانبه حراز فيه علمه ومطهرة يتوضأُ فيها. قال مقاتل فبينا أنا عنده جالساً دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا قالت: رسول محمد بن سليمان قال قولي له يدخل وحده فدخل فناوله كتاباً فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن سليمان إلى حماد بن أبي سلمة أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فإنا نسألك عنها والسلام.

فقال يا صبية: هلمي بالدواة. ثم قال لي اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت صبحك الله بما صبح أولياءه وأهل طاعته. إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً فإن كانت وقعت مسألة فأتنا وسلنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي والسلام.

فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي انظري من هذا قالت: محمد بن سليمان قال: قولي له ليدخل وحده فدخل فسلم ثم جلس بين يديه. فقال مالي إذ نظرت إليك امتلأت رهباً قال: سمعت عن ثابت الغسائي عن مالك أن رسول الله قال: أن العالم إذا أراد وجه الله هابه كل شيء فإذا أراد أن يكنز الكنوز هاب كل شيءٍ. فقال أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه قال ارددها على من ظلمته قال: والله ما أعطيك إلا ماورثته قال: لا حاجة لي فيها ازوها عني زوى الله عنك أوزارك قال فتقسمها قال فلعلي أن عدلت أن يقول بعض من لم يرزق منها لم يعدل ازوها عني وزى الله عنك أوزارك.

هذه السنة الصالحة انتشرت بين علماء المشرق فارتقت بهم الأمة وكان لها شأن كبير لأنهم كانوا يطلبون العلم للعلم وقد انتشرت هذه السنة الحميدة في عامة أمصار الشرق وشاعت أيضاً في بلاد الأندلس حتى في أيام تقهقرها. فقد ألف أحد العلماء الأندلسيين كتاباً في اللغة فبلغ ذلك مجاهداً العامري صاحب الجزائر جزائر ميورقة ومنورقة المعروفة الآن بجزائر الباليار فوجه للعالم بألف دينار وبكسوة وخلعة وتحف كثيرة وطلب منه أن يتكرم بوضع اسمه في صدر الكتاب وأنه ألفه برسمه. فرد المال وهو في حاجة إلى أقله وقال: كتاب صنفته لله ولنفع الناس لا أفرده لواحد منهم. ويقرب من هذا مالك من دينار فإنه ترفع عن الملوك ونصح اللصوص. دخل اللصوص داره فلم يجدوا شيئاً يسرقونه. ولما هموا بالخروج قال لهم ماذا عليكم لو صليتم ركعتين فتابوا وأنابوا وقد كان لهذه السجية في مصر شأن كبير فلا أحدثكم إلا بحادثة واحدة من هذا القبيل. فأنتم تعلمون من هو شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقد كان أهل الدولة يتسابقون إليه ويقبلون عليه وهو عنهم معرض أيما إعراض. مع أنه كان يقتات بقشور البطيخ الملقاة في الطريق ولا يكفيه النهار للدوس وليس لديه شيءٌ من الدنيا يقتني به مصباحاً لنفسه فكان يأخذ الكراريس ويدرس على ضوءِ القناديل المعلقة على أبواب البيوت.

وأمثال شيخ الإسلام كثيرون في مصر وغير مصر يطول بذكرهم المقام وربما كان في إيرادها ما يدعو إلى الملل والسآم غير أني أستميحكم الآن في ذكر نادرتين وأقول نادرتين لأنه بعد ذلك السلف قد خلف من بعدهم خلف فصار شمم العلماء وترفعهم بعلمهم في هذا الزمان الأخير كالكبريت الأحمر بل هو أندر.

فالأولى تقضي عليّ صلة الرحم أن أغتنم هذه الفرصة لإذاعتها ولست أخشى تكذيباً لها لأن الذين رأوها أو علموا بها علم اليقين لا يزالون أحياء يرزقون وهم في مصر كثيرون.

وذلك أن جدي لأمي الشيخ ابراهيم سويدان حضر إليه برشيد والي مصر عباس الأول وقد انتهى إليه عمله وصلاحه وزهده وانعطافه على المساكين فأعطاه مالاً كثيراً فلم يرضَ فألح عليه وقال له أهل البطانة خذ هذا المال فإنه حلال وهو يساعدك على نفع المساكين فامتثل بشرط أن يضع الأمير المال في كمه فرضي الوالي وأخذ جدي المال فطاف به في الأسواق يفرقه بواسطة غلامه على هذا وذاك حتى فرغ المال كله ثم ذهب إلى النيل فغسل هذا الكم الذي لامسته دراهم الوالي.

وأما الثانية فهي معلومة لكم جميعاً وهي واقعة بينكم هنا وبيننا في مصر. ذلك أستاذ الشام على الإطلاق العلامة الشيخ طاهر الجزائري فهو يضم بين طمريه العلم الجم والخلق الأشم. أنا لا أدري كيف يعيش هذا الرجل في بلد مثل مصر قد اشتد فيه الغلاء حتى شكا منه الأغنياء وقد بذلت ما في وسعي كما يعلم الأستاذ كرد علي صاحب المقتبس وأمام المقتبسين ورب هذا البيت الكريم في أن يناله شيءٌ من الأوقاف الخيرية على أن يكتب عريضة لذوي الحل والعقد وقد تلطفت معه كثيراً بواسطة رب هذه الدار فلم يرض إلى الآن. فماذا أقول عن هذه البقية الصالحة. لا أقول سوى كلمة واحدة تخرج من صميم الفؤاد بحب وإخلاص فليعش الشيخ طاهر الجزائري هذه الحرية وهذا الشمم هما جرثومة من ذلك الماضي المجيد وقد صادفت في عصر الدستور المنير أرضاً خصيبة فلعلها تتأصل في نفوسنا ونفوس الناشئين ليكون لقومنا ما كان للأسلاف من العز الذي ضرب رواقه في المشرقين وفي المغربين.

هذه الحرية هي التي جعلت الأخلاف من بني أمية يحتملون الكلم الشديد والقول المر من العلويين ومن سائر الناس. لو فرضنا أن احتمالهم للعلويين كان من قبيل المداراة ومن باب المحافظة على الملك فماذا نقول عما سجله التاريخ من معاملتهم للعامة. أفليس أبو صخر الشاعر الخزاعي المشهور بكثير عزه هو الذي كان يجاهر بالتشيع لعلي وبنيه وقد كانوا يسبونه على المنابر بأمر الخلفاء الأمويين. أفليس هو الذي قام في يوم من الأيام فصعد المنبر في بيت الله الحرام وأخذ بأستار الكعبة وقال:

لعن الله من يسب علياً ... وبنيه من سوقة وإمام

أيسب المطهرون أصولاً ... والكرام الأخوال والأعمام يأمن الطير والحمام ولا يأمن آل الرسول عند المقام

فأنزلوه من المنبر وأثخنوه ضرباً بالنعال وغيرها فقال:

إن امرأً كانت مساوئه ... حب النبي لغير ذي عتب

وبني أبي حسن ووالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب

أترون ذنباً أن أحبهم ... بل حبهم كفارة الذنب

ومع أنه سب الإمام جهاراً وفي الكعبة وضربه القوم خوفاً من الخلافة فقد دعاه عبد الملك ليستوزره ثم ازدراه لدمامته وقال تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال كثير: مهلاً يا أمير المؤمنين فإنما الرجل بأصغريه قلبه ولسانه فإن نطق نطق ببيان وإن قاتل قاتل بجنان ثم أنشد:

وجربت الأمور وجربتني ... فقد أبدت عريكتي الأمور

وما تخفى الرجال عليّ إني ... بهم لأخو مثابته خبير

ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد مزير

ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير

وما عظم الرجال لهم بزين ... ولكن زينها كرم وخير

بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاة نزور

لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير

فيركب ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرف لديه ولا نكير

فناشده عبد الملك الأشعار في الإخوان ثم قال: إن كنا أسأنا اللقاء فلسنا نسيء الثواء. حاجتك. قال: زوجتي عزة فأراد أهلها على ذلك فقالوا: هي بالغ وأحق بنفسها فقيل لها فقالت: أبعد ما شبب بي وشهرني في العرب ما لي إلى ذلك سبيل ولعلها أحسنت في التنصل والاعتذار وتلطف فلم تذكر أن سبب امتناعها هو دمامة خلقه.

وبقي كثير مع تشيعه للطالبين مرعي المقام نافذ الكلمة على خلفاء بني أمية مع أنه سبهم ولعنهم في البيت الحرام فإن يزيد بن عبد الملك حينما جاؤا إليه بأسارى بني المهلب أمر بضرب أعناقهم وكان من حسن حظهم أن الأمر صدر بحضرة كثير فقام وأنشأ يقول:

فعفواً أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب أساؤا فإن تعفوا فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب

هذه الحرية التي اشتهرت بها الدولة الأموية في دمشق هي التي جعلت الناس أحراراً في أعمالهم وفي اعتقاداتهم فقد كان كثير هذا يقول بالرجعة على مذهب الهنود ويخالف الملة الإسلامية كلها في ذلك كما كان يخالف سنة الدولة ويتشيع لعلي ولكن الخلفاء عرفوا فضل الحرية فتركوا الناس يعتقدون كما يشاؤون ويكتفون منهم بتوحيد الكلمة من جهة السياسة.

إنني أيها السادة أرى الدين لم يخلق إلا ليقرب المخلوق من الخالق فلا يمكن ولا يجوز أن يكون الدين سبباً في ابتعاد المخلوق من المخلوق فالدين لله وللأمة الوطن فعلينا أن نتمسك بعروة الوطن ليعود لأمتنا فخارها السابق وتكون لنا منزلة سامية بين الخلائق. وقد بدت علينا علائم هذه النعمة المباركة فالواجب يقضي بتعهدها وإنمائها ليكون المسلم والمسيحي والإسرائيلي أخوة في الوطن فإنهم أخوة في الإنسانية أبوهم آدم والأم حواء أفنكون في هذا العصر الزاهر أقل احتمالاً وتسامحاً من أجدادنا الكرام في صدر الإسلام فقد وسعت صدورهم أهل الملل والنحل ووضعوا أيديهم في أيدي بعضهم بعضاً فكان منهم سور منيع لحفظ الدولة ورفع راية الوطن.

هذا صدر الدولة العربية قد وسع كثيراً من أمثال كثير وقد كان يقول بالتناسخ والرجعة ومع تشيعه كان يخالف جمهور أهل الشيعة فكان مخالفاً لأهل السنة ولأهل الشيعة ومع ذلك كان له في الدولة العربية ذلك المقام الكريم. كان يقول بإمامة محمد بن الحنيفة وأنه أحق من الحسن ومن الحسين ومن سائر الناس وأنه حي مقيم بجبل رضوى لا يموت. وكان يقول عن نفسه أنه يونس بن متى بمعنى أن روح هذا الذي التقمه النون نسخت فيه فصار هو هو. ولقد سأل يوماً ماذا تقول الناس عنه فقيل يقولون إنك الدجال فقال إني لأجد في عينيّ ضعفاًَ منذ أيام (إشارة إلى أن الدجال أعور كما يقال) وحينما حضرته الوفاة كان يقول لا تبكوا عليّ لأني بعد أربعين يوماً أرجع إليكم.

كل هذه الأقاويل لم تمنع الناس عن القول حينما مات هو وعكرمة في يوم واحد بعد الظهر: لقد مات أفقه الناس وأشعر الناس.

لم يكن كثير وحيداً في القول بالرجعة والتمتع بالحرية في الرأي فقد تمسك بمذهبه بعده كثيرون منهم السيد الحميري الشاعر المجيد وهو أبو هاشم اسمعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة كان يقول أيضاً بإمامة محمد بن الحنيفة وأنه لم يمت بل هو مقيم بجبل رضوى وقال في ذلك:

إلا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما

أضر بمعشر والوك منا ... وسموك الخليفة والإماما

فعادوا فيك أهل الأرض طرا ... مقامك فيهم ستين عاما

وما ذاق ابن خولة طعم موت ... ولا ذاقت له أرض عظاما

لقد أمسى بمورق شعب رضوى ... تراجعه الملائكة الكراما

هدانا الله إذ حزتم لأمر ... به ولديه نلتمس التماما

تمام إمامة المهدي حتى ... يروا آياتنا تترى نظاما

وكان الحميري يشرب الخمر جهاراً ويقول بالرجعة ليلاً ونهاراً. قال لرجل تعطيني ديناراً بمائة دينار إلى الرجعة قال إن وثقت لي بمن يضمن لي أنك ترجع إنساناً إنما أخشى أن ترجع كلباً أو خنزيراً فيذهب مالي.

هذه الحرية في الفكر والاعتقاد كانت لذلك السيد الحميري في أيام الأمويين فلما دالت الدولة وتغيرت الأيام وانتقل الملك إلى بني العباس بقي الرجل على حريته في نحلته ولم يعارضه أحد من أهل الدولة الجديدة لأن الحرية كانت شعار الدولة العربية فإن انتقل السلطان من بيت إلى بيت فالحرية ثابتة الدعائم هنا وهناك والناس بفضلهم لا بمذهبهم ورأيهم. انظروا إلى السيد الحميري ودلاله على أهل الدولة الناشئة كما كان لأمثاله في الدولة البائدة ذلك لما استقام الأمر لأبي العباس السفاح خطب يوماً فأحسن في خطبته. فلما نزل عن المنبر قام إليه السيد الحميري فأنشد:

دونكموها يا بني هاشم ... فجددوا من آيها الطامسا

دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا

دونكموها لأعلا كعب من ... أمسى عليكم ملكها نافسا

خلافة الله وسلطانه ... وعنصراً كان لكم دارسا

لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا

والملك لو شور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا فقال له السفاح: سل حاجتك فقال ترضى عن سليمان بن حبيب بن المهلب وتوليه الأهواز فكتب له منشوراً بالولاية ودفعه إليه فأخذه وقدم به على سليمان بالبصرة فلما وقعت عينه عليه أنشده:

أتيناك يا قرم أهل العراق ... بخير كتاب من القائم

أتيناك من عند خير الأنام ... وذاك ابن عم أبي القاسم

أتينا بعهدك من عنده ... على من يليك من العالم

يوليك فيه جسام الأمور ... فأنت صنيع بني هاشم

فقال له سليمان شريف وشافع ووافد وشاعر ونسيب سل حاجتك فقال:

سأحكم إذ حكمتني غير مسرف ... ولا مقصر يا ابن الكماة الأكارم

في أبيات طلب بها جارية فارهة جميلة ومن يخدمها وبدرة ومن يحملها وفرساً رابعاً وسايسه وتختاً من صنوف الثياب وحامله قال قد أمرت لك بجميع ما سألت ولك عندي في كل سنة مثله.

هذه هي الحرية التي جعلت هشاماً الخليفة الأموي يعطي الكميت وقد أنشده مائة ألف درهم وقد كان الكميت مجاهراً بحب العلويين وبذم الأمويين.

هذه هي الحرية التي أشرقت اليوم شمسها على دولة آل عثمان وهي التي نرجو بها ارتفاع الدولة ومجد الوطن لا نفرق بين دين ودين ولا نعرف شيئاً آخر سوى أننا نستظل كلنا براية الهلال.

فحذار حذار من التهاون بها أو الاستهتار في سبيلها حتى لا تعود تلك الأيام السود وما فيها من ظلم وظلام.

إن الأمة العثمانية قد أثقلتها المظالم وأخنت عليها يد الاستبداد حتى كادت تقضي عليها ولكن العناية الربانية تداركتها بنفحة من نفحات الحرية فعادت إليها الروح ودب في جسمها الانتعاش فظهرت بهذا المظهر البديع الذي يعجب به من في الأرض ومن في السموات. فاحرصوا يا رعاكم الله على الحرية فإنها ملاك السعادة.

إياكم ثم إياكم أن تنقلب هذه الحرية إباحة فتتدهور الأمة في هاوية ليس لها قرار.

يقولون أن هذا الانقلاب سلمي لم تسفك فيه قطرة من الدماء. نعم ولكن المقامات التي أوصلت الأمة العثمانية إلى هذه الغاية المجيدة كانت محفوفة بالحبس والكبس. بالتشريد والتجريد. بالإحراق والإغراق. بالتيتيم والتلطيم.

أفلم يكن في هذه الشناعات وفي تلك الدماء الزاكيات وفي ذلك الصراخ الذي بلغ عنان السماوات ما يكفي لشراء هذه الحرية الثمينة بأغلى الأثمان يا آل عثمان.

وفي هذا المقام أتقدم إلى أهل الأدب منكم وكلكم أهل الأدب في تدوين تلك الحوادث التي هي أشبه بالخرافات لأنها لا تكاد تدخل في دائرة المعقولات دونوها ولكن بالصدق والإخلاص ليعرف المعاصرون لكم والناشئون بعدكم أنكم اشتريتم هذه الحرية بأغلى الأثمان ودونوا هذه النكت وتلك النوادر مع الأمانة والصدق حتى لا تنعكس النتيجة فكل شيء جاوز الحد انتهى إلى الضد. لا تكتفوا بروايتها فإن الذاكرة أصبحت في هذه العصور ضعيفة والمطالب كثيرة وإنما هو التدوين عرفنا به مفاخر الأولين وإن كان لم يصل إلينا منه إلا القليل. أصبحنا في عصر تشعبت فيه المعارف وكثرت أمامنا الحاجيات فلا مناص لنا من التدوين الذي يحفظ الحوادث للدهور الآتية والأجيال المستقبلة.

نعم نحن في حاجة إلى تدوين كل شيء إذ قد صار من المستحيل علينا أن نضارع الحفاظ الذين اشتهرت بهم حضارة الإسلام. بل أين لنا لن نكون مثل عامر بن شراحيل أو ابن إدريس الشافعي أو ابن حزم الظاهري وأمثالهم ممن يعدون بالألوف هذا عامر بن شراحيل كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته وما أحببت أن يعيده عليّ. وما أدري شيئاً أقل من الشعر ولو شئت لأنشدتكم شهراً ولا أعيد ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان عالماً. وهذا الشافعي يقول:

علمي معي حيثما يممت ينفعني ... صدري وعاءُ له لا بطن صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق

وهذا ابن حزم الظاهري الأندلسي أحرق القوم تواليفه فقال:

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل أن أنزل ويدفن في قبري

ومع ذلك فقد دون الناس من أجدادنا في كل فن وفي كل شيء حتى أننا بفضل القليل الذي خلص إلينا من مدونات الأقدمين عرفنا أموراً خصوصية لا يمكننا أن نبدي شيئاً مما يماثلها في عصرنا هذا فمثال ذلك أننا عرفنا أن السيدة سكينة المدفونة بمصر القاهرة كان مهرها ألف ألف درهم (خمسين ألف ليرة فرنساوية تقريباً) وعلمنا أنها ولدت الرباب فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول ما ألبسها إياه إلا لتفضحه. وكان مجلسها بالمدينة كعبة للأدباء والشعراء وأخبارها معهم أشهر من نار على علم وخصوصاً مع الفرزدق.

هذا من الأمور الخصوصية الداخلية وأما الأمور العمومية فقد علمنا منها مثلاً أن الخليفة الأموي هشام كان إذا صلى الغداة بجامع دمشق فلول من يدخل عليه صاحب حرسه فيخبره بما حدث في الليل. ثم يدخل عليه موليان له مع كل واحد منهما مصحف فيقعد أحدهما عن يمينه والآخر عم شماله حتى يقرأ عليهما جزأه ثم يقومان فيدخل الحاجب فيقول فلان بالباب وفلان فيقول ائذن فلايزال الناس يدخلون عليه حتى إذا انتصف النهار وضع الطعام ورفعت الستور ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه قاعد خلف ظهره فيقوم أصحاب الحوائج فيسألون حوائجهم فيقول لا ونعم والكاتب خلفه يوقع ما يقول حتى إذا فرغ من الطعام وانصرف الناس صار إلى قائلته فإذا صلى العصر دعا بكتابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس فإذا كانت العشاء الآخرة ثم اختلى بسماره من رجال العلم والأدب.

واتفق أنه بعد أن صلى العشاء الآخرة وأقبل سماره كعادتهم جاءه الخبر بأن خاقان ملك الترك خرج بأرمينية فنهض في الحال وحلف لا يؤويه سقف حتى يفتح الله عليه.

بمثل هذا التدوين عرفنا أيضاً كيف كان الخليفة العباسي يجلس للناس ويشتغل بأمور الدولة فقد كان المنصور العباسي مثلاً يشتغل صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات وشحن الثغور والأطراف والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف وشاور سماره وكان ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدام وسائر المأكولات. ويحيطونه علماً بكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم وبما يرد إلى بيت المال وعلى العموم بما يتجدد من الحوادث في دائرة إدارتهم. فينظر في كتبهم بعد صلاة المغرب فإن رأى تغيراً في الأسعار كتب إلى العامل يسأله عن العلة ومتى ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله. وإن شك في شيءٍ مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك فإن أنكر شيئاً كتب إليه يوبخه ويلومه فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فتوضأ وتبوأ المحراب حتى يطلع الفجر فيعود إلى عمله في الأمس.

ومشى العباسيون على هذه السنة حتى أن المعتصم عندما جلس مع سماره في أواخر الثلث الأول من الليل ومعه كأس يشربها قال أحد سماره: أنه سمع من رجل قادم من الثغور ثغور الروم أن في عمورية امرأة مسلمة في الأسر قالت وامعتصماه فختم على الكأس وقام من فوره وأخذ الجند حتى استولى على عمورية وخلص الأسيرة ثم شرب كأسه.

ومثلهما المنصور بن أبي عامر في الأندلس فقد بلغه أن بأرض الجلالقة أسيراً يستنجد به فقام من مجلس سمره لا يلوي على شيء حتى فتح تلك الحصون وخلص الأسير.

بهذه العناية من العلماء على طلب العلم ومن الرؤساء على حفظ بيضة الدولة كان للأمة الإسلامية مقام كبير حتى إذا ما تولاها التراخي فأهملت شؤونها سقطت إلى الحضيض. أما وقد رأيناها وهي تتأهب بفضل الدستور وفي ظل الهلال المنير لاسترجاع مجدها فقد وجب علينا أن نتعاون قلباً وقالباً على العمل فيما يرفع شأنها فبإعمال الإفراد يرتقي المجموع وترتفع منزلة الدولة.

وكيف لا نصل إلى هذه الغاية من أيسر طريق وفي أقرب وقت وقد رجعت دولتنا إلى السنة القديمة المجيدة تلك السنة التي قامت بفضلها الدولة العربية في أبهى المظاهر وأبهر المناظر ـ تلك السنة يا سادتي هي سنة الشورى التي أمر الله بها المسلمين وقامت بها دولتهم فعنت لها المشارق والمغارب.

فإن الدين الإسلامي يأمر بالشورى فإذا نظرنا إلى التاريخ نجد أن دولة الإسلام بعد أن ذهب صاحب هذا الدين إلى الرفيق الأعلى قد قامت بالشورى وبالمبايعة من الجماعة فقد اتفقوا كلهم على أبي بكر ثم تسلسلت الحوادث وصارت الخلافة ملكاً عضوضاً يتوارثها الأبناء أو الأعمام أو أبناء الأعمام في الشرق والغرب في دمشق وفي بغداد وفي القاهرة وقرطبة في المغرب الأقصى وفي القسطنطينية يتوارثونها بالبيعة ولكنها بيعة مزدوجة تكون أولاً من الخاصة الذين يتفقون على الخليفة ثم من العامة الذين يقرون على ما أقره الخاصة ولا نجد لذلك استثناء إلا في دمشق فإن عمر بن عبد العزيز بعد أن جاءته الخلافة عفواً تنازل عنها وقصة ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما مرض كتب كتاب العهد لابنه أيوب ولم يكن بالغاً فرده عن ذلك رجاء ابن حياة فقال له ما ترى في ابني داود فقال له بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت فقال فمن قال رأيك يا أمير المؤمنين قال ما ترى في عمر فقال أعلمه والله صالحاً فاضلاً خيراً فقال إن وليته ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه فكتب له وجعل من بعده يزيداً أخاه وختم الكتاب وأمر بجمع أهل بيته فقال لهم هذا عهدي فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا على من فيه فغفلوا. فجاء عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حياة فقال يا رجاء قد كان لي عند سليمان حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إليّ من هذا الأمر شيئاً فإن كان فأعلمني أستعف فقال رجاء والله لا أخبرك بحرف واحد فمضى. ثم جاءه هشام فقال لي حرمة وعندي شكر فأعلمني فقال لا والله لا أخبرك بحرف فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من. ثم جددت البيعة ومات سليمان. فقرأ رجاء بن حياة الكتاب فلما ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام والله لا نبايعه. فقال له رجاء والله إذن اشرب عنقك. قم فبايع. فقام يجرر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه هذا الأمر وعمر يسترجع إذ وقع فيه. ثم جيءَ بمراكب سليمان بن عبد الملك مراكب الخلافة فقال عمر قربوا إليّ بغلتي ثم خطب فقال: أيها الناس قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني ولا مشورة وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين تلي أمرنا باليمين والبركة. فقال أوصيكم بتقوى الله خلف من كل شيء ليس من تقوى الله خلف وبعد أن أتم خطبته نزل فدخل داره فأمر بالستور فهتكت وبالثياب التي كانت قسطاً للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال. ولما بلغ الخوارج سيرته وما رد من المظالم قالوا ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.

وقد حدثنا التاريخ بأن عمر بن عبد العزيز اشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير فأرضاهم وجعل لدولته سداً منيعاً دونهم فكانت أيامه كلهاً سلاماً في سلام فانظروا إلى ما جرى في هذه الأيام فقد قامت النمسا بالتهام البوسنة والهرسك غنيمة باردة وبغير ثمن فهل عندها مائة ألف أسير أو أسير واحد فقط.

ولعمري ما كان أغناها عن الدخول في هذه الورطة التي أوقعت نفسها فيها بلا طائل ولا فائدة معجلة أو مؤجلة ظاهرة أو باطنة لأنها تحتل هاتين الولايتين بمقتضى معاهدة برلين فأي فائدة لها في هذا التملك الذي لا يرضى به حر عاقل أو ذو ضمير حي ولذلك قابلتها الأمة العثمانية بحرب سلمية ولكنها كانت على النمسا شراً من امتشاق الحسام تلك هي المقاطعة التجارية التي نرى آثارها في طول البلاد وعرضها هذه المقاطعة ليست من مستحدثات هذا الزمان فإن أول من سنها هو نبي الإسلام عليه السلام. فقد غضب على رجل من أهل المدينة فأمر الناس بمجافاته فما كان أحد يتعامل معه على الإطلاق ولا كان أحد يقرؤه السلام حتى تاب واهتدى فعسى أن تكون النتيجة في هذه الأيام الأخيرة مثل ما كانت في تلك الأيام الأولى وليست المقاطعة هي السنة الشريفة الوحيدة التي أحياها بنو عثمان في هذا الزمان.

فإننا إذ تصفحنا التاريخ وجدنا أن الدول تقوم على ربوات من الجثث والهامات وإذا اقتصرنا على ذكر الإسلام نرى أن دولة الأمويين قامت بالسيف والنار فحروب صفين وغيرها معلومة للخاص والعام وكل الناس يعلمون أن الحجاج قتل 120 ألف نفس في توطيد دعائم الدولة المروانية. كذلك دولة العباسيين قامت على قتل الأمويين وقد سفك أبو مسلم الخراساني دم 60 ألف إنسان. وكذلك دولة الأمويين في الأندلس قامت على أطلال الحرب وأشلاء القتلى. ومثل هذا وقع بمصر حينما دالت دولة الفاطميين فإن صلاح الدين رحمه الله وأكرم مثواه اضطر بحكم السياسة لارتكاب هذا الأمر ولكنه تلطف فلم يدع للوم سبيلاً وذلك أن حبس الفاطميين والفاطميات في قصر كبير ومنع الرجال عن النساء وصبر عليهم حتى قضوا نحبهم حتف أنفهم. وكذلك حدث في القاهرة حينما تبوأَ محمد علي سريرها فإنه أخذ في مداراة المماليك واكتساب ثقتهم فلما أعيته الحيل اضطر لإبادتهم في وقعة القلعة المشهورة. هذه الأمثال وقد ذكرت منها القليل تدلنا على صحة قولهم أن الملك عقيم وأن تأسيس الدول لا يقوم إلا على الدماء. حتى جاءت هذه الأيام فرأينا دولة الشورى قد قامت بسلام على سلام في سلام فعليها ألف تحية وسلام.

لعمري إنها معجزة غريبة في بابها. نعم رأينا معجزة المعجزات فكيف لا نصدق بما رواه لنا التاريخ من المعجزات.

بلاد الشام هي موطن المعجزات ففيها قام الأنبياء. بلاد العرب كانت لها أكبر معجزة بظهور أحمد. بلاد أوربا وأميركا جاءتنا بمعجزات العلوم والصناعات والفنون. بلاد اليابان في أقصى الشرق كانت لها في هذه الأيام نهضة تفوق المعجزات. فلم يبق إلا آل عثمان وكأنهم عجزوا عن المعجزات حتى أتونا بالأمس بمعجزة هي نهاية ما يصل إليه أهل الأرض فقيامهم بإقامة دولة الشورى هو معجزة المعجزات.

لذلك حضرت إليكم لأهنئكم أيها السادات بمعجزة المعجزات. بأعجوبة الأعاجيب وإنني أرجو لدولتنا بقاء ليس له انتهاء والسلام عليكم ورحمة الله.