مجلة المقتبس/العدد 3/مكتبة الإسكندرية
→ صدور المشارقة والمغاربة | مجلة المقتبس - العدد 3 مكتبة الإسكندرية [[مؤلف:|]] |
مصر ← |
بتاريخ: 24 - 4 - 1906 |
زعم بعض متأخري المؤرخين أن عمر بن الخطاب (رض) أوعز إلى عمرو بن العاص لما فتح المسلمون مصر أن يحرق مكتبة الإسكندرية وكان فيها مؤلفات الحكماء الأقدمين فانقطع بذلك سند العلوم والصنائع والاختراعات التي عرفت وبعبارة ثانية محيت المدنية القديمة وعاد العالم في جهالة جهلاء. مسألة شغلت بال الباحثين والمفكرين. وقد ألف أحد أفاضل الأستانة محمد منصور كتاباً بالتركية سماه مكتبة الإسكندرية وذلك عقيب مناقشة دارت بينه وبين بعض كتاب تلك العاصمة في إحدى المجلات العلمية التركية منذ نحو أربعين سنة. فتصفحت الكتاب وعربت بعض صفحاته المتعلقة بحريق هذه المكتبة وهاك ما قاله ملخصاً:
هلك اسكندر المكدوني فانقسمت مملكته بين قواده واستولى على مصر بطليموس سوتير وكان محباً للعلوم والمعارف وإذ رأى تفرق حكماء اليونان ايدي سبا بما دهم بلادهم من زوال العلم وعفاء المدنية دعاهم إلى حماه فأتوه ومعهم بقايا من الكتب المنوعة فأحسن وفادتهم ووفادتها وأقام لحفظ هذه المصنفات مكتبة بالقرب من معبد السرابيوم علوها مائة قدم وهي قائمة على جبل صناعي وسط مدينة الإسكندرية. وروى بعض المؤرخين أن هذا الملك أحدث في قصره مكتبة أخرى جعل في الأولى أربعمائة ألف مجلد وفي الثانية ثلاثمائة ألف.
ولقد ظلت مكتبة الإسكندرية بعناية بطليموس وأخلافه مرجع أهل العلم وكهف حفدة المعارف إلى سنة سبع وأربعين ق. م وقد أبدى مالتابرون في جغرافيته والمجمع العلمي الذي ألف في فرنسا للبحث عن الأبنية القديمة الدائرة وجغالديغي في تاريخه العام وسائر كتب تواريخ رومية الأسف الكثير لحريق هذه المكتبة برمتها عقيب فتنة نشأت من افتتان أحد قياصرة رومية بملكية مصر كليوباترة المشهورة بجمالها وذلك لما استحال حكم رومية إلى الملوكية وأخذ القيصر يطارد عدوه بومبيس حتى بلغ الإسكندرية وهنا جرى بينه وبين كليوباترة أمور أدت إلى إحراق تلك الكتب المنوعة التي بذل النفس والنفيس في استجلابها منذ تأسيس المكتبة إلى أن نعق في أرجائها غراب الدمار.
واختلفت روايات المؤرخين في عدد أسفار هذه المكتبة وأكد بعضهم أن الكتب التي أثرت عن حكماء اليونان وحدهم تبلغ سبعة آلاف مجلد وهو عدد فيه نظر إذا أحصينا ما تنتجه كل مملكة على حدتها في أوربا لهذا العهد من المصنفات على انتشار الطبع والورق وتوفر أسباب التأليف توفراً لم يسبق له نظير في تاريخ العالم. وأن معظم حكماء اليونان اشتهروا عند بعض المؤرخين على حين لم يؤثر عنهم كتاب ما. وعليه فبعيد عن التصديق ما يدعى بوجود مليون كتاب في مكتبة الإسكندرية. ولو كان الأمر على ما ذكروا لاقتضى لكل حكيم من حكمائهم أن يؤلف ثلاثين أو أربعين كتاباً وهو محال.
عرفت كيلوباترة أن لها يداً في إحراق مكتبة الإسكندرية فأعادت بناء المكتبة تكفيراً عن سيئاتهم وجعلت في هذه الخزانة مكتبة برغمة التي أهديت إليها وكان فيها مائتا ألف مجلد في رواية. وبعد قليل استولى الرومان على مصر فاشتد ضغطهم على أهلها جرياً على عاداتهم القديمة فسقط عمران الإسكندرية في أوجز مدة ثم اشتغل أكثر الأهلين بحل المسائل الدقيقة من الدين المسيحي الذي كان ظهر في جوار تلك البلاد. واستحالت الحال فبطلت العلوم وانقطع تدريسها في الإسكندرية بالمرة.
واحتفظت دولة الرومان بالعاديات والمصانع التي وجدت في البلاد المتغلبة عليها في أوربا وآسيا وإفريقية إلى سنة 390 للميلاد أي قبل الهجرة بمائتي سنة تقريباً. بيد أن تيودوس أحد قياصرة الرومان ارتأى لجهله وتعصبه أن لا يبقى في المملكة الرومانية غير الدين المسيحي وأن تلغى سائر الأديان والمذاهب فاستولى على المعابد وضبط عقاراتها ونفائسها وقامت قيامة الرهبان وحملوا الحملات المنكرة على المعابد والمصانع وهدموها وعاثوا بما فيها جملة.
وفي خلال تلك المدة قام تيوفيل رئيس أساقفة الإسكندرية في جملة من رهبان تلك الناحية وخرب المعبد البديع المعروف باسم بباكوس ثم هد معبد السرابيوم بعد مجادلات امتدت لألاؤها وفتن شعواء طالت برحاؤها. وهذا المعبد الذي يعد من بدائع الصنائع وله المقام الأول بين مصانع المملكة الرومانية يمائل بناية الكابتول في رومية. وهدم ما كان في جوار المعبد الآنف ذكره من المكتبة التي أنشئت للمرة الثانية على ما تقدم وقد تلفت هذه المرة جميع كتبها. نعم أنشئت بيعة في محل هذا المعبد ولكن لم تتجدد المكتبة قط ولم يبق لها اسم ولا رسم.
واشتد ضغط الإمبراطور جوستنيانوس على عبدة الأوثان وعطل بيوت العلم وقضى بإقفال المدرسة التي كان يدرس فيها ديوجنس وهرمياس واتاليوس وبرسيان وداماسقوس وايسيدور وغيرهم من الفلاسفة لأنهم لم يرجعوا عن اعتقاد القدماء وينتحلوا النصرانية حتى اضطروا فراراً بأنفسهم عن مواطن الهلكة أن يرحلوا إلى فارس ولما أرادوا الرجوع إلى بلادهم توسط في أمرهم انوشروان ملك الفرس ومن الشروط التي عقدها مع قيصر اليونان أن لا يمس هؤلاء الفلاسفة بسوء وأن يكونوا أحراراً في اعتقادهم على أن مدرستهم عطلت وخربت مع غيرها من مدارس آثينة.
علم بهذا أنه كان للإمبراطورين تيودوس وجوستنيانوس يد طولى في إتلاف آثار أهل العلم ومصانعهم قديمها وحديثها رجاء بث دعوة النصرانية فدثرت المدنية التي قامت بحسنات الأجيال السالفة والأمم الغابرة وذلك بأعمال هذين العاهلين وبما أبداه الرهبان والرومان من ضروب العدوان.
ثم أفاض المؤلف في حملة أهل البندقية والفرنجة على القسطنطينية سنة 1202م وحرقهم لها ثلاث مرات بحيث دثر ثلثاها وأحرقت أعلاق الكتب التي جمعت فيها منذ نحو تسعمائة سنة ولما استولى هؤلاء الفاتحون على هذه العاصمة تفرقوا في أطرافها وأنشأوا يسلبون كل ما تطول إليه أيديهم من أموال الناس وعروضهم إلى آخر ما قاموا به من العيث في الكنائس والبيع التي أنقذت من لسان اللهيب وعبثوا بحليها وجواهرها وخصوصاً كنيسة أيا صوفية المشهورة فقد أخذوا كل ما أتحفها به الملوك والأغنياء من الجواهر والحلي والنفائس باعوا بعضه بيع السماح وأتلفوا الآخر كأنه لا قيمة له إلى نظائر ذلك مما قاموا به من الأعمال الوحشية التي فصلها حق التفصيل المؤرخ نيكيتاس أحد رجال دولة الروم.
واستفاض المؤلف فيما آل إليه أمر مكتبة الإسكندرية من الحريق بقضاء الله وقدره سنة 47ق. م وخرابها للمرة الثانية بحملات رئيس الأساقفة الإسكندري وجماعته عمداً قبل الهجرة بمائتي سنة وإحراق ما جمع في زهاء تسعمائة سنة منذ جعلت القسطنطينية عاصمة لدولة الرومان إلى استيلاء اللاتين عليها بداعي ما حدث فيها من الفتن بين الروم واللاتين. وإن ما أنقذ من هذه الحرائق من الكتب أتى عليه اللاتين بجهلهم واستهزائهم بالمعارف وأهلها حتى أن مصر لما فتحها المسلمون لم يبق لمكتبة الإسكندرية فيها عين ولا أثر ولما فتحت الأستانة أيضاً لم يكن فيها عاديات ولا أعلاق بتاتاً.
وقد صرح جيبون في تاريخه على سقوط دولة الرومان بأن نسبة الحريق لعمر أو لعمرو أكذوبة لفقها أبو الفرج رئيس أساقفة حلب على طائفة اليعاقبة إحدى الطوائف المسيحية بعد مضي نحو ستمائة سنة من الهجرة في تاريخ له ألفه بالعربية ولما نقل ما كتبه إلى اللاتينية انتشرت هذه الأغلوطة في أوربا. ومما قاله أبو الفرج أن عمر بن الخطاب أصدر أمره إلى عمرو بن العاص بإحراق هذه الكتب اكتفاء بما في القرآن من العلم وادعى أن هذه الكتب وزعت على أربعة آلاف حمام في الإسكندرية فظلت المواقد تحرقها حصباً ووقوداً ستة أشهر لا تحتاج إلى غير لهيب تلك الكتب لإحماء الماء.
قال جيبون: لا يخفى على أهل البصر أن مكتبة الإسكندرية احترقت قبل الميلاد وما زعمه رئيس أساقفة حلب من أن المسلمين أحرقوها لم يتعرض له مؤرخ واحد ممن ظهروا قبل أبي الفرج حتى أن افتيكيوس بطريرك الإسكندرية عند توسعه في الكلام على استيلاء المسلمين على الإسكندرية لم يذكر كلمة عن حرق عمرو بن العاص لهذه المكتبة. وبهذا علم أن هذه أسطورة ملفقة بالكذب المحض.
على أن الإسكندرية كانت من القديم مقر البطاركة ومنبعث المجادلات المعلومة التي حدثت في مسألة الألوهية. فلو صح أنه كان في هذه المدينة مكتبة كما زعم أبو الفرج حين فتحها واحترقت بأمر عمرو بن العاص لاستخدمت تلك المجلدات الضخمة التي ملئت بمباحث تلك المسألة المذكورة ومقالات المناقشين فيها في غير إحماء ماء الحمامات. وهب أن العرب أحرقوا تلك المجلدات فقد أزالوا كثيراً من الأفكار الباطلة التي ألف الناس الاشتغال بها عبثاً وخدموا عالم الإنسان خدمة عظيمة.
قال المؤرخ التركي بعد أن أورد هذه الجملة عن المؤرخ جيبون: من البديهي أن ما افترض المؤرخ الموما إليه وقوعه وما زعمه رئيس الأساقفة المذكور من حريق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية التي ملئت بالمجلدات الضخمة في مباحث الألوهية أو مؤلفات الحكماء المتقدمين على فرض وقوعه فليس من العقل ولا من الحكمة ما روي في كيفية حريقها. وغير نكير أن هذه فقرة وضعت بعد لمآرب وغايات.
ولو كانت عقدت النية على إحراق هذه الكتب كما ادعى رئيس الأساقفة لمطابقتها للقرآن العظيم أو لمباينتها له لاقتدر عمرو بن العاص أن يبيد هذه الكتب بحضرته جملة واحدة في يوم واحد وربما في ساعات معدودة وكان في غنى عن تسليمها لأصحاب الحمامات في الإسكندرية ولأهل هذا الثغر وكلهم من الروم يحرقونها كما يحب ويرضى بما تلهمهم إليه معرفتهم. نعم كان ابن العاص يحذو حذو مسيحيي إسبانيا لما استولوا على قرطبة وأحرقوا في يوم زهاء مليون مجلد من مصنفات علماء المسلمين وكانت في عدة مكاتب على ما روى المؤرخ دياردو.
ومن البلاهة والحماقة أن يصدق أن عمر يختار هذه الطريقة في إبادة الكتب ويدفعها إلى أرباب الحمامات في الإسكندرية وينقطع عن وظيفة الجهاد المقدسة مع رجاله من المسلمين وعددهم لا يتجاوز أربعة آلاف رجل حين استيلائه على مصر لينقطعوا إلى إحراق كتب دونت بلغة أعجمية ويصرف في ذلك خمسة أشهر أو ستة في قمامين الحمامات مما لا يقبله العقل ولا يوافق الحكمة. وأنى لأرباب الحمامات في الإسكندرية وهم من بني الروم أن يحتفظوا بهذه الكتب ويحرقوها في غياب المسلمين حصباً لحماماتهم فاحر عند ذاك أن ينحي باللائمة على الروم لا على المسلمين باختلاق فئة من الجهال وخصوصاً بعض أصحاب الأغراض.
نقض الكاتب التركي ما أتى به بعض أرباب الأهواء وزيفه بالبرهان السديد ثم نقل ما قاله رئيس مدرسة آثينة الكلية في تاريخه العام عند كلامه على الإسكندرية من أن هذه المكتبة حرقت لدن وصول قيصر إلى مصر وأن ما بقي من الكتب تلف قبل استيلاء المسلمين على الإسكندرية بزمن طويل وأن ما يحكى من أن عمرو بن العاص حرقها إن هي إلا فقرة مدخلة بعد هذا. وقد عرب ما تقدم حباً بإظهار حقيقة طال البحث فيها وتعارضت الآراء بأمرها والحقيقة ضالة كل باحث ومستفيد.