مجلة المقتبس/العدد 25/على رمل الاسكندرية
→ نبأ مصر | مجلة المقتبس - العدد 25 على رمل الاسكندرية [[مؤلف:|]] |
نحن على منطاد ← |
بتاريخ: 1 - 2 - 1908 |
إيه أيتها الأمواج الخالدة كم شاهدنا من أمواج الإنسانية ومن بحورها الفانية.
أمام عيونك الزرقاء وفي ظل ابتسامتك الفضية كم تبخر بحر ونضب وكم تبددت تحت أقدامك موجة هادرة شامخة من أمواج البشرية.
على هذا الساحل الذهبي الجميل قاتلت الملوك قديماً فتغنت بأخبار مواقعها أرباب الفنون ورددت صدى غزاتها ألسن الشعراء.
بالقرب من صدى هديرك الهائل هاجت أمواجهم وماجت فعادت إلى حيث لا تبلغ مدك ولا تبصر عيونك الرمل والصخور.
عادت أمواج أنفسهم المضطربة إلى حيث لا نبع إلا نبعك الدافق من ميازيب ذهبية في بساتين من النور الأزلي الروحاني
هناك نبعك أيتها الأمواج وهناك أيضاً نبع الإنسانية.
أنت هجت قديماً في صدر الإسكندر فجئت به إلى هنا ليبنى لك هذه المدينة الزاهرة.
أنت حملت أنطونيوس إليها ليطفئ لوعة غرامه.
أنت منحت القيصر قسطاً من عظمتك فخاض عبابك طمعاً بملك عظيم بل شغفاً بوجه وسيم.
وأراك الآن هائجة في قلوب الصغار والأذلاء كما هجت قديماً في قلوب الملوك والأمراء.
أراك مضطربة مبتسمة معاً إذ تشاهدين على ساحلك هذه الأمواج المزدوجة من بحر الإنسانية.
هي تتمازج على الرمل في كنف الصخور تمازجك في بطن أمك.
هي أمواج من النفس يحن بعضها إلى بعض ويهيج بعضها على بعض ويختفي زبد الواحدة تحت زبد الأخرى ويذوب زجر الهائجة تحت مدّ المدبرة.
الحب أيتها الأمواج يؤيدك.
والحب يحمل إليك هذه الأمواج القلقة الفانية.
ومهما عظم اضطرابها على سواحلك الذهبية فراحتها أخيراً تحت ابتسامتك الفضية الأزلية.
لا تعجبني من هياج هذا الإنسان واضطرابه فما هو سوى طوائف من الأسماك والحيوانات البحرية تختبط في بحر النفس لا يرى مدينتنا من المدن الكائنة تحت أمواجك.
أيها البحر العائل أيها الرقيب الأزلي وفيها من الحيتان والدلافين ما يزري بحيتانك ودلافينك.
فيها يهدر بحر من هذه الإنسانية المتكالبة. .
لكل موجة صوت لا يشبه أخاه.
لكل موجة شكل ومنهج وعبوسة وابتسامة.
هذه الاسكندرية وفي بحرها تشاهدين الآن ما لم تشاهديه فيما مضى من الزمان.
أمامك الآن أمواج مزبدة من نهر التايمس الهادئ. . وأمواج هادئة من نهر المسيسبي المتدفق وأمواج كرواسي الحبال من نهر الرون والرين والدانوب والسين. . وأمواج عليلة لطيفة من بحر الأحمر وبحر الهند وبحر فارس.
هي الأمواج يتلاطم بعضها ببعض ويمتزج بعضها ببعض ويبتلع بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً أو يعطف بعضها على بعض والكل يهلك نفسه في هذه الحركة الدائمة. في هذا العراك الشديد والضجيج المديد.
يشيدون الصروح ويهدمونها. ويؤسسون الممالك ويبيدونها. فيتلاشون أخيراً تحت أقدامك. وأنت باسمة ضاحكة تسخرين منهم وأمواج منك كالظلل تحمل إليهم نبأ الأبدية.
بحر الإنسانية يفيض ويزبد ويهيج ويهدأ ويتبخر ويتصبب ويعكر ويرسب ويتلاشى وأنت باقية إلى الأبد.
تشاهدين هذا الزمان كما شاهدت أباطيل الأزمنة الغابرة.
تسمعين ضجيج أبطال هذا الجيل في البورص كما سمعت صليل رماح أبطال الأجيال الماضية في ساحات القتال.
وتستقبلين الشمس كل مساء كما تستقبلينها يوم لم يكن على سواحلك مدن ولا عمران ولا نبت ولا حيوان.
لبنان
أمين الريحاني