الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 24/مصائب المكاتب

مجلة المقتبس/العدد 24/مصائب المكاتب

بتاريخ: 1 - 1 - 1908


ليس أعز على عالم من كتب وأوراق كتبها هو أو كتبها هو غيره ولذلك نجد المصنفين في كل عصر ومصر يختارون أجود الورق وأثبت المداد وأجمل الخطوط تخليدا لجدهم وحرصا على بنات أفكارهم أو أفكار من عاصرهم أو تقدمهم ولما كان لكل شيء في العالم عمر طبيعي يقضيه حيوانا كان أو نباتا أو جمادا لم تخرج الكتب عن حد كونها عرضة للفناء وإن طالت أعمارها أكثر من غيرها في عالم الكون والفساد بيد أن المصيبة بها جليلة لأنها ثمرة عقول البشر وزبدة أقوالهم وأفعالهم، وأفضل ما في المرء عقله ولا يتم له حفظ ثمراته في الغالب إلا بكتاب.

حدثت الكتب في الإسلام في أواخر القرن الأول ولم يمض قرن أوقرنان حتى عدت بالأولوف وصار لها شأن عند القوم بعد أن كانوا أمة أمية لايقرأون ولا يكتبون قيل أن الكتب التي كتبها أبوعمرو بن العلاء المتوفي بعد الخمسين ومائة عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب السقف ثم أنه تقرأ أي تنسك فأخرجها كلها وفي رواية أحرقها فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده الا ما حفظه بقلبه ومعلوم أن أصحاب السلطان في الإسلام عنوا بأقامة الخزائن وتسليبها على المطالعة والمراجعة والنسخ ينتابها خاصة الناس وعامتهم لندرة الكتب وعزة الظفر بها إذ ذاك وقد أصاب تلك الخزائن ما أصاب غيرها من مخربات العمران وأقلها التجريف والتمزيق والضياع والتفريق ولذلك طالت لها الحسرة وهلاك فرد لا يوازي هلاك أفراد وإن عد الفرد أحيانا بأمة وكذلك الحال في الكتب فإن ذهاب مكتبة أومكاتب برمتها لا يشبه ذهاب كتاب أوبضعة كتب وأهم المآتم التي أقيمت على الكتب الإسلامية ثلاثة.

الأول يوم دخل هولاكو سنة 656 إلى بغداد وقتل الخليفة العباسي وأزال الخلافة جملة وخرب دار السلام فألقيت الكتب في دجلة حتى قيل أن لونه مائه على غزارته بقي أياماً أسوداً مكمداً بما تحلل فيه من مداد الأسفار التي ابتلعها وبالغ المؤرخون فيما ذهب في تلك النكبة ويكفي بأن بعض تلك الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة على زمن هؤلاء التتر قد أنشأ بها نصير الدين الطوسي أحد فلاسفة الإسلام خزانة عظيمة اتخذها بمراغة في القبة والرصد الذي أنشأه هناك فيجتمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد. والمأتم الثاني يوم دخل الإفرنج مدينة طرابلس الشام في الحروب الصليبية فأحرقوا مكتبها بأمر الكنت برترام سنت جيل وكان قد دخل غرفة فيها نسج كثيرة من القرآن فقضى بإحراق المكتبة كلها وفيهأعلى ما قيل ثلاثة ملايين مجلد. وأصاب البلاد غير هذين الرزيتين ما أصابها من الخراب بأيدي التتر وأهل الصليب. والمأتم الثالث نكبة الأندلس وداهيتها الدهياء فقد وقعت كتب المسلمين في أيدي أعدائهم وقد أعمأهم الجهل والتعصب فجعلوها طعاماً للنار.

قال قوندي في تاريخه إن مسيحي إسبانيا لما استولوا على قرطبة حرقوا كل ما طالت إليه أيديهم من مصنفات المسلمين وعددها مليون وخمسون ألف مجلد جعلوها زينة وشعلة في يوم واحد ثم رجعوا على سبعين مكتبة في الأندلس وأنشئوا يتلفون كل ما عثروا عليه في كل أقليم من مؤلفات العرب.

وقال أحد مؤرخيهم ربلس أن ما أحرقه الأسبانيول من كتب الأندلسين بلغ ألف ألف وخمسة آلاف مجلد. وذكر بعض المؤرخيون أن أحد جثالقتهم أمر بإحراق ثمانين ألف مجلد في ساحات غرناطة عقيب استيلائهم عليها وأنهم قبضوا على ثلاث سفن قاصدة مراكش تقل ما عزّ على المسلمين أن يخلفوه ورائهم من أسفارهم فألقوها في قصر الأسكوريال ثم لعبت فيها النيران وبقيت منها بقية رتب فهرستها أحد مسيحي سورية وجعلوها إلى اليوم مكتبة ينتابها علماء الأرض وكان بقي منها على عهد من رتبها 1851 سفرا.

وقد ادعى قوم أن المسلمين حرقوا كتب الأمم الأوائل وأنه أمر عمرو بن العاص بإحراق مكتبة الأسكندرية وفيها قسم كبير من حكمة اليونان وغيرهم من الأمم الخالية وإنهم حرقوا مكاتب فارس في خلال الفتح وأن عبد الله بن طاهر قائد المأمون حرق في خراسأن سنة 213 ما كان باقياً من مؤلفات المحبوس إلى غير ذلك مما يتذرعون به من الحجج وهو من الحجج وهو مردود عند أهل التمحيص ونقدة الأخبار.

ولو كان لما ادعوه ظل من الحقيقة لذكر قدماء المؤرخين من المسلمين ذلك ولو بإشارة طفيفة. ولماذا يا ترى لا نرى لهذه الدعوى ذكراً فيما بين أيدينا من كتب التاريخ كابن جرير والمسعودي والبلاذري وغيرهم كما أنا لا نجد لذلك أثراً في كتب سيرة العمرين وكان على مؤلفيها لو كانت رويت هذه الأخبار لهم من طريق صحيحٍٍٍٍٍٍ وتوارت في زمانهم أن يعدوها في باب مناقب الخليفة الثاني ويوردها بسلامة صدر على عادتهم في بعض أخبارهم بل كان على أصحاب الكتب الستة مثلا أن يفردوا لإحراق الكتب باباً لو كان صدر من بعض الخلفاء الرأشدين مثل هذا العمل كل هذا لم يرد شيء منه في تضاعيف كتب الثقات وإنما هم الوضاعون وضعوا هذا الخبر كما وضعوا مئات مثله وألصقوه بالأمام فتلقفه من لا عهد له بوضع الأخبار على محك النقد من مؤرخي القرون الوسطى قضية مسلمة وراح بعضهم يتذرعون به إلى النيل من الأئمة بإحراقهم الكتب ليحولوا دون العقول والأخذ من علوم الأوائل وكل مانسب للمؤرخين المتأخرين منقول عن القفطي من أهل القرن السادس ولايبعد أن يكون تلفقه من كتب الواعظين وتابعه عليه من بعده. يؤيد ذلك ما مُني به المسلمون من التفرق إلى شيع يضاد بعضها بعضاً وما ثبت في التاريخ من أن الحريق طرأ على هذه المكتبة مرات قبل الإسلام ولما فتحت الأسكندرية في الصدر الأول لم يكن في مكتبتها من الكتب ما يدعو إلى مد

يد الفاتح إليها بشيءٍ من الأذى والحرق ولذا لم يذكر هذا الخبر أحد من معاصري الفتح من المؤرخين سواء كانوا من الروم أو غيرهم.

هذا ما وقع للكتب العربية من النكبات العامة في القرون الوسطى وقد وقع لها ما بعده نكبات أعظم وأدهى نريد بها جهل القوم وزهدهم فيها ومفاداتهم بها ويبعثها بثمن بخس لكل طالب. وما زال الشيوخ من أهل هذا الجيل يحدثوننا بما وقع لكتبنا في مصر والشام وأقله السرقة والحرق الإختياري ويبعثها من الدلالين لينقلوها إلى الأجانب.

حدثني ثقة أن دلال كتب في دمشق كان يغشى منازل أهل العمائم ممن يعرفون بين القوم بالعلماء

ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس فيبتاع منها ما طاب له من كتب القوم المخطوطة

بأثمان زهيدة إذ لم يكونوا يحرصون إلا على كتب الفقه وكانوا أبيع من إخوة يوسف لكتب التاريخ

لأنها كذب بزعمهم والكذب لا ينبغي أن يوضع في قماطرهم وخزائنهم وهناك فنون كثيرة تلحق

فن التاريخ بالطبع وهي كتب الحكمة والأدب. قال وقد ابتاع معظم هذه الكتب قنصل ألمانيا إذ ذاك

بما يساوي ثمن ورقها أبيض وبقي سنين يتلقطها من أطراف سورية حتى اجتمع له منها خزانة

مهمة رحل بها إلى بلاده فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها والغالب أن معظم ما في مكتبته

برلين العربية هو من بقايا الكتب. التي كان يعدها أولئك المتعالمون أضاليل وأباطيل والتخلص

منها بدارهم معدودة خير وأبقى.

ومثل هذا وقع في كثير من بلادالشرق العربي ولاسيما القاهرة فإن ما تدورك أمره وجمع في

خزانة الكتب الخديوية هو غيض من فيض. وكذلك ما جمع في خزانة الكتب العمومية في دمشق

وما بقي في بعض مدارس حلب وغيرها وما أظن إلا أن حظ سائر البلادالإسلامية كان كحظ

هذين القطرين في كتبه لأن الداء واحد وهو عموم الجهل.

أما مكاتب الأستانة وهي نحو أربعين مكتبة الآن ويبلغ ما فيها نحو مائة ألف مجلد ففيها النفيس

الذي لا خطر له ولكنها مغلقة تأكلها الأرضة ولا ينتفع بها وكثيراً ما سطا عليها شياطين الأنس

من الغربيين وابتاعوا بعضها من القوّام عليها لقاءَ ريالات يرضخون بها ولا يزال معظمها في

حكم العدم وتوشك إذا دامت كذلك أن تفنى مع ما فني وترحل مع ما رحل.

إلا فلتعمر مكاتب موينخ وبرلين وستراسبورغ وليبسيك وليدن وفينا وبودابست واكسفورد ولندن وباريز والأسكسوريال وبطرسبرج ونيويورك وشيكاغو وغيرها من المكاتب العامة والخاصة

فإنها هي التي عرفت قدر ما احتقرناه وبواسطة رجالها يحيا كل كتاب انتقل إليهم وينتفع به ولو

بعد حين وآمالنا في انتشار مدينة الإسلام على يدنا وإن كنا نود مشاركة أولئك الغيومرين في أحياء مدينتنا وصاحب الحاجة أولى بها.