مجلة المقتبس/العدد 22/كتاب الاشربة
→ السجن | مجلة المقتبس - العدد 22 كتاب الاشربة [[مؤلف:|]] |
التقية ← |
بتاريخ: 15 - 11 - 1907 |
لابن قتيبة
وإنما معنى قوله (انما الخمر والميسر والانصاب والازلام وجس) أي معصية والكفر والنفاق والمعاصي رجس يدلك على ذلك أن الازلام هي القداح فاي نتن لها؟ وهذا مثل قوله: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} أي نفاقاً إلى نفاقهم ومثله {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} وكيف يكون رجساً أي نتناً وهي في الجنة؟ وقال الله تعالى: {وأنهار من خمر لذة للشاربين} فوصفها باللذاذة ولم يصف بذلك عيرهما مما ذكر معها. وقال: {يسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} ولم يرد فيما يرى أهل النظرأن الزنجبيل يلقى فيها وإنما أرادوا إنها تلذع اللسان كانها مزجت بزنجبيل. والشعراء تصف أفواه النساء براح مزجت بالزنجبيل. قال المسيب ابن علس
وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى بمشبهه بالزنجبيل والعسل:
كان جنياً من الزنجبي ... ل بات بفيها وأريا مثورا
وقال الجعدي
وبات فريق منهم وكانما ... سقونا طفا من اذرعات مفلفلا
ولهذا يقول الشعراء للخمر مزة للذعها اللسان ولا يريدون الحموضة وقال بعض أصحاب اللغة: إنما مزّة بفتح الميم أي فاضلة من قولك: هذا أمز من هذا أي أفضل وأرفع. وقال: (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون) فنفى عن خمر الجنة عيوب الخمر الدنيا وهو الصداع ونفاذ الشراب وذهاب العقل والمال ونحو هذا قوله في فاكهة أهل الجنة (لا مقطوعة ولا ممنوعة) فنفى عنها عيوب فواكه الدنيا لأن فواكه الدنيا تأتي في وقت وتنقطع في وقت ولأنها ممنوعة الا بالثمن والعرب تسمي الخمر درياقة يريد انها شفاء كالدرياق. قال ابن مقبل
سقتني بصهباء درياقة ... متى ما تلين عظامي تلن
وقال الله تعالى {ويسئلونك عن الخمر والميسر قل فيها اثم كبير ومنافع للناس واثمهما أكبر من نفعهما} فالإثم العذاب وكذلك الآثام قال: {ومن يفعل ذلك يلق إثاما} أي عقاباً وأم منافعهما فكثيرة لا تحصى. وإنما تقع مضارها مع إكثار وتجاوز المقدار فأما الاقتصار فلم يكن لشاربيها قبل التحريم فيها مضار. فمن منافعها ما يصيبه للناس من أثمانها ولو لم تعتصر الأعناب لبارت على أهلها. ومن ذلك منفعتها الجسم لأنها تدر الدم وتقوي المنة وتصفي اللون وتبعث النشاط وتفتق اللسان ما أخذ منها بقدر الحاجة فإذا أخذ الإفراط فكل شيء مع الإفراط يضر.
وكأنت الأوائل تقول: الخمر حبيبة الروح وكان رجل من قدماء الأطباء إذا دخل على عليل لم ير فيه موضعاً لسقي الدواء سقاه الخمر الريحانية الممزوجة بالماء ليلقي الروح بحبيبه ويبعث من النفس بالمسرة ما قد أسقطه الداء فإن رأى العليل قد قوي قليلاً واحتمل بعض الدواء عالجه. قالوا: ولذلك اشتق لها اسم من الروح فسميت راحاً وأصل الراح والروح والرَّوح من موضع وأحد الا أنهم خالفوا بينها في البناء ليدل كل واحد منها على معناه ويقارب معانيها كتقارب أسمائها فالروح روح الأجسام والروح النفخ لأنه ريح يخرج عن الروح والروح طيب النسيم والروح هي الريح الهابة.
والراح على فعل وأصله روح فقلبت واوه ألفاً لما أنفتحت ما قبلها ثم اشتقوا الريحان من ذلك لرائحته وربما سموا الخمر روحاً قال النظام:
مازلت أخذ روح الزق في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح
وربما سموا الخمر دماً لأنها تزيد في الدم والنفس تتصل بالدم. وكذلك قالوا: نفست المرأة إذا حاضت. وقالوا نفساه لسيلأن الدم. قال المسلم:
خلطنا دماً من كرمة بدمائنا ... فاظهر في الألوان من الدم الدم
وحدثني الرياشي عن مورج عن سعد بن سماك عن أبيه عن عبيد راوية الاعشي قالت: قلت للأعشى: اخبرني عن قولك
ومدامة مما تعيق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
فقال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء يريدان حمرتها صارت دماً. وقال الطثرية
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وفي الخمر انها تسخي البخيل وتستخرج من اللئيم. قال عمرو بن كلثوم: مشعشة كان الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا
ترى اللخر الشحيح إذا مرت ... عليه لماله فيها مهيبا
قوله: سخينا من السخاء وأراد بقوله إذا ما الماء خالطها لأنها لا تمزج الا عند الشرب قال طرفة:
وإذا ما شربوها وانتشوا ... وهبوا كل جواد وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحقون الأرض هداب الأزر
وقد عيب بهذا طرفة لأنه مدحهم بالعطاء وهم نشاوي ولم يشترط لهم ذلك في صحواتهم كما قال عنترة
وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما اقتصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
والجيد في هذا المعنى قول زهير
اخو ثقة لا يذهب الخمر ماله ... ولكنه قد يذهب المال نائله
يريد أنه يعطى إذا بخلت النفوس. وقال ابن ميادة
ما أن الح على الإخوان اسألهم ... كما يلح بعظم الغارب القتب
وما أخادع ندماني لأخدعه ... عن ماله حين يسترخي به اللبب
وقال بعض المحدثين
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في مسكرة وانتشائه ... وفي الصحو ترحات تشيب النواصيا
فياليت حظي من سروري وتر حتي ... ومن جوده أن لا علي ولا وليا
وفي الخمر أنها تشجع الجبان وتبعث الحصر العي وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد من جرأتك؟ الترك وكثير من العجم يشربونها في الحرب وكانوا في الجاهلية ينالون منها يوم اللقاء وكذلك اصطحبها قوم من المسلمين يوم بدر قبل أن ينزل تحريمها وفي الخمر أن كل شارب يمل شرابه غير شرابها وإن أحداً لا يقدر يشرب منها فوق الري إلا بالكره للنفس على القليل غير شارب الخمر وما أشبهها من المسكر. حدثني القطعي عن أبي داوود قال حدثنا أبو بجرة عن الحسن قال: لو كان في شرابهم هذا خير لرووا منه وفي الخمر أنها تزيد في الهمة والكبر وتهيج الأنفة والأشر وسقى قوم إعرابياًكؤوساً ثم قالوا له: كيف تجدك؟ قال أجدني اسر واجدكم تحسنون إلي وقال الأخطل
إذا ما زياد علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت اجر الذيل من كانني ... عليك أمير المؤمنين أمير
العلل بين النهل فلذلك قال ثلاث زجاجات لأنها نهل وعللان قال المنخل
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير
فإذاسكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وقال الأعشى:
ولقد شربت ثمانياً وثمانياً ... وثمان عشر واثنتين وأربعا
من قهوة باتت ببابل صفوة ... تدع الفتى ملكاً يميل مصرعاً
وقال الخمر انها تمد في الأمنية قال الأعشى
لعمرك أن الراح إن كنت شاربا ... لمختلف آصالها وغدائها
لنا من ضحاها خبث نفس وكابة ... وذكرى هموم ما تغيب اداتها
وعند العشي طيب نفس ولذة ... ومال كثير عده نشواتها
وفي الخمر انها تطيب النفس وتذهب الهم وكانت ملوك العجم تجعلها مجمة للقلوب ومستراحاً من الشغل. قال اعرأبي كان يشرب النبيذ ثم تركه وشرب اللبن
قد تركت النبيذ مذ كن عندي ... وتحسيت رسلهن مذيقا
فوجدت المذيق يوجع بطني ... ووجدت النبيذ كان صديقا
تعد النفس بالعشي مناها ... وتسل الهموم سلاً رقيقاً
وذكر الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمي ران جبلة بن الايهم
قال لحسان: يا ابا الوليد اني مشغوف بالخمر فذمها لي فقال:
لولا ثلاث هن في الكأس لم يكن ... لها ثمن من شارب حين يشرب
لها نزف مثل الجنون ومصرع ... دني وأن العقل ينأى فذهب
فقال: أفسدتها فامدحها فقال: لولا ثلاث هن في الكأس أصبحت ... كأفضل مال يستفاد ويطلب
أمانيها والنفس يظهر طيبها ... على همها والحزن يسلى فيذهب
وفي الخمر إن كل شارب على شرابه يصبر عنه غير الخمر فإن لها ضراوة لا يشبهها الا ضراوة اللحم. وكان عمر رضي الله عنه يقول: اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقالوا: أهلك الرجال إلا حمرأن اللحم والخمر. وأهلك النساء إلا صفرأن الذهب والزعفران. وقال الشاعر حين منع أهل الشام من شرب الخمر:
الم تر أن الدهر يعبر بالفتى ... ولا يملك الإنسان صرف المقادير
صبرت ولم اجزع وقد مات إخوتي ... وما أنا عن شرب الطلاء يصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر
فهذه وما أشبهها منافعها في الجاهلية وأما منافع الميسر فإن أهل الثروة والأجواد من العرب كانوا في شدة البرد وجدب البلاد وكلب الزمان ييسرون أي يتقأمرون بالقداح وهي عشرة اقداح على جزور يحزئونها على ثمانية وعشرين جزءا وقد ذكرت هذا في كتاب الميسر وبينت كيف كانوا يفعلون فإذا قمر أحدهم جعل أجزاء الجزور لذوي الحاجة وأهل المسكنة واستراش الناس وعاشوا وكأنت العرب تمدح بأخذ القداح ويعيب من لا ييسر وتسميه البرم قال متمم يرثى أخاه مالكاً
ولا برما تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
ولم اسمع أحداً من الإسلاميين ذكر أنه قأمر بالقداح فافحش افحاش القائل وهو الأخطل:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست باكل لحم الاضاحي
ولست بقائم كالعير ادعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وآكل ما تفوز به قداحي
قال: واما ذمهم شربه المسكر بقلة الوفاء وسوء العهد فاسوأ من ذلك اقدامهم على السكر وترك الصلاة وركوب الفواحش واعجب منه عقدهم على أن كل مسكر خمر محض لعلة الاسكار وهم يشربونه وعلمهم بأن الله حرم المسكر وهم لا يبيتون الا عليه فإذا عوتبوا على شربه مع الاعتماد أنه خمر قالوا: لان نشربه ونحن نعلم أنه ذنب نستغفر الله منه احب الينا من أن نشربه مستحلين له غير مستغفرين منه. وما ادري أمن الجرأة على الله اعجب ام من العلة.
أما الجرأة على الله والاقدام على ماحرم في كتابه عندهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم وأما العلة فالطمع في المغفرة وهم مصرون لا ينصرم عنهم يوم جمعتهم الا عقدوا النية على الاجتماع في غده او بعد غده وإنما يغفر الله بالاستغفار للمقلعين ويتقبل من المتقين وكيف ما جاهروا الله بالعصيأن فيه وهم مستيقنون اسلم مما ركبوه وهم غارون وماذا يقولون في رجل زنى وهو لا يعلم أن الله حرم الزنا وآخر زنى وهو يعلم أن الزنا من الكبائر التي تسخط الرب وتوجب النار ايهم اقرب إلى السلامة وأولى من الله بالعفو او ليس أهل العلم على أن الذي لا يعلم لا حد عليه من جلد وتعزير ولا رجم وإن على الآخر حد البكر إن كان بكراً وحد المحصن إن كان محصناً فهذه أحكام الدنيا واما أحكام الآخرة فلولا كراهة التألي على الله لقلنا في الذي ركب الفاحشة وهو لا يعلم أن الله حرمها معفو عنه.
وقد روي أن رجلاً اقرّ بالزنا بأم مثواه فلما أمر بأقامة الحد عليه قال: ما علمت أن الله حرم ذلك فاستحلف ثم دريء عنه الحد. وكأنت العلماء تنهى العوام عن كثرة السؤال وقالوا لان يؤتى السيء على جهل به اسلم من أن يؤتى على علم. وقال رسول الله ﷺ: البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت اليه النفوس والاثم ما حاك في صدرك فكرهت أن تطلع عليه الناس.