مجلة المقتبس/العدد 20/صدور المشارقة والمغاربة
→ ../ | مجلة المقتبس - العدد 20 صدور المشارقة والمغاربة [[مؤلف:|]] |
الولايات المتحدة ← |
بتاريخ: 15 - 9 - 1907 |
تولستوي
ما خلت كل أمة ولا كل عصر من وجود مصلح أو مجدد يقوم بين قومه بالوعظ والإرشاد ويأخذ بيدها في مهيع السداد. تساوت في ذلك الأمم المنحطة والناهضة قديمها وحديثها شرقيها وغربيها. وتولستوي هو رجل روسيا اليوم ومجدد حياتها الاجتماعية سعى إلى الإصلاح فأثرت حكمته في عقول مئات ممن استعدت نفوسهم لقبول الخير فما عتموا أن بثوا أفكاره في مئات وأشربت القلوب محبته وأكبرت الأمم دعوته. ولا يزال على ما أصاب بلاده من رفع وخفض يمتع النظر بما يجري في القرب والبعد فهو اليوم في التاسعة والسبعين من عمره قتل الدهر علماً ونحر الأيام فهما كانت جملة ما استفادة من تجارب وعلم وما ورثه من آبائه من مال وضياع وفقاً على أمته وما ينهضها من عثرتها.
من العادة أن يترجم كبار العلماء أنفسهم في كل أمة. وقد طلب من الحكيم الروسي أحد أصدقائه منذ مدة أن يوافيه بترجمة حياته أو يدله على طريقة يتسنى له بها أن يجمع موادها فكتب إليه شيئاً من أحواله صبياً ويافعاً وذكر له بيته ومنشأه وهما أساس في تربية ملكات الرجال. قال ما نعربه عن إحدى المجلات الإفرنجية: فكرت في أجابة طلبتك فرايتني في تيهاء من الحيرة يتنازعني عاملان عامل شر وعامل أشر منه. وأعني بالأول إعجاب المرء بنفسه والإغضاء عما أتاه من المفاسد في حياته وأريد بالثاني الانطلاق في الحرية المفرطة وإيراد مظالم بأسرها. إن خلصت في وصف نذالتي وغفلتي ومفاسدي وانطلقت وتجوزت في إبدائه على نحو ما أنطلق الفيلسوف روسو في هذا المعنى يأتي ذلك كتاب أو مقال يخلب الألباب. فهل نلام نحن ضعاف الفطرة من البشر إذا كنا أنذلاً مثله وأني لا أنكر عندما بدأت أذكر حياتي وقد تمثلت أمامي غفلتي ولؤمي وذهبت بي الهواجس كل مذهب ورحت أقول في نفسي أنا ذاك الرجل الذي يطريني كثيرون على ما بي من شقاء وبلاهة. ولك أن تفسر قولي هذا بأني أكثر احتيالا من غيري - أقول لك هذا القول بحرية ولا أقوله لأجمل به إنشائي. من أجل هذا إلى تسطير ترجمتي لأني رأيت من اللازم اللازب أن للملأ لؤم حياتي بأسره إلى أن تنبهت من غفلتي وأن أذكر محاسنها بعد أنتباهي.
ذكرت بادئ بدء الحسنات في حياتي ولكني لما فكرت في الحوادث المكررة التي انتابتني في غضونها رأيت أن مثل هذا هذه الترجمة أن لم تكن كلها كذباً لم تكن كلها مكتوبة بإخلاص لأني مثلت فيها المناحي الحسنة وأسدلت حجاب السكوت على المناحي السيئة وعندما فكرت في كتابه الحقيقة على بابها دون أكتم منها شيئاً من السيئات التي تخللت حياتي ذعرت مما يكون لهذه الترجمة من التأثير في الأذهان وفي ذلك مرضت وعاودني الفكر خلال هذه العطلة التي ساقني إليها حكم الاضطرار وبقي يتردد في خاطري ذكرى ولكنها كانت مفزعة. وكنت أشعر لا توصف بما قاله بوشكين الشاعر في قصيدتهالذكرى
ذاقت نفسي عذاب الجحيم لما ذكرت لؤم حياتي الماضية ولم أعد أفارق تلك الذكرى بتة فإنها سمعت حياتي وكدرت سربي وشربي. جرت العادة أن يأسف الناس على نسيان ما جرى لهم بعد موتهم فيا ما أسعد ذلك من حال. ولبيت شعري أي أوصاب كانت تنالني في هذه الحياة لو ذكرت كل ما تعذب به وجداني وكل ما ارتكبه من أثم في حياتي السالفة ومن ذكر الخير كان عليه أن يذكر الشر. فيا سعدي أن نسيت ذكرى ما شقيت به بعد موتي من ذات نفسي غير الوجدان ذاك الوجدان الذي يمثل الخير والشر والصغير والكبير والسلبي والإيجأبي.
نعم إذا غربت الذكرى عن الذهن عد ذلك نعمة كبرى وما دمت تتردد في الخاطر لا يتأتي أن يعيش المرء مسروراً ولكن إذا غابت صورتها ندخل ميدان الحياة وصحيفتنا بيضاء نقية فيكتب عليها ما جد لنا من الخير والشر.
وبعد فلم تكن حياتي كلها منحطة المقام في خبثها بل كان منها عشرون سنة كذلك ومعلوم أيضاً أن حياتي في ذلك الدور لم تكن شراً دائما كما تمثلت في عيني في غضون مرضي إذ قد تنبهت في ذلك أميال نحو الخير لم تطل كثيراً بل أطفئت شعلتها للحال بما دهمني من الشهوات التي لم يضبطها عنان.
على أن اشتعال الفكر على هذا النحو في خلال مرضي دلني في دلالة صريحة على أن ترجمة الإنسان نفسه على ما تكتب في العادة التراجم إذا أغضيت فيها عن نذالتي وجريمتي في حياتي تكون ولا جرم كذباً وإن خير الأساليب التي يتوخاها الكاتب في ترجمته أن ينطق بالحقيقة على جليتها. وأمثال هذه التراجم هي التي تمثل الحقيقة على بابها للقارئ وإن أورثت كاتبها الخجل.
فلما ذكرت ماضي حياتي على النحو أي ذكرت ما أتيت من خير وما تم على يدي من شرر أيتني أقسم أدوار حياتي الطويلة إلى أربعة أدوار: أولها ذاك الدور العجيب وخصوصاً إذا قيس بالدور الذي يليه - البار البهيج الشعري وأعني به دور الطفولية. ثم الدور الثاني وهو العشرون سنة كان فيه من الفساد الغليظ والخدمة والطمع بالمعالي وخصوصاً في المكاسب ما كان. ثم جاء الدور الثالث وهو الثماني عشرة سنة أي منذ تزوجت إلى نشوري الروحي وهو الدور الذي يحق له أن يدعى في نظر العالم دور الأخلاق بمعنى أني عشت في هذه الثماني عشرة سنة كما تعيش الأسر بالحشمة والنظام غير مستسلم لمفسدة ينبذها الناس ولكن جميع مصالحي كانت مقصورة على عنايتي بأسرتي عناية مقرونة بحب الذات ممزوجة بالأنانية وعلى زيادة ثروتي وعلى نجاحي الأدبي وعلى مختلف حظوظ تنالها نفسي والدور الرابع يرد إلى العشرين سنة التي فيها أنا الآن وأود أن أموت عليها وبها يتمثل لي في الحياة الماضية من عظيم الخطر وهو الدور الذي لا أبغي سواه ما خلا اعتيادي الشر الذي اندمج في روحي في الأدوار الأخيرة.
وأرى كتابة حياتي على هذا النحو أنفع من هذر بدر من القلم في أثني عشر مجلداً من مصنفاتي وتنأولها الناس في عهدنا ونسبوا إليها من التأثير ما لا تستحقه.
كانت جدتي ابنة الأمير نقولا ايفإنوفيش غورتشاكوف الأعمى وكان غنياً تأثل وأرتاش وجمع حطام الدنيا شيئاً كثيراً. وكل ما أتصوره فيها أنها كانت قليلة التعلم كثيرة الذكاء وكانت مثل كثيراًت من أبناء وطنها على ذاك العهد تحسن الفرنسية أكثر من الروسية وكأن تعلمها عبارة عن معرفة هذه اللغة فقط فدللها والدها أولاً ثم زوجها وكانت عنواناً على الأسرة بأجمعها لأنها كانت بكرها وموضوع احترامهم أجمعين. وكان جدي على ما ظهر لي أيضاً على شاكلة جدتي محدود المعرفة ولكنه كان من اللطف والأنس على جانب وقد أدى به الكرم إلى الإسراف الذي بلغ حد الحمق. وكان بثقة يخلص وكانت في مقاطعة بيليف في بولياني ميدان الولائم وتمثيل الروايات والمراقص والمأدب ويضاف إلى ما يقتضي ذلك من النفقات ولوع جدي بالمقأمرة على ضعف معرفته فيها مع ما كان مني من إقراض كل من يقصده دراهم ما كان يرجعها إليه. هذا إلى الأعمال الكثيرة التي باشرها فإنتهت كلها بخراب بيته وإفلاسه حتى باع أملاك زوجه واضطر إلى التوظف فصار للحال والياً لقازان. ذكروا لي أن جدي لم يكن يقبل الرشى ما خلا رشوات من عملة الأكحول وهي الرشوة التي ما كانت تستنكر إذ ذاك في كل ناحية من أنحاء الأمبراطورية الروسية ولكن قيل لي أن جدتي كانت تقبل الرشوة بدون اطلاع جدي وهكذا دامت الحال حتى زوجت ابنتها الثانية في قازان والبكر في بطرسبرج من أحد الإشراف وبعد أن قضى زوجها نحبه سكنت جدتي لدى والدي في اياسنيا بوليانا وهناك أدركتها شيخه عجوزة وكانت تحب والدي وأولاده وتتلهى بنا كما تتلهى بخالاتي. وظهرانها لم تكن تحب والدتي لأنها كانت تحب جدتي دون قدر والدي وتحسدها على حب والدي لها. وأذكر أن جدتي ساحتنا معها إلى موسكو وأهم ما يخالج فكري من ذلك ثلاثة مشاهد. المشهد الأول عندما كانت جدتي تغسل يدها بالصابون فتخرج منها فقاقيع كنت أدهش وأسر بمرآها وأذكر يديها البيضاويين ووجها الناصع الباسم. والمشهد الثاني أيام كنا نذهب إلى غابة البندق ونجنيه في صحبة مؤدبنا وكانت جدتي تصطحبنا في عجلتها والخادم يجر إليها الأغصأن الميلاء لتقطف بندقها وتضعه في كيس أمامها وأذكر قوة معلمنا في جره الأغصأن الكبيرة من أدواح البندق وتلك الظلال الوارفة والحر الشديد وسط الغابة والهواء البليل في الظل وتناوح أشجار الغاب ورائحتها وكيف تأكل الفتيات اللاتي كن معنا البندق على طراوته فلا نبقي منه ولا نذر ونملأ به جيوبنا وأردن ثيابنا وعجلتنا. وكنت يخيل لي أن تلك الفقاقيع لا يتيسر إحداثها إلا على يد جدتي وذاك الريح البليل في غابة البندق لا يهب إلا إذا رأفقتنا إليها جدتي. والمنظر الثالث وهو أعظمها وأعني به (ليون ستبانيش) الأعمى القصاص الذي كان في بيتنا من بقايا مجد جدي الغابر يسكن دارنا ولا همل له إلا سرد الأقاصيص في الليل وذلك لأن عماه كأن يساعده على حفظ الحكايات بألفاظها بمجرد تلاوتها عليه مرتين وكان يتلو على مسامع الحضور حكاية قمر الزمان المعروفة في قصة ألف ليلة وليلة وكنت اقترب من القصاص استمع إليه ولكنني ما كنت أفهم شيئاً مما يقول ثم أنام ولا أعود أحس بما يجري في دارنا إلى الغد.
وما أعرفه عن جدي والد أمي أنه بعد أن صار قائداً على عهد الأمبراطورة كاترينا عزل دفعة واحدة عن منصبه لأنه لم يرض أن يتزوج ابنة أخت المشير يونمكين نديم كاترينا الثانية فنحاه عن منصبه لأنه رفض الزواج منها لأسباب لم عرفها فيها رداً غير جميل. ولما نحي عن منصبه تزوج بفتاة من أهل الصور رزق منها لبنة. وكان جدي هذا مشهوراً بجبروته وأنه من الرؤساء البغاة. بيد أني لم ينقل لي شيء عن قسوته ولا عن عقوباته المعتادة في عهده وأظن أن ذلك كان يقع منه على التحقيق لكنه لم يجسر أحد من حاشيته وفلاحيه أن يطلعني على ذلك مع إلحاحي في السؤال وذلك تشريفاً لقدره وإعظاماً لحكمته فلم أكن اسمع عنه غير عبارات الثناء على بعد غوره وسداد نظره واعتداده بفلاحيه وخدامه على كثرتهم. وقد أسس بناية عظيمة لخدمته وكان لا يقصر عنايته على إطعامهم فقط بل يعنى بكسوتهم أحسن كسوة وبإدخال السرور على قلوبهم وكان يقيم لهم الألعاب المختلفة في أيام الأعياد والمواسم. وكان من أتباعه وخاصته آمنين بما له من النفوذ من ظلم الظالمين من الحاكمين فمن ثم كان جدي في جميع أعماله يميل إلى المتانة والراحة والإحسان والظرف يعشق الطرب والموسيقى ويجلس إلى سماعها من والدتي في أماكن أعدها لذلك في حديقة الدار.
لا أتذكر والدتي قط فقد كنت ابن سنة ونصف لما قضت نحبها فإنا لا أتمثلها أصلاً ولا أعرف شيئاً يدلني على جسم إنسان بل أعرفها بالروح وكل ما بلغني من أمرها كان حسناً جميلا. سألت أهلي عنها فحدثوني بأطيب الحديث لا لكونها أمي بل لإنه كان فيها من صفات عالية من الخير والإحسان. وكنت أجدني في طفولتي بين ظهراني قوم حفهم الصلاح والفضل أرى ذلك خاصة فيهم من والدي إلى سائق العجلة كما يرى أصفياء القلوب غالياً كل حسن في الناس ولا تتمثل لهم إلا الصفات الطاهرة. وعندي أن ما تمثل لي فيمن نشأت بينهم من الصفات كان إلى الصحة أقرب. ولذلك أعجبت به في صغري.
لم تكن والدتي من الجمال بحيث تسبي الألباب بل على جانب من الذكاء بالنسبة لعصرها فكانت تحسن الروسية قراءة وكتابة خلافاً لمعاصراتها إذ ذاك وتعرف الفرنسية والألمانية والإنكليزية والإيطالية ولها ميل إلى الفنون وتجيد الضرب على البيانو. ولقد ذكر لي عشيرتها بأنها كانت تحسن إلقاء الحكايات فتستدعي إعجاب الحضور وترتجل الكلام ارتجالا وكانت تمتاز بكظم غيظها على ما روى لي الخدام. فإذا عرض لها ما يهيجها يحمر وجهها وربما بكت على ما نقلت لي وصيفتها ولكنها ما قط فاهت بكلمة قبيحة إذ أنها لم تكن تعرف من ألفاظ الهجر ولا كلمة.
لدي رسائل كتبتها والدتي وإلى خالاتي وجريدة تصف فيها سلوك أخي البكر (نيكلولانكا) الذي كلن عمره ست سنين عندما توفيت وكان أشبه منا كلنا بصورتها. وكانت ما استنتجت ذلك من كتاباتها ولحظت ذلك من أخي وعلمته علم اليقين عدم الاحتفال بآراء الغير والأتضاع بحيث كانا يحأولان أن يكتما فوائد التعليم والذكاء والفضيلة التي امتاز بها دون سائر من العيوب اللأزمة ليعد صاحبها من كبار الكتاب ولقد شاهدت ذات يوم أحد الأغنياء الساقطين وهو حارس والي وكان يصطاد معه أخذ يهز به أمامي واذكر كيف أن أخي لما حد جني ببصره مسروراً رأى في هذه الأهانة مسرة عظمى. ومثل هذا الخلق كان في والدتي في أخلاقها أرقى من والدي وأسرته اللهم إلا (تانيانا ألكسندر كولسكي) التي قضت معها نصف حياتها وكانت أمرأته مشهورة بأخلاقها المهذبة. ولم يكن أخي وأمي ممن يقولأن الا خيراً عن الناس وكنت أرى شقيقي إذا كان له ما يقال في سيرة أحد أن يبتسم ويبدي حسن الخلق وكذلك كانت أمي كما فهمت من رسائلها.
وكنت قرأت في حياة القديسين قطعة من كلامه تأثرت بها نفسي. ذلك راهباً كان معروفاً عند الناس بكثرة خطاياه فرآه ذات ليلة في عداد الأخيار يسرح ويمرح في أعلى عليين فسأله عن أمره فقيل له أنه لم يغتب أحداً في حياته. قلت فإن كان في عداد الآخرة يشبه هذا فوالدتي وأخي لاشك أحرز هذا الجزاء.
وامتازت والدتي عن محيطها بحرية وجدانها وسذاجة لهجتها في رسائلها فكان القوم إذ ذاك يغالون في إظهار حاساتهم. عادة لهم كانت مألوفة غير مستنكرة فيقول القريب لقريب يكتب إليه أنت منقطع القرين وأني عبدك وأنت بهجة حياتي وكلما كأنت التبجيلات في الاخوانيات قليلة دل ذلك على قلة إخلاص الكاتب للمكتوب إليه. وقد شهدت هذه العادة في رسائل ولكنها كانت معتدلة في إظهارها عباراتها تدل على الاعتدال والإخلاص. قيل لي أن والدتي كانت تحبني حباً جما وتدعونني بتيامني الصغير وقد كانت غنية وكان والدي نشيطاً بهجاً واسع الصيت والصلات وأظن أن والدتي كانت تحب والدي لأنه والد بنيها وزوجها ولم تكن تحبه حب العاشق المستهام وكان حبها لخطيبها الأول الذي اختطفته المنية حب الفتيات الذي لا يشعرن به إلا لمرة واحدة وإن ما أعلمه عم اليقين هو أن أمي كانت تحب ثلاثة حباً حقيقياً وهم خطيبها الأول والآنسة اينيس الفرنسية إحدى صويحباتها وابنها البكر وكانت تنشئ له جريدة ذكر لرغبتها الشديدة في تربيته ما أمكن وهناك دليل على أنها كانت ضعيفة في هذا المعنى لا تدري ما تعمله. مثال ذلك أنها كانت تؤنبه عندما يشتد فيه شعور الإحساس فيبكي مثلاً عندما يشاهد الحيوانات تتألم أمامه لأن على المرء برأيها أن يكون قاسي القلب وكانت تعاتبه على الصغائر كان يقول لجدته أشكرك عوضاً عن أن يقول لها أسعد الله صباحك ومساءك. وأكدت لي خالتي أن أمي كانت تحبني وأني كنت أحد من يحبه قلبها وخلفت والدتي خمسة أولاد كانت آخرهم ابنة ماتت في نفاسها. وظلت مع والدي تسع سنين كانت أيام سعد ورخاء فكانت على علو منزلتها ولطافة أخلاقها وآدابها تحب من حولها ويحبونها وكانت أميل إلى العزلة تصرف وقتها بأولادها ومطالعة الروايات أمام جدتي في الليل بصوت عال والاشتغال بمطالعات نافعة مثل كتاب أميل للفيلسوف روسو والمذاكرة فيما قرأته ويقضين شيئاً من الوقت في الضرب على آلة طرب ثم يتدارسن اللغة الإيطالية وتتنزه وترى أعمال المنزل.
لبعض الأسرات أوقات من الصفاء لا يزعجها موت أحدهم ولا مرض أفرادهم فيعيشون سعداء وهذا الدور صادفته والدتي إلى حين وفاتها فكان والدي يدخل البهجة على قلوب أهل البيت بما يوفره على ذكره من الأضاحيك الملهية والأحاديث المسلية.
هذا ما عرفته من مطالعة المفكرات والرسائل عن والدتي وحياتي في بيتنا على ذاك العهد في الطفولية وهاأنا ذا وصلت إلى وقت ألم فيه بما أذكره بنفسي فأرويه مقروناً بأشخاصه وأماكنه. أما والدي فقد كان عمره سنة 1812 سبع عشر سنة انخرط في سلك الجيش على كثرة توسل أهله به ليرجع عما قصده له خوفهم عليه وكان إذ ذاك أحد أنسائنا قائد الجيش العامل فعينه له حاجباً واشترك في حرب سنة1813 - 1814 وأسره الفرنسيين ولم يخلص من الأسر إلا سنة 1815 عندما دخل جيشنا باريس.
بلغ العشرين من عمره ولم يكن على شيء من العفاف حتى أن أهله زوجوه بخادمة وكان عمره ست عشر سنة تفادياً من أن تسوء صحته على نحو ما كان القوم يذهبون إليه إذ ذاك فولد له منها ابن دعوة ميشانكا عاش في حياة والدي عيشة حسنة ثم ساءت حاله فكأن كثيراً ما يلجأ إلينا لنعينه وأني لا أذكر شعور التعجب الغريب الذي شعرت به عندما أمسي أخي هذا شحإذا يستو كف الأكف وهو شبيه في خلقته بأبي بل أشدنا به شبهاً ثم يجيء ويطلب منا أن نحسن إليه بشيء من المال ويسر بما ندفعه إليه من عشرة روبلات أو خمسة عشر. ثم تنحى والدي عن الخدمة ونال راتب العزل ولحق بجدي في قازان وكان حاكمها وبعد قليل ذهب جدي إلى سبيله وأصبح والدي رب أسرته مع جدتي المعتادة على البذخ والديون مثقلة كأهل بيتنا وعندئذ تزوج والدي بوالدتي على نحو ما شرحته آنفا من أمرها.
كان والدي دموياً ربعة القوام مقبول الوجه كثيب النظر يعنى بأمور زراعته ولم يكن معروفاً بالقسوة بل كان إلى الضعف أقرب بحيث أني لم أسمع إنه كان يضرب فلاحيه على أجسادهم على نحو العادة المتبعة في هذه الديار على أنه لم يبلغني إنه كان في بيتنا أثر لهذه العقوبات إلا بعد موته. وحدث ما شئت أن تحدث عن مبلغ استغرأبي يوم كنت آتياً من نزهة لي مع مؤدبي وسأل أحدنا وكيلنا وكان مع سائس الخيل عن المكان الذي يقصده فقال له أنه ذاهب إلى الأنبار ليضرب السائس على بدنه ورحت من ساعتي أسأل خالتي عن سر ذلك وكانت هي تكرر العقوبة بالضرب فلامتني على أني لم أوقف ذاك الوكيل عن عمله ولكن بعد أن سبق السيف العذل.
كان أبي مصروفاً إلى الزراعة وفض القضايا التي خلفها له والده وكان يذهب إلى الصيد ويحب المطالعة كثيراً وقد اقتنى مكتبة فيها كتب آداب الفرنسيس وبعض كتب العلم وإلى على نفسه أن لا يبتاع كتاباً جديداً حتى يأتي على ما لديه من الأسفار ويطالعها برمتها ولم يكن به ميل إلى العلوم. بيد إنه كان في علمه يعادل المتعلمين من أهل عصره ولا يصح أن يسمى من الأحرار في دهره بل كأن يكره كل تغيير شيء من حاله فلا يخضع للكبراء ولا يزور الموظفين بل ولا يزورنا واحد منهم لما كان بينه وبين أهل الحكم في ذاك الوقت من التباين الضمني في المبادئ والغايات.
وأني لا أذكر والدي وهو جالس على ديوانه يدخن بغليونه وأذكر صيوده وأذكر أيامه واجتماعنا به وتحفيظي شيئاً من شعر بوشيكن وكيف أعجب بتلاوتي له. نعم أذكر رحلاته وغدواته ما كان يفيضه علي من حسناته وإحسانه وأذكر حبه وحبي ذلك الذي شعرت به بعد موته أكثر من شعوري به من قبل. وهنا استطرد إلى ذكر شيء مما علق بذهني من أمور طفولتي أذكرها وأنا لا أثتثبت بعضها حقيقة أم خيالية. ولقد كنت في القماط وأريد أن أفلت يدي ولا أستطيع ذلك وأصرخ وأبكي وصوتي كان منكراً حتى في عيني ولكن ما كنت أتمالك نفسي من البكاء وأرى أحدهم في قربي يحنو علي ولا أذكر شخصه وأرى ذلك كانه ظلم أو يكاد يكون ظلماً ولكني أذكر إنهما كانتا اثنتين وكان صوتي يؤثر فيهما فكانتا تسمعان صوتي ولكنهما لا تنقذاني مما أشكو منه ثم أصرخ بشدة أيضاً فيريان أنه من اللازم أن أكون مقيداً في قماطي وأنا أرى أنه ليس كذلك وأريد أن أثبت لهما ذلك وأصرخ صوتاً حاداً كانت نفسي تنكره ولكن لم أكن أتمالك منه وأشعر بالظلم والقسوة لا من الناس فقط بال من الأقدار إذ كنت أشهد الناس يرثون لحالي وكنت أشفق على نفسي ولا أعرف ذلك ما هو ولن أعرفه عندما كانت سني تزيد على السنة.
وعلى الجملة فقد كأن ذلك من المؤكد أول تأثر بل أشده شهدته في حياتي ولا أذكر صوتي والأمي فقط بل أذكر مزاجي واختلاف تأثراتي. أطلب الحرية وهي لا يتضرر بها إنسان وأنا على حاجتي إلى القوة ضعيف وهم الأقوياء وكذلك أذكر عندما كانوا يغطسونني في القادوس وقد جعلت فيه رائحة زكية جديدة يمسحون بها جسدي واستلذ جلوسي في القادوس وهو صقيل لطيف والماء فاتر خفيف ويد مربيتي تروح وتجيء تدلك بدني. وهاتأن الذكريتان هما اللتان أذكرهما منذ ولادت إلى الثالثة من عمري بل إلى الخامسة لا أكاد أذكر السماء ولا الشمس ولا الورق ولا العشب. بحيث ساغ لي أن أقول أني عشت عيش البهيم أيام كنت أتعلم وأنظر وأنصت وأحاول أن أتكلم وأنام وأرضع وأضحك وأسر والدتي في ذاك العهد حصلت ما أعيش به الآن حصلت به في مدة وجيزة بأقصى ما يمكن من الكثرة بحيث أني لم أستطع أن أزد وأحداً في المئة على هذه المعرفة. وليس بيني وبين ابن الخامسة سوى مسافة لا تصدق وليس بين الجنين والولادة سوى هوة وليس بين العدم والجنين سوى شيء صعب تعليله ومعرفته. وهنا يقال أن الوقت والسبب هما صور الفكر وأن الوقت والسبب هما من الفكر وأن معنى الحياة خارج عن تلك الصور بيد أن حياتنا كلها سوى الخضوع المتواتر لهذه الصور أو الخلاص.
أما تذكاراتي القصية فإنها ترجع إلى السنة الرابعة أو الخامسة من عمري وكلها قليلة لا تتعدى حد البيت والعيش المنزلي وما أنس لا أنس في طفولتي وأنا على سروري فرح مبتهج ووصيفتي أو اللائي عهد الهين تربيتي تقص علي قصة ايرميفتا (كما تخوف عامة النساء في الشرق الأدنى الأولاد بالعفريت والبع بع) فكانت تنقبض نفسي لسماعها وأتبدل البهجة بالفزع والفرح بالترح وأذكر شقيقتي بجانبي وأذكر مؤدبنا الألماني تيودور ايفا نو فبتش وأن لم أكن في تلك السن تحت وصايته وأذكر دارنا وأنها كانت شاهقة وأذكر ما ألقاه فيها من النساء وربما كن الغسالات وكيف كنت أقفز ويقفز معنا مؤدبنا ولكن قفزة خفيفة.
هذا ما يتردد في خاطري من ذكرى الحوادث التي طرأت علي قبل الخامسة أما بعدها فإن ما أذكره ولا أنساه هو أخذهم بيدي إلى المؤدب ايفإنوفيش واستعاضتي عن اللعب والقفز وغيرهما بالدراسة وتبديل ما كنت ألفته بعادات أخرى ومنازع جديدة. وهنا ذكر الحكيم خالته تاتيانا الكسندر وفنا وما أثرته بأعماله في حياته وكانت من النساء المتهذبات فعلمته الحب والميل إلى الوحدة والتأثر من المظالم.