الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 20/اليونان

مجلة المقتبس/العدد 20/اليونان

بتاريخ: 15 - 9 - 1907


أثينة

الشعب الأثيني

اتيكيا - فاخر الأثينيون لسكنأهم أبداً بلاداً واحدة وأدعى أجدادهم أنهم ولدوا من الرمل كالزيزان. وقد اجتاز الفاتحون من سكان الجبال بالقرب من بلادهم ولم يهاجموها وقلما دعتهم اتيكيا إلى قتالها. هذه المقاطعة مؤلفة من جبال شاهقة صخرية ناتئة في البحر على شكل مثلث الأضلاع. وهذه الصخور المشهورة بقطع رخامها وبعسل نحلها جرداء مرداء بينها وبين البحر ثلاثة سهول صغيرة قاحلة لا تروى (الجفاف سواقيها في الصيف) ولا تقوم بتغذية أمة كبيرة.

أثينة - على فرسخ من البحر في أعظم تلك السهول قامت صخرة عظيمة وحيدة منتصبة وقد أنشئت أثينة في سفحها. أما المدينة القديمة التي كانت تدعى الأكروبول (المدينة الغالية) فإنها كانت في قمة الجبل. وقد أخذ سكان اتيكيا يتفرقون إلى ممالك عديدة فكانت كل قرية تحكم نفسها بنفسها ولها ملك فجمع جميعها تحت زعامته وهو ملك أثينة فيتألفون بذلك مدينة واحدة وليس معنى ذلك أنهم كلهم يحطون رحالهم في المدينة. بل يظل كل معبودة أثينة وخضعوا بأجمعهم لملك واحد.

ثورات أثينة - قد رجعت أثينة فنزعت السلطة الملكية واستعاضت عنها بتسعة زعماء (أركون) يتبدلون كل عام. وأنا لنجهل هذا التاريخ كل الجهل إذ لم يبلغنا عن ذاك الوقت أقل كتابة نستند إليها. ويروى أن الأثينيين عاشوا قروناً في شقاق يضطهد إشراف أصحاب الأملاك (أوبا تريد) العملة من أصحاب المياومات في أرضيهم وببيع الدائنون مدينيهم بيع الأرقاء. ولقد عهد الأثينيون حباً بتوطيد الراحة إلى صولون أحد حكمائهم أن يسن لهم قوانين يسيرون عليها فقام بثلاث إصلاحات: أولاً تقليل قيمة السكة وهو مما سهل على المدينون أن يوفوا ما عليهم من أهون سبب. ثانياً جعل الفلاحين ملاكاً للأراضي التي يزرعونها ومن ذاك الحين صار في اتيكيا كثير من صغار أصحاب الأملاك مما لم يعهد مثله في بلاد يونانية. ثالثاً قسم السكان العامة إلى أربع طبقات يحسب مداخليهم وقضى على كل منهم أن يؤدي الضرائب ويقوم بالخدمة العسكرية على نسبة ثروته. أما الفقراء فأعفأهم من الضرائب والخدمة. ولقد خضع الأثينيون بعد صولون إلى بيزيستراس أحد أبنائهم العالمين العارفين ثم بدأ الاضطراب سنة510

إصلاح كليستين - استفاد كليستين أحد زعماء الأحزاب من هذه الاضطرابات فقام بثورة عظيمة. ولقد سكن كثير من الغرباء في اتيكيا وكان معظمهم ملاحين وتجاراً يقطنون مدينة بيرا بالقرب من المرفأ. فأعطأهم كليستين حقوق الوطنيين وساوأهم بالسكان الأقدمين فصار من ثم في تلك المقاطعة شعبان مختلفإن سكان اتيكيا وسكان بيرا وكانا يتميزان إحداهما عن الآخر بعد ثلاثة قرون من هذا الاختلاط باختلاف سحناتهم فيشبه أهل اتيكيا سائر اليونانيين ويشبه أهل بيرا الأسيويين. وهكذا زاد الشعب الأثيني فأصبح أمة جديدة ومن أكثر سكان بلاد اليونان حركة ونشاطاً حتى إذا كان القرن الخامس تألفت الهيئة الاجتماعية في أثينة تأليفها الأخير فكان ثلاث طبقات يقطنون اتيكيا ألا وهم الموالي والأجانب والوطنيون.

الموالي - الموالي هم السواد الأعظم من أهل البلاد فلم يكن ثمة رجل مهما بلغ من الفقر المدقع إلا ويملك مولى أما الأغنياء فيملكون منهم كتيبة وملك بعضهم نحو خمسمائة مولى وكان من شأن هؤلاء الموالي أن يبقوا في الدور وشغلهم في الطحن والعجن وحياكة الثياب ونسجها وطبخ الطعام وخدمة سادتهم. ويعمل بعضهم في المعامل حدادين وصباغين أو يشتغلون في المقالع والمناجم الفضية. ويقوم سيدهم بأودهم ولكنه يبيع لنفسه كل ما تنتجه أيديهم ويأتي ثمرة أعمالهم ولا يعطيهم من جميع ذلك إلا الطعام. فكان عامة الخدمة والعاملين في المناجم ومعظم الصناع عبيداً وأرقاء. يعيشون في المجتمع دون أن يعدوا منه بل لا يتصرفون بأنفسهم وهم ملك موإليهم جسماً ومادةً. ولم يعتبروا إلا اعتبار عروض تملك وربما دعوهم أجساداً وليس لهم من شريعة غير أرادة سيدهم. ولسيدهم عليهم كل حق وسيطرة فإن شاء شغلهم وإن شاء حبسهم وإن شاء حرمهم من طعامهم وإن شاء ضربهم وإذا نشأت لأحد الوطنيين قضية يتأتى لخصمه أن يطلب تعذيب موإليه ليقروا بما يعملون. وقد امتدح عدة خطباء أثينيين هذه العادة وعدوها ضرباً من ضروب الحذق لأخذ شهادة صحيحة. قال الخطيب ايزيه أن التعذيب أحسن واسطة لنيل البراهين إلى كشف القناع عن محيا الحقيقة بجعل العبدان في العذاب الشديد.

الأجانب - هم ناس من أصول مختلفة يقيمون في اتيكيا وهم الذين يدعون الميتيكيين (أي المتساكنين) ولم يكف الرجل كما هو الحال عندنا أن يولد في أرض أثينة ليعد وطنياً بل يجب أن يكون ابن وطني. وعبثاً استوطن الطراء في اتيكيا أجيالاً كثيرة وما عدت قط أسراتهم أثينية. فالميتيكيون والحالة هذه لم يكن لهم أن يشتركوا في الحكومة ولا أن يتزوجوا وطنية ولا أن يقتنوا ملكاً على حين كانوا أحراراً في أشخاصهم ولهم حق السفر في البحر وأن يكونوا صيارف وتجاراً على شرط أن يتخذوا لهم زعيماً ومولى يمثلهم أمام القضاء. وكان في أثينة زهاء عشرة آلاف أسرة من الميتيكيين ومعظمهم صيارف وتجار.

الوطنيون - اقتضت الحال أن يكون الإنسان ابن وطني أو وطنية ليكون وطنياً أثينياً ومتى بلغ الفتى الثامنة عشرة من عمره يعد عندهم رأشداً فيقف أمام جموع الشعب ويدفع إليه السلاح الذي يقضي عليه حمله ويقسم يميناً فيقول: أقسم أنني لا أهين هذا السلاح المقدس ولا أغادر موقفي في صفوف الأعداء وأن أخضع للحكام والقوانين وأشرف دين وطني. فيكون بهذا الحلف وطنياً وجندياً معاً ويقضي عليه بعد أن يخدم الجندية إلى سن الستين وله لقاء ذلك حق الجلوس في مجلس الأمة والقيام بوظائف الحكومة وربما رضي الشعب الأثيني بجعل رجل وطنياً على حين ليس هو ابن وطني ولكنه يرضى بذلك على صفة استثنائية وتوسعاً في المكرمة العظيمة. فيوأفق المجلس على قبول الغريب وينبغي أن ينتخبه على الأقل ستة آلاف وطني بعد تسعة أيام من هذا الاقتراع وفي جلسة ثانية وذلك في انتخاب سري. والشعب الأثيني هو كدائرة مطبقة لا يدخل فيه أعضاء جدد إلا إذا رضي الأعضاء القدماء على أنهم لا يقبلون غير أبنائهم.

المجلس - يلقب الأثينيون حكومتهم بالحكومة الديمقراطية (أي حكومة الشغب) وليس هذا الشعب ما نعني به عندنا من جمهور السكان بل هو جماعة الوطنيين وخلصاء الإشراف وعددهم بين خمسة آلاف إلى عشرون ألف رجل وهم زعماء الأمة بأسرها. ولهؤلاء الجماعة سلطة مطلقة وكلمة عليا وهم في التحقيق ملوك أثينة فإن مجلسهم يلتئم ثلاث مرات في الشهر للمفاوضة والاقتراع. يجتمعون في الهواء الطلق في ساحة البينكس فيجلس الوطنيون على مقاعد من حجر ذات درجات ويقعد الحكام بإزائهم على مصطبة ويفتحون الجلسة باحتفال ديني وصلاة يصلونها ثم يعلن المنادي بصوت جهوري بالمسألة التي يتناقش فيها المجلس قائلاً من منكم يشرع بالكلام أولاً. ولكل وطني الحق أن يطلب ذلك. وعندها يصعد الخطباء المنبر بحسب تفاوت أعمارهم ومتى تكلموا كافة يضع الرئيس المسألة المطلوبة على بساط البحث فيقترع المجلس بأن يرفع أعضاؤه أيديهم ثم ينصرفون.

المحاكم - لما كان الشعب حاكماً فهو يقضي في القضايا لذاته وبذاته ولكل وطني بلغ الثلاثين من عمره أن يكون من أعضاء مجلس فيجتمع الحكام في القاعات الكبرى فرقاً كل فرقة مؤلفة من خمسمائة نسوة. وفي كثير من القضايا يلتئم فرقتان أو ثلاث فرق من الحكام فتتألف المحكمة من جمهور يبلغون ألفاً أو الفاً وخمسمائة قاض ولم يكن للأثينيين حكام كما هو الحال عندنا لرفع القضايا بل كانت هذه المهمة من وظيفة الوطني الذي يعهد إليه تجريم المجرمين. فيمتثل المدعي والمدعى عليه أمام المحكمة ويخطب كل منهما خطبة تزيد على وقت حدد بساعة دقاقة مائية. ثم يبدأ القضاة بالموافقة على وضع حصاة بيضاء أو سوداء فإذا توفر للمدعي بضعة آراء (أصوات) زيادة على خصمه يحكم عليه ويجرم.

الحكام - كان الشعب الحاكم في حاجة إلى مجلس لوضع المسائل موضعها من البحث وإلى حكام ينفذون ما يقرره ويتألف المجلس من خمسمائة وطني تصيبهم القرعة حولاً كاملاً. وإذا كثر عدد الحكام خص عشرة منهم لتعبئة الجيش وقيادته وثلاثون لإدارة الشؤون المالية وستون منهم يعهد إليهم خطة الحسبة من النظر في الشوارع ونظافتها والأسواق وبياعاتها والأوزان والقياسات وما يتبعها.

متعة هذه الحكومة - لم تكن السلطة في أثينة في أيدي الأغنياء والشرفاء كما كانت في إسبارطة بل كانت تقرر كل مسألة بأكثرية الآراء وتتعادل الآراء فيجري انتخاب الحكام وأعضاء المجلس والعمال بالقرعة. إلا القواد فإنهم لا ينتخبون كذلك. والوطنيون يتساوون لا من حيث الأمور النظرية بل من حيث الأمور العملية. ولقد قال الحكيم سقراط لأحد أهالي أثينة المنورين وكان لا يجرأ على الكلام أمام الشعب يا هذا ممن تخاف؟ أمن القصارين أم من السكافين أو من المعمارين أو الحرأثين أم من السوقة والمرتزقين فمن هاته الطبقات يتألف المجلس وكثيرون من هؤلاء الحكام مضطرون إلى الاحتراف ليعيشوا ولم يكن في وسعهم أن يخدموا الحكومة بالمجان ولذلك عينت لهم مشاهرات وأجوراً سانتيماً من سكنتا وهو القدر الذي يتأتى لرجل أن يعيشوا به ذاك العصر. من أجل هذا العصر الأعضاء الفقراء في هذه المجالس وجلسوا على دكات المحاكم مع الأغنياء كتفاً إلى كتف ووجهاً إلى وجه.

الفوضويون من الشعب_لما كانت تفصل المسائل برمتها في المجلس أو المحاكم بالمناقشة فيها وإلقاء الخطب في مضامينها كان فصحاء القوم هم أرباب المكانة المكينة في الأمة. فاعتادت هذه أن تسمع لأصوات الخطباء وأن تعمل بنصائحهم وتعهد إليهم في السفارات وأن تعينهم قواداً وزعماء. ويدعى هؤلاء الرجال الفوضويينأو زعماء العصاة. أما حزب الأغنياء فيضحك منهم. وقد مثل أريستوفإن الشعب في إحدى الروايات الهزلية في صورة شيخ سخيف فقال: أنت غبي تصدق كل ما تسمع تستسلم لأهل النفاق والدسائس يتلاعبون بك على هوأهم وتغتبط بالسعادة متى خطبوا فيك. وقال أحدهم خطاباً لا حد نزاع الآفاق. أنت يا هذا شقي فظ غليظ وصوتك شديد وفي بلاغتك من القحة وفي حركاتك من السرعة ما يؤهلك على ما رأى إلى كل ما يلزمك لحكم أثينة.

الحياة المنزلية

اخترع الأثينيون وظائف كثيرة عهد القيام بها إلى فئتين من الوطنيين. فكان الوطني الأثيني كالموظف والجندي في أيامنا مهتماً بالانصراف إلى الأعمال العامة يصرف أيام حياته في إشهار الحرب والحكم على الشعب يقضي أيامه في المجلس أو في المحكمة أو في الجيش وفي محال الرياضة أو في السوق وكان له أبداً امرأة وأولاد لأن الدين يأمره بذلك ولكنه ما كان يعيش البيوت.

الأولاد_يحق للوالد عندما يولد له مولود أن يطرحه ويطرده خارج بيته فيموت طريحاً إذا لم يلتقطه أحد أبناء السبيل ويربيه ليجعله مولى له. وأنت ترى أن أثينة اتبعت في هذا خطة جماع الشعوب اليونانية. والبنات كن ينبذن في العراء ويطرحن خارج المنازل أكثر من البنين قال أحد الخطباء الهزليين أن الابن يربى في الغالب ولو كان ذووه في أقصى دركات الفاقة أما الابنة فتهمل ولو كان أهلها من الغنى على جانب. فإن قبل الوالد الولد يعد من الأسرة ويترك أولاً في مساكن النساء بالقرب من الأم حيث يظل البنات إلى أن يتزوجن أما البنين فينفصلون عن تلك البيوت في السابعة من عمرهم فيسلم الطفل الأثيني إلى المربي الذي يعهد إليه تعليمه وتحسين هيئته والخضوع والطاعة وكثيراً ما يكون المعلم من طبقة الموالي إلا أن والد الطفل جعله في حل من ضرب ابنه. وهذه كانت عادة عامة في القدم. ثم يذهب الولد إلى الكتاب يتعلم القراءة والكتابة والحساب وإنشاد الأشعار والتغني مع جماعة الموسيقيين على نغمات المزمار ثم يأخذ في سبيل تعلم الألعاب الرياضية وهذه غاية ما يتعلمه الولد فيجيء من هذا التعليم من أبناء الأثينيين رجال صحيحة أجسامهم هادئة أفكارهم يدعوهم اليونانيين أهل الصلاح والجمال. أما الفتاة فتظل بالقرب من أمها لا تتعلم شيئاً. ويذهبون إلى أنه يكفي الابنة الأثينية أن تحسن الخضوع وتتشبث بأهداب الطاعة. وقد مثل كسينوفإن أحد أغنياء الأثينيين المهذبين وهو يخاطب الحكيم سقراط في شأن زوجه قال: لم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى تزوجتها وقد كان ذووها جعلوها إلى ذاك العهد تحت المراقبة الشديدة وأرادوا أن لا تبقى وتعيش ولا تسمع شيئاً على التقريب مما أهلها لأن تكون امرأة تحسن نسيج الصوف وتصنع منها ثياباً ورأت بأي الطرق يستخدم الأماء والخادمات. ولما اقترح عليها زوجها أن تكون شريكة في حياته أجابته مدهوشة: على أي أمر أعينك وهل أنا قادرة على شيء؟ فلطالما قالت لي أمي إن شأني الخاص بي أن أكون عأقلة. فمعنى كون المرأة عأقلة أن تخضع وهذه هي الفضيلة التي تطلب إلى المرأة اليونانية.

الزواج - تتزوج الفتاة في الخامسة عشرة من سنها وأهلها يختارون لها زوجها فيكون تارة شاباً من أسرة قريبة أو رجلاً طاعنا في السن من أصدقاء والدها ولا يعدو أبداً أن يكون وطنياً أثينياً وقد تعرفه الفتاة من قبل في بعض الأحوال وما قط أخذ رأيها في معنى زواجها. ولما تكلم المؤرخ هيرودتس عن أحد أبناء يونان قال: إن كالياس هذا جدير بأن يتكلم المتكلمون في أمره للخطة التي يسلكها مع بناته فإنهن متى صلحن للزواج ينحلهن من المال شيئاً كثيراً ويسمح لهن باختيار أزواج لهن من أبناء الأمة ويزوجهن بمن ينتخبنهم.

النساء - كان في داخل كل بيت أثيني مسكن منعزل بالنساء يدعى الحرم ولا يختلف إلى هذا المسكن غير الزوج والأنسباء وتبقى فيه ربة البيت دائماً مع صويحباتها وإمائها تراقب أعمالهن وتلقنهن أصول تدبير المنازل وتوزع بينهن الصوف ليحكنه وهي تشغل نفسها بحياكة الثياب أيضاً. وقلما كانت تخرج من دارها إلا في الأعياد الدينية ولا تظهر في مجتمعات الرجال قط. قال الخطيب أزيس: حقاً أنه لم يكن لأحد أن يجرأ على الغداء عند امرأة مزوجة فإن النساء المزوجات لا يخرجن لتنأول الطعام مع الرجال ولا يسمحن لأنفسهن أن يأكلن مع الغرباء وغير المحارم. وما كنت لتنأول المرأة التي تخالط الرجال معدودة في جملة النساء المحتشمات المهذبات. وهكذا لم تكن المرأة وهي على حالها من الاعتزال والجهل ذات عشرة مقبولة فيتزوج بها الرجل لا لتكون شريكة حياته بل لتقوم بأمر بيته وتلد له أولاداً ولأن العادة والدين عند اليونانيين يقضيان بأن يكون للمرء حليلة. وقال أفلاطون إذا تزوج المتزوج فليس برضاه وذوقه السليم بل لأن شريعة تقضي عليه بذلك. وقال مياندر الشاعر الهزلي هذه العبارة: إذا شئت التحقيق فقل أن الزواج شر ولكنه شر لا مناص منه. ولذا كان أبداً للنساء في أثينة كما في معظم المدن اليونانية مقام وضيع في المجتمع.

الحروب المادية

بينما كان اليونان أخذين في تنظيم مدنهم كان الفرس يجمع شتات بلاد الشرق كافة تحت لواء واحد. ولقد تقابل اليونان والمشارقة وكان المصاف بينهم لأول الأمر في آسيا الصغرى. وكان على شاطئ آسيا مستعمرات يونانية غنية مأهولة فطمح قورش ملك فارس في ضمها إلى بلاده فبعثت تلك المستعمرات تستنجد بالإسبارطيين وقد اشتهروا بأنهم أجرأ أبناء اليونان وأنذروا بذلك قورش فأجابهم بقوله: أنني ما خشيت قط هذا الضرب من الناس الذين يجتمعون في ساحة وسط مدنهم ليخدع بعضهم بعضاً بالإيمان والعهود (كلامه على ساحة السوق) فغلب أبناء اليونأن في آسيا وأصبحوا رعايا ذاك الخاقان الأعظم. وبعد ثلاثين سنة تقابل الملك ادوارد مع يونان أوروبا ولكنهم ظهروا عليه هذه المرة فأرسل الأثينيون عشرين سفينة على الأيونيين العصاة فدخل جندهم في ليديا واستولوا عنوة على مدينة ساردس عاصمة ليديا وأحرقوها. فإنتقم دارا عن ذلك بأن خرب المدن اليونانية في آسيا ولم يبق على يونان أوروبا. وقيل أنه أمر أن يتمثل لديه ضابط في كل مأدبة على مسامعه قوله: مولاي تذكر الأثينيين. وقد بعث إلى المدن اليونانية يطلب تراباً وماءً. وهذه الإشارة الشائعة عند الفرس كانت دلالة على أن شعباً يخضع بلاده لسلطة الخاقان الأعظم فأوجس معظم اليونانيين خيفة واستسلموا خاضعين باخعين فطرح الإسبارطيون المندوبين من الفرس في بئر قائلين لهم أن يأخذوا منها ماءً وتراباً يحملونهم إلى ملكهم. وهذه كانت فاتحة الحروب المادية.

مبادلة الخصمين - أن التباين بين هذين العالمين المتحاربين قد أشار إليه هيرودتس أحسن إشارة في صورة محاورة بين كسيركيس ملك الملوك وديمارات أحد المنفيين من الإسبارطيين فقال هذا: أتجاسر أن أؤكد لك أن الإسبارطيين يعلنون عليك حرباً حتى ولو انحاز سائر أبناء اليونان كافة إلى حزبك ولو لم يبلغ جيشهم ألف رجل. فأجاب كسيركيس ضاحكاً وليت شعري هل في وسع ألف رجل أن يشهروا حرباً على هذا الجيش الكثير العدد والعدد وأني لا أخشى أن يكون في كلامك تحذلق كثير. وهب أن عددهم خمسة آلاف فنحن زهاء ألف لقاء واحد. فلو كان لهم زعيم مثلنا فإن الخوف يحمسهم ويزيد نفوسهم مضاء فيزحفون يضرب السياط على جيوش أكثر مما خصتهم به الفطرة. يقول ديمارات أن ليس الإسبارطيون دون غيرهم في حرب يتلاقى فيه المتحاربون جسداً لجسد حتى إذا انضموا بعضهم إلى بعض صاروا جيشاً برأسه ومن أشجع الناس وإمضأهم. وقصارى القول فإنهم وإن كانوا أحراراً في الظاهر ليسوا كذلك في سائر شؤونهم فلهم حاكم مطلق ألا وهو القانون فهم يخافونه كثيراً ويرهبون بأسه أكثر من رهبة رعايانا لك. يطيعونه والقانون يأمرهم أن يثبتوا في مصافهم أبداً إلى أن يغلبوا أو يموتوا - إليك حال هذين الحزبين أحدهما مع الآخر فترى من جهة عدداً عديداً من الرعايا تضمهم القوة بزعامة رئيس ذي هوى وشهوات. ومن جهة ثانية جمهوريات صغرى محاربة يحكم أبناؤها أنفسهم بأنفسهم بقوانين يحتفظون بها ويرعونها.

الحرب المادية الأولى - نشبت حربان ماديتان كأنت الأولى بمثابة حملة على أثينة فأرسل داراً ستمائة سفينة أنزلت جيشاً فارسياً في سهل ماراتون الصغير على سبع ساعات من أثينة. ولقد كان دين الإسبارطيين يحظر عليهم أن يسيروا قبل أن يكون الهلال بدراً وكان القمر إذ ذاك في الربع الأول فقضي على الأثينيين أن يحاربوا وحدهم فجاء عشرة آلاف من الوطنيين مسلحين سلاح الأبطال وأقاموا لهم معسكراً أمام صفوف الفرس بقيادة عشرة قواد يتناوبها كل منهم يوماً حتى إذا كانت نوبة القيادة لملتيادس عبى جيشه للحرب فهاجم الأثينيون صفوف الأعداء على صفوف مشتبكة فلما رأهم الفرس اقتربوا منهم ولم يجعلوا في مقدمتهم فرساناً ولا دارعين فظنوهم جنوا وأضاعوا رشدهم. وهذه هي المرة الأولى التي جسر فيها اليونان صفوف الفرس في حرب منظمة. فطفق الأثينيون يحملون على جناحي الجيش ويمزقونه كل ممزق ثم رجعوا إلى القلب وحملوا الفرس على الهزيمة نحو البحر واضطرابهم إلى معاودة ركوب البحر وكان من نصرة اليونأن في حرب الماراتون أن أنقذتهم وأطارت صيتهم في أرض يونان كلها.

حرب مادية ثانية - نشبت الحرب بعد عشر سنين بغارة فجمع كسيركيس بن دارا شعوب بلاده كلهم ويقال أن جيشه البري بلغ مليوناً وسبعمائة ألف مقاتل مؤلفاً من ماديين وفرس لابسين قمصاناً ذات أكمام مسلحين بدبأبيس محددة الرؤوس ومن هنود يلبسون ثياباً قطنية يحملون أقواساً ونبالاً من خيزران ومن زنوج يلبسون جلد النمور ومن قبائل رحالة ليس لهم سلاح إلا ما كان من حبل ذي أنشوطه ومن فرنجين مسلحين بحراب قصيرة وأتراس صغيرة ومن ليديين مجهزين على الطريقة اليونانية ومن تراكسيين يحملون حراباً ومدى وقد شغل تعداد صفات الجيش عشرين فصلاً في تاريخ هيرودتس. وكان هؤلاء المحاربون يجرون وراءهم جموعاً توازي الجموع المدربة على القتال من خدمة للجيش وموالي من النساء وكثير من البغال والخيل والجمال والعجلات المشحونة بالأثقال ولقد اجتاز هؤلاء الأخلاط هيلسبون على جسر قام من مراكب في ربيع سنة 481 وظلوا يتابعون سيرهم سبعة أيام بليإليها تحت ضرب السياط ثم اجتازوا تراكسيا وساروا على بلاد يونان يجرون بالقوة وراءهم من يصادفونه من الشعوب فكان الأسطول الفارسي وهو مؤلف من ألف ومائتي سفينة حربية يمشي على شواطئ تراكسيا مجتازاً ترعة جبل أتوس الذي خرقه كسيركيس عمداً. فدخل الرعب في قلوب اليونانيين وخضع معظمهم لخاقأن الفرس فضموا جندهم إلى الجيش الفارسي. وراح الأثينيون يستشيرون هاتف دلفيس فأجابهم أولا أن أثينة تخرب ويكون عإليها سافلها حتى إذا تضرعوا إليه أن يجيبهم بجواب يبعث على الطمأنينة رد عليهم بقوله: إن زيوس يمنح بالاس (حامية أثينة) جداراً من خشب لا يتأتى الاستيلاء عليه وحده وأنكم لتجدون فيه سلامتكم أنتم وبنوكم. ولقد حث العرافون الذين طلبوا إليهم أن يفسروا كلام هذا الهاتف جماعة الأثينيين على مغادرة اتيكيا وأن يذهبوا ليستوطنوا مكاناً آخر. وفسر تمستوكلس جدار الخشب بالمراكب. فقضت الحال إذا أن يرجعوا على الأسطول ويحاربوا الفرس في البحر.

وإذ قد عزم أهل أثينة وإسبارطة على المقاومة أخذوا يبحثون في تأليف عصابة اليونأن للحكم على الفرس فاجترأت بعض المدن على الدخول في هذه العصبة وانضموا تحت قيادة إسبارطة ولما نشبت أربع حروب في عام واحد قرروا القتال فسحق الفرس ليونيداس ملك إسبارطة في الترموبيل وكان معسكراً لسد فم أحد المضايق وضرب الأسطول اليوناني الأسطول الفارسي في سلامينة وكان مجتمعاً في خليج يزحم بعضه بعضاً وبدد أبطال اليونأن في بلاتيه الجيش الفارسي الذي بقي في بلاد اليونان ولم ينج من ثلاثمائة ألف رجل سوى أربعين ألفاً ونزل في ذاك اليوم جيش يوناني في ميكال على شاطئ آسيا وهزم الفرس وهكذا غلب اليونأن الخاقان الأعظم صاحب فارس.