مجلة المقتبس/العدد 2/تأثير الآداب
→ الصحافة العربية | مجلة المقتبس - العدد 2 تأثير الآداب [[مؤلف:|]] |
البشر والشعوب ← |
بتاريخ: 26 - 3 - 1906 |
للآداب معان كثيرة فمعناها اللغوي حسن الأخلاق وفعل المكارم وأطلقه المولدون في الإسلام على علوم العربية وأعني به هنا المنظوم والمنثور من الكلام ومنزلته من الفصاحة والبلاغة ليفعل في الأرواح فعل الراح. ولكل أمة أدب بحسب اصطلاحها ورسوم لغتها يطرب به عامتها فضلاً عن خاصتها وتثار به الأحقاد وتحرك الحفائظ وتدعى به إلى سبل السلام والوئام ويدلها على مواقع السداد والسؤدد ويذكرها بأيامها وأيام النازلين بقربها والقاصين عنها وهو على الجملة مسبر للوقوف على الحاضر والغابر ومهماز يدفع إلى العمل بعد القول ومثار كل فضيلة رافعة ومنار كل نجح عاجل أو آجل.
لابد في كل نهضة دينية كانت أو مدنية أن تتقدمها الآداب ويتفانى أبناؤها في حبها شهد بذلك تاريخ الأمم جمعاء. ألا ترى أن أديب القبيلة في الجاهلية كان يتدفق من لسانه معين البلاغة فتفعل كلماته في قبيلته يعقد بها سلمها ويشهر حربها ويعدد مفاخرها ومآثرها ويدون تاريخها وأيامها وإن سوق الأدب عند العرب لما نفقت وكثر تغاليهم في نقلها وإنشادها وأصبحت بينهم للبلاغة دولة، ولجوامع الكلم تأثير وصولة، نزل القرآن فأدهش بإعجازه البلغاء، وأسكت ببيانه مصاقع الخطباء، وتأدب رجال الخطابة والكتابة بآدابه وتبيانه فزاد تأثير الشعراء والخطباء أكثر من ذي قبل حتى كان أهل الحكم يحاذرون فلتات ألسنهم فيوسعون لهم من برهم ما يقطعونها به.
ولما أخذت الآداب موقعها من النفوس ونالت حظها من العناية ونضجت ثمرتها حتى كادت تذبل عرف العرب أن كيانهم لا يقوم بالآداب وحدها وسلطتهم لا تأمن البوائق ببنات الأفكار وإن دور الأقوال انقضى حكمه وجاءت النوبة للأفعال ونضبت مادة البيان ومست الحاجة إلى البرهان فأنشأوا إذ ذاك يتوفرون على الأخذ من كل علم يزيد في سعادتهم ويضمن لهم الراحة الدنيوية كما ضمن لهم الدين الراحة الأخروية وكان من أمر علوم الأمم وتناقلها بين ظهرانيهم ما كان من حسن الأثر وخدمة الحضارة والغضارة.
وهكذا لو بحثت في تاريخ كل أمة لألفيت الآداب روادها، إلى مسالك إسعادها، وقوادها، إلى ذرى رقيها وإصعادها، كان هذا شأن الفرس واليونان والرومان في القرون الماضية بل وشأن الترك والعرب في القرون الحديثة فإنهم لم ينبغ لهم في التاريخ والسياسة وفنون الحرب والطبيعة والرياضة والفلسفة رجال أحرياء بالاعتبار بالنسبة لمحيطهم وأسبابهم حتى نبغ بينهم أهل آداب أمثال منال وضيا وناجي والأبياري والفاروقي والأسير والأحدب واليازجي وكرامة والجندي والهلالي ومراش والشدياق والبربير وأمثالهم ممن بيضوا الصحف بما سودوه في القرطاس من رائع آدابهم وفيض قرائحهم وخفة أرواحهم.
وقر زعماء الأدب في الصدور بما نفثوه من صدرهم أكثر من العلماء والمفننين بما خدموا به العلم والمدنية من نتاج عقولهم المستنيرة وما ذاك والله أعلم إلا لأن الأدباء يكتبون للعامة والخاصة معاً أما العلماء فيكتبون للخاصة فقط. وشأنهم في هذا شأن أهل العلم والاختراع مع أرباب الأموال في الغرب لعهدنا فإن الأول يتعبون في الإبداع فلا يتمتعون بغير جزء طفيف من أعمالهم الشاقة الطويلة ويجيء أرباب المال فيجنون الثمرة غضة يانعة.
قال بلونشلي الألماني في كتابه السياسة ما تعريبه: للآداب في أفكار الطبقة المنورة تأثير أعظم من تأثير العلم إذ أن لجمال الشكل والصورة وقعاً كبيراً في النفس أكثر من العلوم التي هي في الغالب قضايا غثة باردة وأن كتب شكسبير وولتير سكوت معروفة أكثر من كتب باكون ونيوتن وأن التمدن الفرنسي ينسب إلى راسين ومولير أو فولتير أكثر منه إلى بوفون ولابلاس ودوبين. وإن كيتي وشيلر قد نورا وحمسا طبقات أكبر من التي نورها كانت والإخوان هومبولد وليسنغ قد أثرا بروايتهما في ناتان أكثر من روايات لاوكون.
قال لي أحد ساسة الألمان يوم زار الإمبراطور غليوم الثاني بلاد الشام أندري لم أحب مليكنا السلطان صلاح الدين يوسف حتى قصد دمشق لزيارة ضريحه وفاخر بأنه بات في مدينة عاش فيها من كان أعظم أبطال العصور السالفة قلت لا علم لي بذلك قال لأنه قرأ في صباه رواية وأظنه قال لشاعرنا شيلر تضمنت سيرة صلاح الدين ووقائعه فأشرب قلبه حبه وراح ما لقنه في العاشرة يبرز أثراً من آثاره وهو في الأربعين.
قلت وهذا ملك عظيم في الحديث أثر فيه شاعر أمته أحسن تأثير على أنه الأدب يلطف الشعور ويحسن العواطف ولقد كان جد هذا الإمبراطور فريدريك الكبير لما عزم على إنهاض أمته من كبوتها يوعز إلى الشعراء بواسطة بعض وزرائه أن ينظموا قصائد حماسة ترقق الإحساس وتكبر النفوس وتدعوها إلى المعالي فكانت هذه القصائد سبباً في إنهاض ألمانيا ووحدتها على ما قيل.
وإليك مثالاً من تأثير الآداب في القديم قال معاوية بن أبي سفيان اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم فلقد رأيتني يوم الهزيمة وقد عزمت على الفرار فما ردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لا دفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح