الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 18/فضل العربية

مجلة المقتبس/العدد 18/فضل العربية

بتاريخ: 15 - 7 - 1907


كتب مستشار معارف مصر فصلاً سلخ فيه اللغة العربية من مزاياها ونشر في أخر تقرير عميد الاحتلال عن السنة الماضية قال فيه: إن تعليم العلوم بالإنكليزية في المدارس الأميرية بمصر لا مناص منه الأن لعدم وجود الكتب اللأزمة والأساتذة الأكفاء ولأن اللغة العربية فقيرة قي تركيب الجمل العلمية وبالنظر لجمودها والتباس تراكيبها لا تستطيع أن تكون لسان حال العلم والتدريس وأنه ليس فيها سئ من روح الأديبات الحديثة وأن أحسن الترجمات لا تتوصل إلى نقل فكر المؤلف إلا مشوهاً إذا أرادت نظارة المعارف أن تعتمد على ما يترجم من أصناف العلوم إلى العربية وقد وقع كلامه موقعاً سيئاً في نفوس العارفين بخصائص العربية ولما كان أكثر ما كتبه مما دخل بسياسة هذا القطر رأينا أن ننقل للقراء زبدة ما ساجلناه به ثم نردف ذلك بفصل في اللغة لأحد علماء المئة الخامسة.

فقد قلنا في معاجمها المطبوعة ثمانون ألف مادة وكل مادة يشتق منها عشر ألفاظ هي بلا شك من اللغات الواسعة في العصر الذي لم تكن تعتبر فيه لغة علم أي في عهد المأمون العباسي وبعده فنقلت إليها علوم الفرس واليونان والرومان والهند في أي وقت كانت لغة بدوية فكيف لا يتسع صدرها لهذه العلوم الآن وهي لغة علم منذ ألف سنة هذا مع أن بعض العلوم من اختراع العرب كالجبر مثلاً فإنهم وضعوا قواعده ودونوا كتبه ونقله الأوروبيون عن العرب فاللغة التي اخترع بها ودون بها ودرس بها لا تضيق عنه اليوم وهي هي وهو هو. ولا تزال العلوم الرياضية هي إياها منذ أول نشأتها وأن زادت بعض نظريات أو تمرينات فالكتب المؤلفة كافلة لتدريسها أما العلوم الطبيعية فإن ما يرس في المدارس لا يتجاوز ما وضع له من الكتب بالعربية في القرن الماضي وتسهل زيادة ما زاد منها وتعريب ما يصدر منها الحين بعد الآخر في بلاد الغرب. واستشهدوا له بقول أحد رجال الفرنسيس الذي نصح للمصريين أن يحتفظوا بلغتهم ويتعلموا إحدى اللغات الأجنبية معها كما فعل المجر والتشيك والبولونيون ولا عينة للإنسأن الآن عم تعلم عدة لغات أجنبية هذا فضلاً عن لغة واحدة كالإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية.

أما الفصل في فضل اللغة العربية فها هو بنصه: اللغة عبارة عما يتواضع القوم بينهم به من الكلام أو يكون توفيقاً يقال في لغة العرب أن السيف القاطع حسام أي تواضعوا على أن سموه هذا الاسم وتجمع لغة على لغات ولغين ولغون وقد قيل في اشتقاقها أنها مشتق من قولهم سمعت لواغي إذا أولعت به وأغريت به وقيل بل هي مشتقة من اللغو وهو النطق ومنه فعله (إلى أن يقول في فضيلة اللغة العربية ومزتها): فأما ما نحن بصدده من ذكر اللغة العربية فلا خفاء بميزتها على جميع اللغات وفضلها أما السعة فالأمر فيها واضح. ومن تتبع جميع اللغات لم يجد فيها لغة تضاهي اللغة العربية في كثرة الأسماء المسمى الواحد على أن اللغة الرومية بالضد فإن الاسم الواحد وجد فيها للمسميات المختلفة كثيراً وقد كان بعض اللغو بين في إيصال المعاني في النقل إليها يبين ذلك أنه ليس كلام ينقل إلى اللغة العرب ألا ويجئ الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني وبقائها على حالها وهذه بلا شك فضيلة مشهورة وميزة كبيرة لأن الغرض في الكلام ووضع اللغات بيأن المعاني وكشفها وإذا كانت لغة تفصح عن المقصود مع الاختصار والاقتصار فهي أولى بالاستعمال وأفضل مما يحتاج فيه إلى الإسهاب والأطالة. وقد خبرني أبو داود المطران وهو عارف باللغتين العربية والسريانية أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني فبحث وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوة وحسناً وهذا الذي ذكره صحيح يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية. وقد حكي أن بعض ملوك الروم وأظنه تيفور سأل عن شعور المتنبي فأنشد له

كان العيش كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا

وفسر له بالرومية فلم يعجبه وقال كلاماً معناه ما أكذب هذا الرجل كيف يمكن أن يكون جمل على أعين إنسان. وما أحسب أن العلة فيما ذكرته غير النقل إلى اللغة العربية ومنها وتباين ذلك إلا أن لغتنا فيها من الاستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات فإذا نقلت لم يجد النأقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها وهي على هيئتها لتعذر مثلها في اللغة العربية التي ينقل إليها والمعاني لا تتغير فنقلها ممكن من تبديل وما كان ما ينقل من العربية فتغير حسنه لهذه العلة وما ينقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته لأن نأقله يجد ما يعبر به في اللغة العربية أفضل مما يريد وأبلغ مما يحاول وهذا وجه يمكن ذكر مثله ويجب أن يتأمل وينظر فيه لأني لا أعرف لغة سوى العربية إنما ذهبت إليه ظناً وحدساً. وقد تصرف في هذه اللغة ما لم تصرف في غيرها من اللغات فلم توجد إلا طيعة عذبة في كل ما استعملت فيه نظماً ونثراً وهي إلى الأن لا تقف على غاية في ذلك ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى * إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب * وقد بينت فضلها وما فيها من الاختصار في العبارة عن المعاني وذكرت وجه التفصيل عليه موضع الاختصار مما لا شبهة فيه. فأما السعة فالأمر فيها أيضاً واضح لأن الناظم والنأثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة وكأنت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة تقع موقع تلك اللفظة في المعنى أخذ الأسماء للمسمى الواحد وتلك فائدة حأصلة بلا خاف على أنه ربما عرض في وضع الأسماء المشتركة فائدة في بعض المواضع فلم تجعل اللغة العربية خالية منه بل فيها أسماء مشتركة كقولهم عين وما أشبهها. وها هنا لها فضيلة أخرى وهي أن الواضع لها أن كانت مواضعه تجنب في الأكثر كل ما يثقل على الناطق تكلفة والتلفظ به كالجمع بين الحروف المتقاربة في المخارج وما أشبه ذلك واعتمد مثل هذا في الحركات أيضاً فلم يأت إلا بالسهل الممكن دون غيرها من اللغات من اللغات كذلك كلغة الأرمن الزنج وغيرهم.

ومما يدل على فضل اللغة العربية وتقدمها على جميع اللغات أن أربابها وأصحابها وهم العرب الذين لا أمة من الأمم تنازعهم فضائلهم ولا تباريهم في مناقبهم ومحاسنهم وأن كانوا تواضعوا على هذه اللغة فلم تكن تنتج أذهانهم الصقيلة وخواطرهم العجيبة إلا شيئاً خليقاً بالشرف وأمراً جديراً بالتقدم وإن كان توفيقاً من الله تعالى ومنة بها عليهم وقال ابن حزم: لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا الأشياء وكيفيتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها أشكالا وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة المسميات كلها المختلفة من كل التأكيد يرفع الأشكال ويقطع السغب فيما قلناه وقد قلناه وقد قال قوم السريانية وقال قوم هي العبرانية وقال قوم هي العربية والله أعلم إلا أن الذي وفقنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة وليست لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول أنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة لأخرى يتبدل لغتها لا يخفى على من تأمله ونحن نجد الكلمة كلغة أخرى ولا فرق فتجدهم يقولون في العنب الغنيب وفي السوط أسطوط وفي ثلاثة دنانير ثلثدا وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاءً فيقول مهمد إذا أراد أن يقول محمد ومثل هذا كثير فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلاف البلدان إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبدل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة اسحق ولغة ولده والسريانية بلا شك هي لغة إبرأهيمﷺ بنقل الاستفاضة الموجب نصحة العلم والسريانية أصل لهما وقد قال قوم أن اليونانية أبسط اللغات ولعل هذا أنما هو الأن فإن اللغة يسقط أكثرها وتبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واستغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان سبباً لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم ضرورة ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى فكيف تفلت أكثرها والله أعلم.