مجلة المقتبس/العدد 17/فجائع البائسين
→ مطبوعات ومخطوطات | مجلة المقتبس - العدد 17 فجائع البائسين [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 15 - 6 - 1907 |
(تابع ما قبله)
- كنت وعدتني وأخلفت وعدك وهيهات أن تثبت عليه
- أما قنعت وعذرتني؟
وأخذت تفكر مترددة أن تكلفه بالطلاق المشئوم الذي لا نود أن تسمع ذكره وهي تخاف أن لا يقبل فتخجل أو يطلقها حباً بها وهو لا يريد ثم قالت يستحيل أن أكون زوجة ثانية وأجتمع بأعدى عدواتي أو أتصور أن لي عدوة في حياتي ولذلك أرجوك أن تعذرني إذا أبيت أن أجيبك على سؤالك.
- فإن كان ألمانع لقبولك وجود شهيرة فهي طالق ثلاثا فكوني على ثقة من أن اجتماعي بها مرة أخرى ضرب من المحال
ما كان بودي طلاقها ولكنه سبق منك فأعدك بالقبول وقد عفوت عنك وسامحتك بما بدر منك ونسيت كل خطيئاتك
- أشكر لطفك وإحسانك ولم يبق أمامنا من العقبات سوى فبول أبيك وإقناعه
سأجد إليه وسيلة تضطره إلى أجابة الطلب. وهنا تعانقا وتفارقا على أمل اللقاء وأخذ سعيد يفكر بالسعادة ويؤمل بقربها وهيهات! هيهات! لأن السعادة الحقيقية مفقودة وقد يظن المرء أنه سعيد بالنسبة للشقي أو يتظاهر بالسعادة:
(تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد) ولكن الأماني تجعل الإنسان يعيش في خيال السعادة فهذا سعيد ولد بالأمل وعاش بالأمل وسيعيش بالأمل وصار يسبح في بحور الخيال وأخذ يؤثر البقاء في فراشه على الذهاب إلى أحسن سمر ليفكر فيما ستصير إليه حاله. فبينما هو يفكر في خيالاته أتاه خبر وفاة ابنه مع أحد أقارب زوجته فطلب هذا منه أن يرسل يجهزه للدفن ولم يكن سعيد رأى ابنه فحدثته نفسه أن يرى صورته ولو كان ميتاً ليلتذ بالبكاء عليه ويقول إنه كان لي ابن فأرسل وطلب ذلك فوعده الرسول وذهب فأخبر شهيرة وأمها بما أراد فغضبا ونادتا بالويل والثبور قائلتين أن هذا لا سبيل إليه وأسرعتا بتجهيز الطفل وحمله إلى الجبانة فأتى سعيد فوقف قرب الباب المشئوم وأرسل خادمه ليطرق الباب فصاحت النساء وشتمته ولعنت الولد وأباه ودعتا الله أن يلحق الأ بالابن فأدرك من ذلك الصياح أن الميت أرسل إلى الجبانة وسأل الجيرأن فأخبروه أنه أخرج وصلي عليه ثم أخذوه ليواروه التراب فذهب إلى المدافن فلم يجد سوى حملة الميت راجعين فسألهم عنه فقالوا أنه دفن وأجره على الله فأخذه البكاء وأسف أسفاً عظيماً. وبينما هو يكفكف عبراته أتاه طغمة الشحاذين فأحاطوا به فمنهم من يقول اسمعونا الفاتحة إلى روح الميت ومنهم من تسرع في تلاوة حزب من القرآن ومنهم من يقول أعطنا من مال الله وتصدق عن روح ابنك فما وسعه إلا أن شتمهم وكدرهم وطردهم ولكنهم استعملوا سلاحهم إذ أبت نفوسهم السب والشتم فأعطى خادمه ريالا وأمره بأن يصرفه قطعاً صغيرة ويوزعه عليهم على السوية تخلصاً من سلاطتهم وإلحافهم فتركوه ولحقوا الخادم وكادوا يضربونه فرمى الريال وفر أمامهم يعدو مسرعاً فإنقضوا جميعاً على الريال وأنشئوا يترامون بعضهم فوق بعض فجرح أحدهم وراح ينتقم من رجل برئ فقابله وانتصر عليه فأتى الشرطي وأخذ يضربهم بسوطه ففر بعضهم وقبض على الآخر فساقهم إلى المخفر وأخذ الخادم فلم يتركهم حتى أخذ منهم ما يرضي خاطره.
طغمة الشحاذين في كل بلدة ضروب وأشكال وأكثرهم عدداً وأرقأهم في الشحاذة والتفنن في الإلحاح والإلحافكلاليب دمشق فلهم هناك رئيس يحكم على أعوأن له من كل حي من أحياء المدينة ومن وظيفة الأعوان أخبار الرئيس في أسرع وقت بموت ميت وتوزيع صدقة وهذا يعلم جميعهم فما هو إلا أن يصطفوا حول جدار الميت قبل المعزين ينتظرون خروج النعش ليمشوا حوله مهللين مكبرين بأنغام خاصة بهم فيمدون الكلام وينغمون بأشداقهم ويخرجون ألسنتهم. وللرئيس أجرة الأخبار يتقاضاها من كل فرد منهم حتى إذا دفن الميت يهجمون على أهله ويطلبون منهم أجرة التهليل والتكبير كانهم دعوهم وقالوا على أجرة معلومة وقد يسمعونهم ألفاظاً فظة ويحملونهم منة كان يقولون لا يليق بمن ورث مبالغ من المال أن لا يتصدق عن روح مورثه كانهم شركاء الوارث في ميراثه فيزيدونه غماً إلى غمه.
ولما رجع سعيد من الجبانة وفكر بأنه خلص من أجرة الحضانة وحيل بينه وبين زوجه قوي أمله وشكر ربه على ما زال عنه من الغمة وذهب إلى زيارة الباشا على حسب عادته وأخبره بما وقع له فأسف هذا له ورق لحاله وشعر بلزوم حمايته لأنه هو ولي نعمته ولامه على التأهل بهذه الزوجة ثم قال له: ينبغي لك أن تفتش على زوجة توأفقك
- لا يخفى على سعادة الباشا أن سعادة الباشا أن رفيقي أخو زوجته هو الذي غشني بأخته وكان الباشا حينئذ متغيباً عن بيروت فلو كان هنا ما تزوجت إلا بعد استشارته ولآن أسعى في سبيل الزواج ولكني عزمت على ترك هذه المسألة لرأي مولاي
- سأفكر لك بزوجة حسنة وأمر الخانم لتبحث لك عن امرأة تليق بك.
فشكر فضله وقبل يده وبعد أن مكث هنيهة في حضرته أستأذن بالانصراف إلى داره
ظلت جميلة وحيدة في المنزل وأخذت تفكر وتقول إلى متى وأنا في حرمان من الزواج؟ لست براهبة ولا يحظر علي التأهل وما يخيل لي أني أجد أحسن وأوفق من سعيد وحبي له شديد ولا أود أن أقترن بغيره فمن يطيق أن يمنعني من اتخاذه رفيقاً لي؟ إذا كان اعتقاد أبي بالمناصب والمواقع وهو لا يعلم أنه لا تمييز بين البشر بالفضائل ومكارم الأخلاق فأرادته لا تمنعني عن تذلك ولست لأمره طائعة على أن الشرع الشريف منحني حرية الزواج بعد البلوغ وها أنا ذا بلغت سن الرشد وطاعة أبي الذي ينكر الحقائق بضعف عقله وقلة علمه غير واجبة عندي إذا كان له أولد أعلم منه بمصالحهم وأعقل منه وأمثل في تدبير خصوصياتهم وأنا أعلم من أبي ولا شك بمن يصلح لي ولكن الأدب والكمال يضطرانه إلى أن يرضى عن زواجي ومن الحزم والعقل أن أسوقه إلى ما أتمناه ولكن كيف أصل إلى ذلك؟ وأخذت تفكر في وسيلة إلى تحمل أباها على أن يهم بزواجها من سعيد فجلست يوماً مع أمها وذكرت سعيداً وما قاساه من أمرأته وصارت إلى تمدح مكارم أخلاقه وتعظم مستقبله بعين أمها وتتمنى له زوجة ترتاح إليها نفسه وتطيب وكانت أمها تصدق ما تقوله حتى حمستها فقالت: إذا كان يريد الزواج فإنا سأسعى له.
فتجاسرت حينئذ جميلة وقالت لو كان لي فكر في الزواج لما تزوجت سواه. وقصدت بهذه العبارة استطلاع رأي أمها فقالت هذه نعم وأنا أوأفقك على أفكارك ولكني ما زلت استغرب امتناعك عن الزواج وقد فات أوانه وانقطعت الرغبات فيك وأنت على تصوراتك الغريبة؟
- أتدرين متى أرضى بالزواج؟ متى وفقت لكفؤ يقوم بضروراتي ويعرف قدري ولا يتزوجني إلا من أجل فضيلتي وأنت تعلمين أن الذين طلبوني حتى الأن لم يقصدوا مني إلا الانتساب لأبي ولا يخفى عليك أن الذي يطلبني من أجل أبي عندما يتوفى والدي يهملني ولعله يطلقني أو يتزوج مرة آخرا ويتركني حزينة أبداً.
ما زالت تلقين هذه المشكلات فمن أين لنا أن نأتيك بمن يوأفقك على ما تنزع إليه نفسك؟
قد يوجد ولكنه لا يجسر أحد على طلبي لعلمه أني أرد طلبه وهذا يصعب عليه أن يرد خائباً لعزة نفسه وشرف طبعه وكرم أخلاقه.
هل تعلمين فتى بهذه الأخلاق؟
- وأنت تعليمنه
من هو؟
سعيد
- لا أشك بمكارم أخلاقه وعزة نفسه ولكنه غير كفؤ لك من حيث الشرف لأن أباك باشا وأبوه جندياً وعائلته غير معروفة بين الناس والعجب العجاب رضاك به زوجاً
لا محل للعجب هنا لأن مكارم أخلاقه تقوم مقام شرف الفتى والشاعر يقول:
لا تقل أصلي وفصلي أبداً ... انما أصل الفتى ما قد حصل
وإذا كان فقر عائلته يمنعك عن القبول فليس الفقر عيباً للمرء ولا الغنى شرفا له وخلاصة القول كوني على يقين من أني إذا قصدت الزواج لا أتزوج غيره لأنه هو وفق مرغوبي
- فهمت الآن أن له في قلبك مكانا والحب أراك أيا موافقاً على أني لا أطيق أن أذمه لأني لا أجد فيه من العيوب سوى فقره وانحطاط منزلة أسرته.
- قلت لك أن الفقر ليس بعيب وأما انحطاط مكانته فمكارم أخلاقه تشفع بها ومع هذا كله فإنه سيتولى منصباً عالياً يبلغ به مبالغ الإشراف وينال راتباً عظيماً يصيره من زمرة المترفين.
فإن كنت ترغبين فيه زوجا لك فصرحي بكلامك ولا حاجة إلى براهينك.
. . . . سكوت وإطراق في الأرض
- فلو رضيت لك وشايعتك على فكرك فهل تتصورين أن الباشا يرضى بذلك وهو غرس نعمته وزيدي على ذلك أن له زوجة أخرى
- أنت قادرة على إقناع الباشا وإرضائه وأما زوجة سعيد فليس فيها كبير أمر لأني على ثقة من أنه يطلقها من أجل أبي - من أين لي أن أقنع الباشا ليرضى بذلك؟
- أنت تعلمين كيف تفعلين
- دعيني الآن ريثما أجد فرصة مناسبة أسترق فكر أبيك وأعلم إن كان يمكن ذلك أم لا.
وبعد ما خرج سعيد من منزل الباشا دخل هذا إلى دائرة الحريم وأخذ يظهر أسفه ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله. فسألته الخانم عن السبب فأخبرها بما جرى لسعيد وابنه فبكت لحاله وأسفت عليه ثم قال لها: أني تعهدت له بأن أزوجه وأن أرسلك لتفشي له على امرأة توأفقه. فتجاسرت الخانم عندئذ وقالت: إن كنت تود أن تحميه وتريحه زوجه بابنتك فهو غرس نعمتك وقد نشأ بفضلك وفي ظلك وما هو ظلك وما في الحقيقة إلا ابنك ولعلنا نتخذه ولداً فيكون لنا عوناً وسنداً
- لا أنكر مزاياه وأحبه كولدي ومنزلته عندي منزلة جميلة ولكن امتناع جميلة وكلام الناس يحولان دون ذلك على أني لست ممن يعدون الفقر انحطاطاً ومزرياً بالشرف ولا استنكف من مصاهرته لأن مكاني وشرفي يكفيانه
- كلام الناس ليس مما يحفل به العأقل في مثل هذا المقام لأن العأقل البصير من لا يبالي بكلام لا طائل تحته وقد يكفيه رضا الأخيار والأخيار لا يرون الفقر وجهل مكانة العائلة منافياً لمكارم الأخلاق وهم يرجحون الفضائل على كل مزية والمدح ما كان من الأخيار والذم ما كان منهم ولعل جميلة ترضى به لأن امتناعها ناشئ عن وجود قرين يوأفقها على أنها تمدح سعيداً في كل حين وتقر له بالفضل
- وأنا لا أبالي بكلام العامة ولا بكلام من انحطت أفكارهم ولكن إذا رضيت أنا بذلك فهل جميلة ترضى به
- فلنسألها - اذهبي واسإليها
دخلت على جميلة وأخبرتها بما جرى بينها وبين أبيها ففرحت وقالت لأمها يجب علينا أن نحتاط لئلا يفهم ويغضب وأنت تعلمين حاله إذا أخذه غضب
- أصبت بما فكرت. فماذا نفعل؟
- اذهبي وقولي له أن جميلة لا تخالف أمرك ولكنها تلتمس منك مهلة تفكر في هذه المسألة الحيوية التي تحتاج إلى إمعان وزيادة استبصار - هاأنا ذا ذاهبة وذهبت. فدخلت على الباشا وأخذت تمدح جميلة على ترويها وعقلها وكمالها ثم قالت: أنها لا تخالف أرادتك وهي طوع أمرك فيما تقضيه عليها ولكنها تلتمس مهلة يومين لتفكر في الأمر ثم تخبرنا سلباً أو إيجاباً
- أخاف أن تصر على عنادها وأنا أود أن أزوجها في حياتي لنفرح بها فقولي لها أني أمهلتها يومين فذهبت وخبرتها ففرحت بنيل المراد وبشرت سعيداً بواسطة خادمتها ففرح هذا وظن أن السعادة العظمى لاحظته عيونها وأخذ يفسرها ويقلبها على وجوه آملا أن تكون تلك السعادة مكافأة لما عاناه من قبل وصار يسبح في ظلمات الخيال وصرت لا تراه إلا ضاحكاً مسروراً يقول تارة سأرتاح من أجرة الدار وأسكن منزلاً عالياً وأركب عربة خاصة وأرتقي بمعونة الباشا وأخلص من هم صرف الراتب على تدبير المنزل واقتصد راتبي وأوفي راتبي فأكون حينئذ سعيداً ثم أخذ يفكر فيما بالذي سيتراكم من مشاهرته فقرر أن يشتري أوراق يانصيب المصرف العقاري وتحويلات سكة حديد الروملي وأصبح في أمان من كسب أعظم المبالغ ورأى أن يشتري خيلاً ليقيم على تربيتها فيبيعها بما تيسر من الليرات ويشتري دكاناً ثم مخزناً ثم ضيعة فيصير من الأغنياء ويستتغني عن الاستخدام وعن معاناة شرور العالم ويكتفي بأن يصير عضواً في أحد المجالس وطوراً يقول أن السعادة ليست شيئاً في الحقيقة بجانب اقتراني بجميلة لأن السعادة العظمى هي اقتران زوجة بزوج يوأفقها في الخلق ويقوم بما يفرض عليه لتقوم هي بما يفرض عليها من أعمال الحياة وبمثل هذه الخيالات كانت تمر أيامه وليإليه فصار لا يفكر إلا في السعادة ونسي كل ما عاناه من قبل بل وتناسى ما وقع له شأن الإنسان يتذكر السعادة في الشقاء وينسى الشقاء في الإقبال وكان وصول سيعقد به له على حبيبته جميلة.
ولما مضى اليومان أجابت بالقبول وفوضت الأمر لأبيها لا يباح ففرح هذا وأرسل سعيداً فأتى هذا مسرعاً لإنه كان عالماً بالأمر فقطع الطرق وما شعر إلا وهو أمام المنزل وكان من عادته أن يأتي ماشياً على رجليه فأتى هذه المرة في العربة وأستأذن عليه فدخل إلى ردهة الباشا فقبل يده وجلس أمامه فقال له الباشا يا بني أنت تعلم أني ربيتك كولدي وأحبك بمثابة ابنتي جميلة ولآن أريد أن أجعلك ابناً حقيقياً وأفرح بك فهلا تطيع أمري؟
- سيدي العبد غرس نعمائك وإن كنت عشت أو أصبح لي شأن فذلك بفضلك وإحسانك فمقامك أعظم من مقام أبي عندي أن كان أبي الذي توفي والدي بالجسم فإنت أبي بالفكر أبي بالعلم أبي بالأدب أبي بكل شيء قال اله تعالى (ولئن شكرتم لأزيدنكم) والعبد يقر ويعترف بأنه ليس في وسعه شكر النعم الجسام التي أولانيها مولاي فليس لي إلا أن أطيعه في كل ما يصدر من سعادة فمر بما تريد وأنا عبدك المطيع.
- بارك الله بكرم أخلاقك ووفقك وجعلك من أسعد الناس وأعلم يا بني أني على غاية من الأسف لما عانيته من العذاب في زواجك وأنا حتى بلغت مما أقر عيني به كلما نظرت إليك وسمعت عنك فأحب أن أصل ما بدأته معك لتترحم علي بعد موتي وتكون ولياً على عائلتي التي ستصبح بعدي بدون رجل يتولى شؤونها وهذا لا يتم إلا بزواجك من ابنتي جميلة فأعرضها عليك إذا لم يكن لك مانع
- لا مانع لي يمنعني عن نيل النعم فالعبد رهين الأمر في كل حين فمر بما فلا تجدني إلا عبداً مطيعاً
- حفظك الله وسنعقد لك عليها هذا الأسبوع إن شاء الله السميع العليم
- أطال الله عمر مولاي
ثم شكر فضله وقبل يده ودخل الباشا على ما دار بينه وبين سعيد وهذه أخبرت جميلة ففرحت وأيقنت بنيل المراد. وبعد أربعة أيام دعي عمال الولاية والأمراء والوجهاء والعلماء إلى دار الباشا المشار إليه ووكل سعيد أحد أحباب الباشا وعين بعد شهر من تاريخ العقد.
غدا سعيد يرقب يوم العرس بفروغ الصبر ولما أن الوقت استعد للسرور فدعا رفقاءه ليشاركوه بفرحه وحبوره وما علم بما أخفاه له الدهر الخؤون وقد نامت عينه عنه إلى حين فأدخله الباشا تلك الليلة على جميلة وأوصأهما بعضهما ببعض ودعا لهما بالتوفيق.
فلما دخل بها وخلت به أخذت تعاتبه قائلة: لو كنت خالياً من أوهامك الغريبة وحفظت العهد لنلت ما نلته الآن وما كنت وقعت ولكن خلق الإنسان عجولا على أني ما زلت أعجب منكم معشر الشرقيين فمهما كبر عقلكم وارتقى فكركم ودرستم العلوم والفنون لا تزالون مقيدين بالأوهام الباطلة ولقد ترى الواحد منكم ينتقد الخرافات ويعيب أوهام غيره ويرتكبها غير مختار وذلك بما تعلمه من أمه الجاهلة في طفولته يرضع لبأن الخرافات مع لبن أمه ولا يخطر ببالك أيها الحبيب أني أقصد بانتقادك هذا مدح الجنس اللطيف فإنا عالمة أن وجود فتاة مرتقية الفكر سليمة العقل خالصة من الأوهام والخرافات في بلادنا قد أصبح ضرباً من المحال وذلك أن المدارس التي أسست لتثقيف عقول البنات لا تعلمهن إلا مبادئ العلوم والفنون ضعيفة ضئيلة لا تكاد تسد الحاجة وقد لا توجد مهذبات مدربات في المدارس يهذبن الفتيات ويدربنهن على الفضائل وحب الكمال إلا ما ندر ومما يؤسفني أن أرى أن أهم درس يدرس في المدارس تعليم أمة اللغات لأننا لا نزال نعد التكلم أو العلم بإحدى اللغات دليلاً على الفضل والكمال وأغرب من هذا كله ما نراه من إنهماك المعلمات في تعليم البنات التفصيل على الزي المودة وزركشة الفساتين فالمعلمات يغرسن حب الأزياء في عقول النساء وهن غير مباليات بتثقيف عقول الفتيات ولذلك نرى الفتاة تخرج من المدرسة على آخر طرز وأحسن زي من الزينة والتبرج وقد تتكلم بلغة من اللغات فتكون حينئذ بلغت منتهى العلوم والآداب بزعمها وزعم أهلها. ولا يخفى عليك أن التي دأبها التزين واللباس وتجديد الأزياء لا تجد في وقتها متسعاً لتعليم ابنها وتهذيبه ولذلك أصبحت المرأة علتنا الاجتماعية ومقياسنا متى ارتقت ارتقينا وإذا هوت هوينا معها فلا تقوم لنا قائمة إلا بتهذيب المرأة التي إذا هزت بيدها اليمنى سرير ابنها هزت باليسرى الدنيا بأسرها والرجل العظيم لا يأتي إلا من عظيمة سبقته وهي أمه ولله در من قال (الطفل صفحة بيضاء وأمه تنقشه كما تشاء) ولعلنا نرى يوماً يكثر به نصراء المرأة الضعيفة فيعلمون حقائق الأمور ويعنون بتهذيب بناتهم ويخدمون بناتهم ويخدمون بذلك بني نوعهم. وإما نحن نربي أبنائنا كما نشاء ونجعلهم مثال الكمال ونثقف عقولهم ونعدهم للبيئة الاجتماعية خدمة يقومون بواجباتهم نحو بني الإنسان والحيوان.
= لقد أعجبني خطابك البديع الذي أعرب عما في ضميري ولكن ما لي أراك مرتدية على أخر زي؟ أما كان اللائق بك أن تبتدئي بنفسك وتهجري الأزياء وتنزعي عنك المجوهرات الثقيلة التي استغرب كيف تطيقين حملها على إنه كأن يكفيك رداء جميل الزركشة في شكل بسيط يقبله الذوق السليم.
= كان يجب علي ابتداء بنفسي ولكني خفت من أن توجه سهام اللوم وأصبر عرضة لأفواه الناس وربما جلب ذلك على والدي كلام المتكلمين فحطوا من قدره = أليس من العقل أن لا تبالي بكلام الجاهلات اللواتي لا يميزن بين الحسن والقبيح وأنت لست من اللواتي يتزين ليلة العرس ليغرن أزواجهن حتى يملكن قلبهم فإنت ملكت فؤادي منذ كنت طفلاً ومكانك لا يزيده لباسك وتبرجك شيئاً في عيني ولا تنقصه بساطة ردائك ويا ليتك كنت جعلت البساطة زياً بين الناس لأنه ينظر إليك والنساء يقلدونك ولكن كما قلت أن الإنسان مهما ارتقى لا يزال مقيداً بقيود الأوهام. وأما عدم تصبري وخيانتي لعهدك فهذا أمر مقدر المقدر محتوم والأشياء مرهونة بأوقاتها ولا يستطيع بشر أن يفر من القدر ولذلك لا أرى محلاً للوم
= أن هذه العبارات عبارات العجزة الذين إذا أخطئوا وأسأوا رجعوا بخطئهم على القدر وشكوا من الدهر وإذا أحسنوا منوا وافتخروا.
= دعينا من الفلسفة والكلام فلنطرب بألحان المغنيات ونترنم بآلات الطرب لأن هذه الساعة ساعة طرب وهي الليلة التي لا تتكرر في حياتنا والأيام بيننا سنتجاذب أطراف الحديث ونبيع بعضنا بعضاً من الحكم والحقائق ما تشاء
وثاني يوم العرس عهد الباشا إلى بأن يتصرف بمنزله كما يتصرف كما يشاء ووكل إليه أشغاله الخاصة وصار يتصرف بالصدق والاستقامة واقتصد كثيراً من النفقات وغدا هو المرجع ومن كان له حاجة عند الباشا كان يأتيه فيلتمسها منه وهو يحسن معاملة الناس حتى استجلب قلوبهم وكأن يساعد المغدور ويسعى في استحصال حق المظلوم من الظالم. وتكلم مع الباشا على أن يسعى في ترقية وظيفته فوعده بذلك ففرح وقوي أمله بالسعادة وصار يوفر رواتبه ويوفي ديونه حتى اشترى سندات البنك العقاري وتحويلات سكة حديد الروم ايلي واشترى حصانين ليربيهما وأخذ يتسع خياله يتسع وآماله تكبر شقاؤه فهو يأكل ويشرب وينام ولا يدفع بارة ويتنزه بعربة الباشا ولا يصرف إلا القليل فتخلص من الطلب والدين.