الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 17/اليونان

مجلة المقتبس/العدد 17/اليونان

بتاريخ: 15 - 6 - 1907


معربة من كتاب تاريخ الحضارة

العناصر اليونانية

صورة هذه البلاد - أرض يونان من الأقاليم الضيقة (هي 57000 كيلو متر مربع) لا تكاد مساحتها تزيد عن مساحة سويسرا ولكنها بما فيها من اختلاف الأهوية وما يتخللها من الجبال ويتقسمها من الخلجان أقليم غريب في شكله خلق ليؤثر تأثيراً كبيراً في أخلاق ساكنيه. وتقطع أرض اليونان من وسطها سلسلة من الجبال (البند) فيناوح الجبل فيها جبلا مثله ويقوم الصخر إلى جانب الصخر حتى يعلو عن سطح البحر ستمائة متر كانه حصن أحاطت به سلاسل عالية وعرة مثلجة تنزل في البحر على خط قائم وتمتد الجزر على طول الشاطئ وما هي إلا جبال مغمورة يمر رأسها فوق الماء. وتقل في الأرض ذات الوهاد والنجاد التربة الزراعية وتكاد لا ترى حيثما ألقيت ناظرك غير صخور جرداء مرداء أما الأنهار فتشبه سيولاً ليس فيها غير طريدة ضيقة من التربة المنبتة بين مجراها ونصفه جاف وبين صخور الجبال الجرداء. وكان في هذه البلاد الجميلة بعض غابات وأشجار سرو وغار ونخيل وكروم غرست في مواضع من التلال ولكن قلما أتت بغلات جيدة أو بمراعي خصبة. فبلاد هذا شأن طبيعتها ينشأ أبناؤها ممشوقة قدودهم قوية أجسادهم قانعة نفوسهم.

البحر - تعد بلاد يونان من البلاد الساحلية وهي أصغر من إلبرتغال وشواطئها تكاد تقرب من شواطئ اسبانيا بكثرتها ينساب فيها البحر من عدة خلجان ووقائع وتخاريم.

ومن العادة أن يحيط باليم صخور تتقدم أو جزر تتقارب يتألف مرفأ طبيعي وهذا البحر أشبه ببحر لا مد فيها ولا جزر ولذلك سلمت شواطئه من الضرر وليس لونه كالبحر المحيط أبيض كامداً كثيباً وهو في العادة هادئ صاف ولونه كالبنفسج كما يقول هوميروس ولا أكثر استعداداً من البحر للسفر فيه سفراً قصيراً. ولقد نهب ريح الشمال صبيحة كل يوم فتسير بها قوارب مدينة أثينة نحو آسيا الصغرى قائمة مثل صخور الكمين وإذا صحت السماء تقطع السفينة المسافة وهي بقربة من اليابسة تراها كل حين. ولذلك كان لسكأن هذه البلاد من سكون بحرهم ومتشردين على نحو ما كان الفينيقيون فإنتشروا في العالم القديم أجمع وجلبوا إلى بلادهم سلع مصر وبلاد الكلدان وآسيا واختراعاتها.

هواؤها - لطف هواء بلاد اليونان حتى أن الجليد في أثينة لا يحدث إلا في كل عشرين سنة والحر معتدل في الصيف بما يهب عليها نسيم البحر وإلى اليوم لا يزال الشعب فيها ينام في الطرقات منذ شهر مايوأيارإلى أواخر سبتمبر أيلول والهواء فاتر جاف وكان يرى على بضعة فراسخ في القلعة المطلة على أثينة ريش تمثال بالاس وليست دوائر الجبال القاصية مستورة بالضباب كما هو الحال عندنا معاشر الفرنسيس بل أنها تنحل بأسرها في السماء الصافية. هذه البلاد بجمالها تدفع المرء أن يتخذ الحياة عيداً فيرى كل شيء يبسم حوإليه فمن نزهة في الحدائق بالليل واستماع أصوات الصراصير ومن الجلوس في ضوء القمر والضرب بالشباب وقصد الجبال للشرب من مائها واستصحاب أنراح وشربه على النغمات والأغاني وقضاء الأيام في الأيام في الرقص هذه هي ملاذ اليونان وما هي إلا ملاذ جيل من الناس فقير مقتصد فتي لا يعرف الهرم أبداً.

بساطة العيشة اليونانية - لا يتعب المرء من حرارة هذه البلاد ولا يشقى ببردها بل يعيش في الهواء الطلق مسروراً قليل النفقة ولا تقتضيه البلاد غذاء غريزاً ولا ثياباً ثقيلة ولا داراً مرفهة. فقد كان اليوناني بتبلغ بحفنة من الزيتون وسمك السردين ويلبس نعلاً وقميصاً ورداء كبيراً. وكثيراً ما يخرج حافياً مكشوف الرأس وداره بناية منيعة ليست من المتانة بحيث يدفع اللصوص عن دخولها بثقب حائطها ولا له الأثاث غير وبعض لحف وبضع أوان جميلة ومصباح وكأنت الجدران خالية من الزينة مبيضة بالجيرالكلس ولا يأوي إلى الدار إلا آونة النوم فقط.

بلاد اليونأن الأصلية

أصل اليونان - كان أصل الشعب الساكن في هذه البلاد الجميلة الضيقة النطاق من الجنس الآري أنسباء الهنود والفرس جاؤا مثلهم من أجيال آسيا. ولقد نسي اليونان تطواف أجدادهم الطويل فكانوا يقولون أنهم ولدوا من التراب كالصراصير. بيد أن لغتهم وأسماء أربابهم لم تترك مجالاً للشك في أصلهم. وكلن اليونأن الأول كسائر الآريين يقتاتون باللبن ولحوم القطعان ويسيرون مدججين بأسلحتهم وهم أبداً على قدم القتال ينضمون قبائل وفصائل تحت أمرة بطاركتهم.

أساطير - جهل اليونان أصولهم كسائر الشعوب القديمة فلم يكن لهم علم بمنشأ أسلافهم ولا بالزمن الذي توطنوا فيه أرض يونان ولا بشيء من أخبارهم وأعمالهم فيها. وإن حفظ ذكر الحادثات الطارئة كما وقعت ليتوقف على أعداد الأسباب لها ومن أسبابها الكتابة. غير أن اليونأن لم يعرفوها إلا حوالي القرن الثامن (ق. م) ولم يكن لهم واسطة لحساب السنين ثم اتخذوا بعد طريقة حساب السنين اعتباراً من المهرجأن العظيم الذي كانوا يختلفون به في أولمبياد كل أربع سنين وتدعى هذه المدة الفترة الأولمبية وقد وضعت الأولمبية الأولى عام 776 فتسلسل تاريخ اليونان منذ ذاك الحين ولم يتصل بما وراء ذلك. ومع هذا فقد نقلت أساطير كثيرة عن هذه المدة الأولى في البلاد اليونانية وخصوصاً قصص قدماء الملوك والأبطال الذين كانوا يعبدونهم كانهم نصف أرباب وهذه الأقاصيص مشوبة بحكايات يتعذر الإلمام بما فيها من حق وصدق فقد ذكروا في أثينة أن الملك الأول المدعو سكر وبس كان نصفه ملكاً ونصفه حية وذكروا في ثيبة أن كاد موس مؤسس المدينة جاء من فينيقية للبحث عن أخت أوروبا التي خطفها ثور وكان قبل تنيناً وزرع أضراسه فنبت منها مقاتلة ومنهم تناسلت الأسرات الشريفة في ثيبة وزعموا في مدينة أرغوس أنه أصل الأسرة المالكة من بيلوبس وكان أعطاها المعبود زيوس كتفاً من العاج للاستعاضة عن كتفه التي أكلتها إحدى الأرباب. وهكذا كان لكل بلد أساطير يتلونها ويتنأقلونها وظل أبناء يونان يذكرونها إلى ما بعد ويثبتون لأبطألهم القدماء نصيباً من روح الربوبية مثل أبطألهم برسي وبيليروفون وهيراكليس وتيزي ومينوس وكاستورس وبول وكسي وميلميا كرس وأد نيس ومعظم اليونانيين بل أن الطبقة المنؤرة منهم اتخذوا هذه التقاليد حقائق لا نزاع فيها إلا قليلاً. تلقوها على نحو ما تؤخذ الحادثات التاريخية أخبار الحرب بين ابني أديبس ملك ثيبة وحملة الأرغون وت التي سافرت في طلب جزه الكبش التي قام بحراثتها ثورأن لهما أرجل من قلز تقذف النار من أفواهها.

حرب طروادة - أشهر هذه الأقاصيص كلها حروب طروادة وهي أوسعها بياناً وتفصيلا فيرون إنه كان نحو القرن الثاني عشر مدينة غنية ذات سطوة اسمها طروادة وكأنت الحاكمة المتحكمة على شاطئ القارة الآسيوية فجاء أحد أمراء هذه المدينة واسمه باريس إلى أرض يونان وسبى هيلانة حليلة منيلاس ملك إسبارطة فاتفق اغاممنون ملك أرغوس مع سائر ملوك وأنقذوا لحصار طروادة جيشاً يونانياً على أسطول مؤلف من ألف ومائتي سفينة فدام الحصار عشر سنين إذا كان الرب زيوس راضياً عن الطرواديين عاقداً النصر بألويتهم. ولقد اشترك مقاتلة اليونان كافة في هذا الحصار فقتل هكتور رئيس المدافعين عن حياض طروادة بيد أشيل وكان أجمل اليونانيين خلقة وأشجعهم نفساً وجر جثته حول المدينة. قاتل أشيل بسلاح ألهي وهبته إياه أمه ربة البحر ثم هلك بسهم أصابه في عقبه. حتى إذا يئس اليونان من الاستيلاء على المدينة بالقوة عمدوا إلى الحيلة فأهموا أنهم أزمعوا أنهم الرحيل وتركوا ورائهم حصاناً من خشب اختبأ فيه الجيش فأخذوا الطرواديون هذا الحصان وأدخلوه مدينتهم فلما جن الليل خرج القواد منه وفتحوا أبواب المدينة لليونأن فحرقت طروادة هذا الحصان وأدخلوه مدينتهم فلما جن الليل خرج القواد منه وفتحوا أبواب المدينة لليونأن فحرقت طروادة وذبح الرجال واستبعد النساء.

ولما قفل زعماء اليونان من غزاتهم هبت عليهم العاصفة فغرق بعضهم في البحر وقذفت الأنواء بفريق منهم إلى شواطئ بعيدة وكان من حظ عولس أكثر هؤلاء الزعماء جربزة ودهاء وأطولهم يداً في كيد المكايد أن قضى عشر سنين تتقاذف به البلاد حتى أدت به الحال أن فقد سفنه جمعاء ونجا من العراق برأسه.

وبعد فقد كان الاعتقاد بحرب طروادة شائعاً في القرون القديمة شيوع الأخبار الثابتة. فزعم القوم أن غاية الحصار كانت سنة 1184 وحددوا مركز المدينة. وقد خطر للمسيو شيلمان من علماء الأثار سنة 1874 أن يحفر محل هذه المدينة فاقتضى له أن يزيل أنقاض عدة مدائن منضدة بعضها فوق بعض فعثر على عمق خمسة عشر متراً في أعماق طبقة من تلك الأنقاض على أثار مدينة حصينة استحالت رماداً وظفر في خرائب أهم تلك من تلك البنية بصندوق ملئ بالحلي من ذهب سماه كنز بريام. وكان ثمة نقش وكانت تلك المدينة التي ظهر سورها كله صغيرة وحقيرة وعثروا فيها على كثير من الأصنام الصغيرة الرديئة الصنع والوضع وهي تمثل ربة لها رأس بومة (وعلى هذه الصورة كان اليونان يمثلون الربة بالأس) ومع كل هذا ثمة دليل يقوم على أن هذه المدينة الصغيرة دعيت باسم طروادة قديما.

ميسينيا - ورد في الأساطير اليونانية أن تملك اغاممنون الذي كان قائد الحملة اليونانية على مدينة طروادة كانت عاصمته مدينة طروادة وأن زوجته قتلته عند عودته من هذه الغزاة بالقرب من قصره. ولقد عرف اليونان مكان ميسينيا لأنها كانت مأهولة إلى القرن الخامس قبل المسيح ولا يزال إلى اليوم حول الجبل سور من الصخور الضخمة مصفوفة بعضها فوق بعض بدون ملاط يلحم بين أجزائها وتحتها خمسة أمتار وكان اليونان يدعون هذا السور الحيطأن السيكلونية اعتقاداً منهم بأن الجبابرة سيكلون قد أقاموا بنيانها ورفعوا قواعدها. ويدخل إلى هذا السور باب علوه زهاء ثلاثة أمتار مؤلف من ثلاثة صخور هائلة وفوقها عمود بين أسدين منقوشين وهذا هو باب الأسود.

ولما اكتشف شيلمأن سنة 1876 مدينة طروادة عزم أن يبحث عن قبر اغاممنون في ميسينيا وكان الحفر قد جرى فيها غير بعيد عن سطح الأرض فحفر شيلمأن في التراب حتى وصل إلى الصخر فلما كان على عشرة أمتار من العمق عثر على ستة قبور فيها سبع عشرة جثة مع كمية كبيرة من الحلي الذهبية وأساور وعقود ودبأبيس وتيجان وسبعمائة سفيقة ورقة ذهب وزهاء مائتي سيف وخنجر مع نضال مموهة بالذهب والفضة. وكان على وجوه بعض الجثث برقع من السفيقة وكانت هذه القبور على ما ظهر مدافن أمراء ميسينيا.

ومنذ ذاك العهد اكتشف الباحثون في كثير من أنحاء اليونان أشياء كثيرة ومنها أواني خزفية وحلي تشبه خزف ميسينيا وحليها وقد عثر في بعض الأحيان بين هذه الدفائن على حلي مصرية من عهد الدولة التاسعة عشر فاستنتجوا من ذلك بإنه كان في يونان منذ الزمن العريق في القدم (بين القرن الثامن عشر والخامس عشر ق. م) ملوك أصحاب شوكة ويستصنعوا الأثار النفيسة وهذا ما دعي بالتمدن الميسيني.

أشعار هوميروس - أن القصيدتين المنسوبتين للشاعر هوميروس وهما الإلياذة التي ذكرت فيها حروب اليونان ورجولية أشبيل أمام طروادة والأوذيسية التي جاءت فيها حوادث عولس بعد سقوط طروادة. هاتأن القصيدتان هما اللتان إذاعتا في أطراف العالم أجمع سقوط مدينة طروادة. وقد حفظتا قروناً دون أن يكتبا فكان المغنون الذين ألفوا الترحل يستظهرون أبياتاً طويلة منهما وينشدونها في الأعياد. وفي القرن السادس أمر أحد أمراء أثينة واسمه بيزيستران أن تجمع القصيدتان وتكتبا فأصبحتا بعد وما زالتا أبداً أجمل الآداب اليونانية المعجبة المطربة. يقول اليونان أن مؤلفهما هوميروس كان أحد أبناء يونان من مدينة أيونية وعاش نحو القرن التاسع أو العاشر ويمثلونه على صفة شيخ ضرير فقير يهبط أرضاً ويصعد أرضاً وتنازعت سبع مدن شرف نسبته إليها تدعى كل منها أنها مسقط رأسه وقد وقع التسليم بذلك تقليداً بدون مناقشة فيه. وفي أواخر القرن الثامن عشر قام أحد علماء الألمان واسمه فولف وأبان بعض تناقض في هاتين القصيدتين أداه أن يجزم بإنهما ليستا من نظم شاعر واحد ولكنهما كتاب مؤلف من مقاطيع لشعراء مختلفين وقد حمل أهل العلم على هذه القضية حملات وهم بين مثبت لها ومنكر لها تماماً وظلوا مدة نصف قرن يتنازعون في وجود هوميروس أو عدمه وما زال فريق أهل العلم إلى اليوم على أن المسألة متعذر حلها. ومن المؤكد أن هذه القصائد قديمة العهد جداً وربما كانت من القرن التاسع. ألفت الإلياذة في آسيا الصغرى وربما تألفت من مجموع قصيدتين خصت أحدهما بحروب الطروادة وثانيتهما بحوادث أشيل أما الإذويسية فإنها على مجموع الإلياذة بعينه.

اليونان على عهد هوميروس - يتعذر علينا أن نوغل في نوغل في تاريخ اليونأن إلى قرون بعيدة. وأشعار هوميروس أقدم مستند بشأنهم. ولما نظم الشاعر منظومته نحو القرن التاسع قبل المسيح لم يكن لبلاد اليونان إذ ذاك اسم يطلق على سكان اليونانية قاطبة فسمأهم هوميروس باسم قبائلهم الأصلية ويظهر أنهم كما وصفهم قد نجحوا منذ غادروا إلى آسيا فعرفوا حرث الأرض وبناء المدن الحصينة وتألفوا شعوباً صغيرة. وأطاعوا ملوكاً لهم وكان لهم مجلس شيوخ ودار ندوة وقد فاخر اليونان بحكومتهم واحتقروا الشعوب النازلة بقربهم لأنهم كانوا دونهم فدعوهم البرابرة. ولقد صرخ عولس بخشونة السيكوليس بقوله: (ليس لهم قواعد في العدل ولا أندية يتشاورون فيها وأفرادهم يحكمون نساءهم وأولادهم بالذات ولم يعرفوا الكتابة ولا النقود ولا تطريق الحديد وقلما كانوا يجرؤون على ركوب البحر وتجشم أخطاره ويزعمون أن الغول سكن جزيرة صقيلة.