الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 16/صحف منسية

مجلة المقتبس/العدد 16/صحف منسية

بتاريخ: 15 - 5 - 1907


كتاب الاشربة

لابن قتيبة

استخرجه أحد علماء المشرقيات من الفرنسيس

توطئة

ابن قتيبة أشهر من أن يذكر هنا بكلمات قليلة تكون له وقائمة ولذلك لم أر حاجة إلى إعادة ما ترجم به في وفيات الأعيان كما مذهب كل من طبع له كتاباً في الشرق فاكتفي بما أتى ابن خلكان عن البحث اللائق بشأن عيون الأخبار وكتاب المعارف.

ثم أني أن صغر حجم كتاب الاشربة لا يقبل الإطاعة في الخطبة_وإن كأنت الأطالة في الخطب مما عوقب ابن قتيبة في الوفيات_فأرجأت إلى وقت آخر إنشاء مقالة تفي بحقوق هذا العلامة إن شاء الله فأحضر الكلام الأن في الكتاب الذي بدأت اليوم بنشره ووصف النسخة التي نقلته عنها وبالله التوفيق.

أما الكتاب فمعروف وقد ذكره صاحب كشف الظنون (تحت عدد 9846 الجزء 5 ص43) واستشهد ببعض فقراته غير واحد من الأدباء لاسيما ابن عبد ربة فإن هذا النهاب نقل إلى العقد الفريد معظم كتاب الاشربة بعد أن خلط بين أجزائه ولو كان طبع العقد بما يجب له من العناية والدقة لكنا ربما أمسكنا عن نشر كتاب الاشربة مع ما أسقطه ابن عبد ربه من الفوائد الجزيلة والمحاسن الجليلة التي جرت عادة ابن قتيبة أن يأتي بها على أسلة قلمه. وإذا قرأت ما كتبه صاحبنا في الخمر والنبيذ وغيرهما مما قد حرم أو أحل شربه فلا بأس بأن تقرأ ما جاء به ابن ربه في هذه المسألة لتصلح الأغلاط العديدة الواقعة في نسخ العقد المطبوعة وتطلع على ما عاتب به الأمام ابن قتيبة من أطالة الكلام وعلة النسيأن المؤدية إلى التناقض بين قوليه فنأسف لأن الله عز وجل لم يمن على ابن قتيبة بعمر طويل ليحيا إلى عصر ابن عبد ربه فيطلع على ما كتبه هذا ويهديه التوفيق لشرح الأحاديث التي أدعى الناس تناقضها في كتابه المؤلف في تأويل مختلف الحديث.

أما النسخة التي نقل عنها النص فعبارة عن أحد المؤلفات الموجودة في مجموع من مجاميع مصطفى باشا المحفوظة في دار الكتب الخديوية وقد نقلت من المجموع الذي عدده 166 ثلاثة كتب للأصمعي وهي كتاب الشاء وكتاب الدارات وكتاب النبات والشجر نشرها كلها الدكتور أوغست هفنر وطبع منها الأدباء اليسوعيين ببيروت في سنة 1898 كتاب الدارات وكتاب النبات والشجر. وتصفحت فهارس للمخطوطات المحفوظة في دور الكتب في الشرق والغرب فلم أظفر بغير نسخة من كتاب الاشربة. فلله در هذا الناسخ الذي وقى من أيدي الضياع هذه الأثار الأصمعية والقتيبية وأن لم يكن علمه باللغة والمعاني يوازي مهاراته بفن الخط فإنه يحذف الكلمات والفقر ولا يشعر وهذا شأن متأخرين النساخ كلما رأى الرائي ما ينسخون يحكم عليهم بأنهم ينقلون الكلام بدون فهم ولا علم. واسم الناسخ عبد الحليم بن أحمد اللوجي نسخ مجموعة النفيس في جزئيين قدم الثاني وأخر الأول في التجليد فأوله قد انتهى من تحريره يوم الجمعة غزة محرم سنة 1105 وثانيه في أواخر ذلك الشهر وكتاب الاشربة موجود في الجزء الثاني المقدم من الصفحة 55 إلى الصفحة 80 وطول الصفحة 37 سنتيمتراً وعرضها 16 وعدد السطور في الصفحة 29 سطراً والخط دقيق واضح ولما لم أعثر على نسخة أخرى للكتاب عمدت إلى النص المنقول في العقد الفريد لضبط هذه الرسالة بعد المقابلة. وأما الرواية فإنها جاءت مرتين فأثبتنا التي بعد البسملة كما ترى وأزلنا التي بعد ترجمة الكتاب وهي رواية الحسين بن المظفر بن أحمد بن كنداج عن أبي محمد عبد الله بن جعفر ابن دستورية النحوي عن ابن طاهر محمد بن عبد الله البيع. إذ المشهور أن ابن دستورية كان من تلاميذ ابن قتيبة وروى عنه.

كتاب الاشربة

وذكر اختلاف الناس فيها

تأليف أبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة

بسم الله الرحمن الرحيم

اخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن علي بن عبد الله فيما أذن لنا أن نرويه عنه قال اخبرنا أبو عبد الله الحسين بن المظفر كنداج (وفي الأصل كداج) البزاز قراءة عليه قال اخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن دستورية النحوي قراءة عليه قال أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة:

الحمد لله الذي هدانا لدينه المرتضى. وأكرمنا بنبيه المصطفى. وجعلنا خير أمة أخرجت للناس إيمانا بالغيب وتصديقا بالوعد وشفقا من الوعيد وإخلاصا للتوحيد. وأعطانا بالصغير الكبير. وباليسير الكثير. وبالحقير الخطير. وبطاعته في الأيام المعدودة الخلود في النعيم المقيم ورضي منا بعفو الطاعة وفسح لنا في التوبة وجعل من وراء الصغير المغفرة ومن وراء الكبير الشفاعة فلم يهلك عليه إلا من نفر نفار الظليم وشرد شراد البعير وأوسع لنا من طيب الرزق وحرم علينا الخبائث ولم يجعل في الدين من حرج ولا حظر بالاستبعاد إلا ما جعل منه الخلف إلا طيب والبذل إلا ما وفر منه رحمة منه وبرا ولطفا وعطفا. فحرم علينا بالكتاب الميتة والدم ولحم الخنزير وبالسنة سباع الوحش والطير وعوضنا من ذلك بهيمة الأنعام الثمانية الأزواج وسائر الوحش وصنوف الطير وحرم علينا بالكتاب الميسر وبالسنة القمار وعوضنا من ذلك اللهو بالرهان والنضال وحرم علينا الربا واحل البيع وحرم السفاح واحل النكاح وحرم بالسنة الديباج والحرير وعوضنا الخز والوشي والعقم والرقم وحرم بالكتاب الخمر وبالسنة المسكر وعوضنا منهما صنوف الشراب من اللبن والعسل وحلائل النبيذ.

وليس فيما عازنا من وراء من هذه الأمور التي وقع الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الاشربة وكيفية ما يحل منها وما يحرم منها وما يحرم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول ﷺ وتوافر الصحافة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم حتى يحتاج ابن سيرين مع ثاقب علمه وبارع فهمه إلى أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ وحتى يقول له عبيدة وقد لحق خيار الصحابة وعلماؤهم منهم علي وابن مسعود اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية أخرى. أخذت الناس أشربة كثيرة فمالي شراب منذ عشرين سنة إلا اللبن أو ما العسل. وإن شيئا وقع فيه الاختلاف في ذلك العصر بين أولئك الأئمة لحري أن يشكل من بعدهم وتختلف فيه آراؤهم ويكثر فيه تنازعهم وقد بينت من مذاهب الناس فيه وحجة كل فريق منهم لمذهبه وموضع الاختيار من ذلك بالسبب الذي أوجبه والعلة التي دلت عليه ما حضرني من بالغ العلم ومقدار الطاقة لعل الله يهدي به مسترشدا ويكشف من غمة وينقذ من حيرة ويعصم شاربا ما على دخل الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة ويردع طاعنا على خيار السلف بشرب الحرام وأؤمل بحسن النية في ذلك من الله حسن المعونة والتغمد للزلة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قد اجمع الناس جميعا على تحريم الخمر بكتاب الله إلا قوما من مجان أصحاب الكلام وفساقهم لا يعبأ الله بهم فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة وإنما نهى الله عن شربها تأديبا كما أنه أمر في الكتاب بأشياء ونهى عن أشياء على جهة التأديب وليس منها فرض كقوله في العبيد والأماء: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا. وقوله في النساء فاهجروهن في المضاجع واضربوهن - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقالوا لو أراد تحريم الخمر لقال حرمت عليكم الخمر كما قال حرمت عليكم الميتة والدم. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا لتشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يختل على عأقل ولا على جأهل واجمع الناس على أن ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر وانه لا يزال خمرا حتى يصير خلا واختلفوا في الحال التي يخرج بها من منزلة الخمر إلى منزلة الخل فقال بعضهم: هو إن يتناهى في الحموضة حتى لا يبقى فيها مستزاد وقال آخرون: هو إن تغلب عليها الحموضة وتفارقها النشوة. وهذا هو القول لأن الخمر ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير وإنما حرمت بعرض دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالا كما كانت قبل الغليان حلالا وما أكثر من يذهب من أهل النظر إلى أن الخمر إذا انقلب عن عصير والخل إذا انقلب عن خمر أن عين كل واحد غير عين الآخر وهذا القول ما ليس به خفاء على من تدبره وأنصف من نفسه وكيف يكون هاهنا عينان والجسم واحد لم يخرج من الوعاء ولم يبدل وإنما أنتقلت أعراضه تارة من حلاوة إلى مرارة وتارة من مرارة إلى حموضة ولم يذهب العرض الأول جملة واحدة ولا أتى العرض الثاني جملة (واحدة) وإنما زال من كل واحد شيء بعد شيء كما ينتقل طعم الثمرة وهي غضة من الحموضة إلى الحلاوة وهي يانعة والعين قائمة وكما يأجن الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة وكما يروب اللبن بعد أن كان صريفا فيتغير طعمه والعين قائمة ومثل الخمر مما حل بعرض وحرم بعرض المسك كان دما عبيطا حراما ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبا حلالا. وأما النبيذ فاختلفوا في معناه فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا فإذا اشتد ذلك وصلب فهو خمر. وقالوا: إنما كان الأولون من الصحابة والتابعين يشربون ذلك يتخذونها في صدر نهارهم ويشربونه في آخره ويتخذونه من أول الليل ويشربونه على غدائهم وعشائهم. وقالوا: سمي نبيذا لأنهم كانوا يأخذون القبضة من التمر أو الزبيب فينبذونها في السقاء أي يلقونها فيه. وقال آخرون: النبيذ ما أتخذ من الزبيب والتمر وغيرها من المستخرج بالماء أو ترك حتى يغلي وحتى يسكن. ولا يسمى نبيذا حتى ينتقل عن حاله الأولى كما لا يسمى العصير خمرا حتى ينتقل عن حلاوته ولا يسمى الخمر خلا حتى تنتقل عن مرارتها ونشوتها وإنما سمي نبيذا لإنه كان يتخذ وينبذ أي يترك ويعرض عنه حتى يبلغ. وهذا هو القول لأن النبيذ لو كان ماء الزبيب لما وقع فيه الاختلاف ولأجمع الناس جميعا على أنه حلال من قبل أن يغلي ففيم اختلف المختلفون وعم سأل السائلون؟ قال الشاعر:

نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تعطر لو خر الذباب وقيذا

وقال ابن شبرمة:

ونبيذ زبيب ما اشتد منه ... فهو تخمر والطلاء نسيب

وقال آخر:

تركت النبيذ وشرابه ... وصرت حديثا لمن غاب

فسماء نبيذا وهو يفعل هذا الفعل ولا يجوز أن يكون أراد ماء الزبيب ولا ماء التمر قبل أن يغليا وروى الراقدي عن أخيه سملة بن عمر بن شيبة بن أبي كبير الاشمعي عن أبيه عن رسول الله ﷺ. قال: يخدر الوجه من النبيذ ولتفاتر منه الحسنات وروى شريك عن أبي اسحق عن عمرو بن حريث قال: سقاني ابن مسعود نبيذا شديدا من جر اخضر وحدثني سبابة عن عمرو بن حميد عن بن سليم قال: حدثني أصحاب انس إنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي يكون في الخوأبي وما جاء في مثل هذا مما يدل على أن النبيذ ما غلي واسكر كثيره وفرق قوم بين نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ولا اعلم بينهما فرقا فيكره واحد ويستحب وآخر لإنهما جميعا مسكران. أنشد ابن أعرأبي (هزج)

ألا أيها المهدي ... إلينا من شهر

دع الآس ولا تغفل ... إذا جئت عن التمر

فإن الآس لا يسك - ر واللذة في السكر

حجج المحرمين لجميع ما أسكر وأما المسكر فإن فريقا يذهبون إلى أن كل شيء أسكر كثيره كائنا ما كان ولو بلغ فرقا فقليله كائنا ما كان ولو كان مثقال حبة من خردل حرام. فلم يفرقوا بين ابن ثلاث ليال من نبيذ التمر إذا غلي وبين ابن ثلاث أحوال من عتيق السكر وعتيق الخمر ولا فرقوا في ذلك بين منفرد وخليطين ولا بين شديد وسهل ولا بين ما استخرج بالماء وما استخرج بالنار وقضوا عليه بأنه حرام وبأنه خمر وذهبوا من الأثر إلى حديث حدثنيه محمد بن خالد خداش عن أبيه عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: كل ما مسكر خمر وكل مسكر حرام. وحديث حدثنيه اسحق بن راهويه عن المعتمر بن سليمان عن المهدي بن ميمون عن أبي عثمأن الأنصاري عن القاسم عن عائشة رحمة الله عليها أن النبي صلى الله وسلم قال: كل مسكر حرام وما أسكر الفرق فالحسوه منه حرام. وحديث حدثنيه محمد بن عبيد عن ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمه عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: كل شراب أسكر فهو حرام. مع أشباه لهذا من الحديث يطول الكتاب باستقصائها وفي ما ذكرنا من هذه الأحاديث غنى عن ذكر جميعها لأنها أغلظها في التحريم وأشدها إفصاحا به ووإبعادا من حيلة المتأول.

وقالوا: والشاهد على ذلك من النظر أن الخمر إنما حرمت لإسكارها وجرائرها على شاربها لأنها رجس. قال الله تعالى وجل من قائل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطأن فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون}. وقد كان كثير من أصحاب رسول الله ﷺ حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها. قالت عائشة رحمة الله عليها: ما شرب أبو بكر رحمة الله عليه خمرا في جاهلية أو إسلام. وقال عثمان رحمة الله عليه: ما تغنيت ولا تفتيت ولا شربت خمرا في جاهلية أو إسلام ولا مست فرجي بيميني منذ بايعت رسول الله ﷺ 1وكان عبد الرحمن بن عوف ترك شربها وقال فيها بيتا:

رأيت الخمر شاربها معنى ... برجع القول أو فصل الخطاب

حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعد قال قال عثمان: إياكم والخمر فإنها مفتاح كل شر. أتي برجل فقيل له: إما أن تخرق هذا الكتاب وإما أن تقتل هذا الصبي وإما أن تسجد لهذا الوثن وإما أن تشرب وإما أن تقع على هذه المرأة. فلم ير أهون عليه من شرب الكأس فشرب فوقع على المرأة وقتل الصبي وخرق الكتاب وسجد للصليب. وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته: لم لا تشرب الخمر فإنها في جرأتك. فقال: ما أنا بأخذ جهلي بيدي فادخله في جوفي وأصبح سيد قومي وسفهيهم. وقيل له بعد ما أسن واسلم: قد كبرت سنك ودق عظمك فلو أخذت من هذا النبيذ شيئا يقويك. فقال: أصبح سيد قومي وأمسي سفهيهم وآليت أن يدخل رأسي ما يحول بيني وبين عقلي. وكان قيس بن عاصم يأتيه في جاهليته تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفذ 2 ما عنده فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرا قبيحا فجذب ابنته وتنأول ثوبها ورأى القمر فتكلم بشيء ثم انهب ماله ومال الخمار وانشأ يقول وهو يضربه.

من تاجر فاجر جاء الإله به ... كان لحيته أذناب أحمال

جاء الخبيث بميسانية3تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال

فلما صحا خبرته ابنته بما صنع وما قال فإلى لايذوق الخمر أبدا وقال.

رأيت الخمر صالحة وفيها ... خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله اشربها صحيحا ... ولا اشقي بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي ... ولا أدعو لها أبدا نديما

وكان عثمان بن مظعون حرم الخمر في الجاهلية وقال: لا اشرب شرابا يذهب بعقلي ويضحك بي من هو أدنى مني وأزوج كريمتي من لا أريد. فبيتنا هو بالعالي إذ أتاه آت فقال: أشعرت أن الخمر حرمت؟ وتلا عليه الآية في المائدة فقال تبا لها لقد كان بصري فيها نافذا. قيل لأعرأبي أتشرب النبيذ؟ فقال: لا اشرب ما يذهب عقلي. ودعا يزيد بن عبد الملك نصيبا أو كثيراً إلى ندامته فقال: يا أمير المؤمنين اني لم أصر إلى هذه المنزلة بمال ولا دين وإنما وصلت إليها بلساني وعقلي فإن رأيت أن لا تحول بيني وبينهما فافعل وقال بعض الشعراء:

ومن تقرع الكأس الذميمة سنة ... فلا بد يوما أن يريب ويجهلا

فلم أر مشروبا أخس غنيمة ... وأوضع للإشراف منها واخملا

وأجدر إن تلقي حليما بغيها ... ويشربها حتى يخر مجدلا وقال آخر:

ولست بلاح لي نديما بزلة ... ولا هفوة كانت ونحن على الخمر

عزلت بجبني قول خدني وصاحبي ... ونحن على صهباء طيبة النشر

وأيقنت أن السكر طار بلبه ... فاغرق في شتمي وقال وما يدري

ودخل أمية بن خالد بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه أثار فقال: ما هذا؟ فقال: قمت الليل فأصاب الباب وجهي فقال عبد الملك:

رأتني صريع الخمر يوما فسؤتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع

فقال أمية: لا أخذني الله بسوء ظنك يا أمير المؤمنين. فقال لا بل لا أخذني الله بسوء مصرعك. ودخل حارثة بن بدر العداني على زياد وكان حارثة صاحب شراب وبوجهه أثر. فقال له زياد: ما هذا الأثر في وجهك؟ فقال: ركبت فرسا لي أشقر فحملني حتى صدم بي الحائط. فقال له زياد: إما أنك لو ركبت الأشهب لم يصبك مكروه.

وقال ابن هرمة الشاعر في شرفه ونسبه وجودة شعره يشرب الخمر بالمدينة ويسكر فلا يزال الشرط وقد أخذوه ورفعوه إلى الوالي في المدينة فحده فوفد على أبي جعفر المنصور وقد قال فيه المدحة التي امتدحته بها وقافيتها لام فاستحسنها وقال له: سل حاجتك. قال يا أمير المؤمنين تكتب إلى عامل المدينة أن لا يحدني إن وجدني سكرانا. فقال أبو جعفر: هذا حد من حدود الله وما كنت لأعطله فهل من حاجة غيره؟ قال لا والله يا أمير المؤمنين فاحتل لي بحيلة فكتب المنصور إلى عامله. من أتاك بابن هرمة وهو سكرأن فاجلده مائة جلدة واجلد ابن هرمة ثمانين. فرضي ومضى بكتابه فكان العون إذا مر به صريعا قال: من يشتري ثمانين بمائة؟ ثم أعرض عنه. وكان مالك بن قيس من ثقيف يشرب مع ابن الكأهلية يوم عرفة وهم محرومون فغلبه السكر فنام حتى فات الحج وأدركه ابن الكأهلية فقال:

أليس الله يا مال ابن قيس ... وان غبنا عليك رقيب عين

أقم صدر المطيعة وانج اني ... أراني وابن نعجة هالكين

فأية جريرة أعظم من هذه وأية غبنة أشد من غبنتها وأية صفقة أخسر من صفقتها وماذا يلقى صاحبها فإذا عاودها هان عليه القبيح قال القطامي أفر إذا أصبحت من كل عاذل ... وأمسي وقد هانت علي العواذل

وقال ابن هانئ:

اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح

وسقى قوم إعرأبية مسكرا فلما أنكرت نفسها قالت لهم: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم قالت: لئن كنتم صدقتم لا أحدكم من أبوه. وكان العرب في الجاهلية وفي صدر الإسلام يشتدون على النساء في شربه حتى ما يحفظ أن امرأة شربت ولا أن امرأة سكرت. وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال عقيل بن علقمة المري غيورا فكأن يسافر ببنت له الجرباء فسافر بها مرة فقال

قضت وطرا من دير سعد وربما ... على غرض ناطحنه بالجماجم

ثم قال لابن له يقال له عملس: أجز فقال لا

فا صبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الادلاج ميل العمائم

ثم قال لابنته: أجيزي يا جرباء فقالت

كان الكرى سقأهم صرخدية ... عقارا تمشي في المطا والقوائم

فقال: والله ما وصفتها هذه الصفة إلا وقد شربتها ثم أحال عليها يضربها (بالسوط) فلما رأى ذلك بنوه وثبوا عليه فحلوا فخذه بسهم فقال

إن بني زملوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يكلم

شنشنة أعرفها من اخزم

واخزم فحل والشنشنة الشبه وقد فضح الله بالشراب أقوأما من الإشراف فحدوا ودونت في الكتب أخبارهم ولحقت بتلك السبة أعقابهم. منهم الوليد بن عقبة (بن أبي معيط أخو عثمأن لأمه) شهد عليه أهل الكوفة بشرب الخمر وأنهم صلى بهم الغداة (ثلاث ركعات) وهو سكرأن فقال: (إن شئتم) زدتكم. شهره الله بذلك وبمنادمة أبي زبيد الشاعر وكان نصرانياً فحده علي بن أبي طالب بين يدي عثمان وفيه يقول الحطيئة: كامل

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالغدر

نادى وقد تمت صلواتهم ... أأزيدكم ثملا وما يدري

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا ... لجمعت بين الشفع والوتر كبحوعنانك إذ جربت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري.

ومنهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب شرب بمصر) فحده هناك عمرو بن العاص سرا فلما قدم على عمر رضي الله عنه حده حدا آخر (علانية). ومنهم العباس بن عبد الله بن العباس كان ممن شهر بالشرب وبمنادمة الأخطل الشاعر وكان نصرانيا وفيه يقول:

ولقد غدوت على التجار بمسح ... هرت عواذله هرير الاكلب

لذ تقبله النعيم كانما ... مسحت ترائبه بماء الذهب

لباس أردية الملوك يروقه ... من كل مرتقب عيون الربرب

ينظرون من خلل النور إذا بدا ... نظر الهجأن إلى الفنيق المصعب

فضل الكياس إذا تشتى لم يكن ... خلفا مواعده كبرق الخلب

وإذا تعورت الزجاجة لم يكن ... عند الشراب بفاحش منقطب

فأخبر أنه غدا على تجار الشراب به وأخبر أنه يروقه عيون النساء ويرقنه. وكان عبيد الله بن عبد الله بن عباس من أحمل الناس وكأن يقال له المذهب لجماله فمدحه كما كان يمدح بعض النصارى وكأنت الشهرة في الشعر على حسب حسنه ورغبة الناس في حفظه.

ومنهم قدامة بن مظعون من أصحاب رسول الله ﷺ حده عمر بشهادة علقمة الحصي عليه وغيره في الشراب. ومنهم عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب المعروف بأبي شجمة حده أبوه في الشراب وفي أمر آخر فمات. وعاصم بن عمر بن الخطاب حده بعض ولاة المدينة في الشراب. وعبد الله بن عروة بن الزبير حده هشام بن إسماعيل المخزومي في الشراب. وعبد العزيز (بن) مروان حده عمر بن الأشدق في الشراب. وممن فضح بالشراب بلال بن أبي بردة (الأشعري) قال يحيى بن نوفل الحميري:

وأما بلال فذاك الذي ... تميل الشراب به حيث مالا

يبيت يمص عتيق الشراب ... كمص الوليد يخاف الفصالا

ويصبح مضطربا ناعسا ... تخال من السكر فيه أحولا لا

ويمشي ضعيفا كمشي النزيف ... تخال به يمشي شكالا

ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي بالكوفة فضح بمنادمة سعد بن هبار فقال حارثة بن بدر (4).

نهاره في قضايا غير عادلة ... وليله في هوى سعد بن هبار

ما يسمع الناس أصواتاً لهم عرضت ... إلا دوياً دوي النحل في الغار

فأصبح القوم إطلاقا أضر بهم ... حث المطايا وما كانوا بسفار

يدين أصحابه فيما يدينهمو ... كأساً بكأس وتكراراً بتكرار

وهذا عبد الملك بن مروان بعد اجتهاده في العبادة فضحه الله تعالى في الشراب فكان يشرب المغذي وقال له سعيد بن المسيب: بلغني يا أمير المؤمنين أنك تشرب بعدي الطلا.

فقال أي والله والدماء. وهذا الوليد نقم عليه الناس شرب المسكر ونكاح أمهات أولاد أبيه فقتلوه. وهذا يزيد بن معاوية كأن يقال إذا ذكر الخمور والقرود فقال فيه.

ابني أمية أن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثم مقيم

طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم

ومرنة تبكي على نشوانة ... بالصبح تقعد تارة وتقوم

ومنهم خالد بن عمرو بن الزبير وفيه يقول القائل

إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... جبيراً وعاطيت الزجاجة خالدا

أمنت بأذن الله أن تقرع العصا ... وأن يوقظوا من رقدة السكر راقدا

وصرت بحمد الله في خير فتية ... حسأن الوجوه لا تخاف العربدا

والعجب عندي قوله * وأن يوقظوا من السكر * وأكثر ما يوقظ السكرأن للصلوة افتراء حمدهم على تركهم إيقاظه للصلوة إذا سكر؟ وهذا أبو محجن الثقفي شهد يوم القادسية وأبلى بلاء حسناً شهر وكان فيمن شهد ذلك اليوم عمرو بن معد يكرب فقدم عليه وهو القائل.

إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذقها

فحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال: أخبرني الأصمعي عن ابن الأصم عن عبد العزيز بن مسلم العفيلي قال رأيت قبر أبي محجن الثقفي بأرمينية الرابطة تحت شجرات من كرم. (الباقي يتبع)