مجلة المقتبس/العدد 16/الجباية في الإسلام
→ الانتحار وأسبابه | مجلة المقتبس - العدد 16 الجباية في الإسلام [[مؤلف:|]] |
من أين إلى أين ← |
بتاريخ: 15 - 5 - 1907 |
لفن المالية منزلة عالية عند رجال الدول لأنهم في أشد الحاجة إلى معرفه ليعلموا كيف يفرضون الضرائب على الأمة ولهذا عني به الأوروبيون فجعلوه من أهم الفنون التي تقرأ في أرقى المدارس الجامعة فمن درس هذا الفن واطلع على كتاب الخراج لأبي يوسف رآه جامعاً للأبحاث المالية في صورة مجلة مندمجة القواعد تكون أساساً لروح أموال الدول وبياناً لذلك أشرع بتعريف فن المالية وأذكر موضوعه وغايته فأقول:
فن المالية (هو عليم يبحث عن أموال الدول) وضع لوصف تلك الأموال وبيان نوعها وتكييف إدارتها. وغايته تعليم القواعد المقررة المأخوذة عن تجارب جرت لأخذ الأموال بالعدل وصرفها بالعقل على شرط أن تحفظ مصالح الأمة والحكومة معاً فالدولة التي لا تراعي قواعد هذا الفن لا يتيسر لها أن تحصل على الأموال الطائلة التي تلزم لحفظ حياة بلادها والذود عن حياض أمتها.
منشأ أموال الدول
ثبت بالاستقراء أن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر سنة الكون في جميع الأمور وناموس عام يشمل الأشياء كلها وهذا القول يصدق على البشر والدول. ولما اخذ الناس يتكاثرون وينمون في الأرض أنشأوا ينقسمون إلى قبائل وعشائر وأصبح قويهم يطمع في التغلب على ضعيفهم فطرة فيهم منذ خلقوه ودأبهم في كل جيل. وهذا ما دعا كل فريق إلى الحذر من جاره أو الانتقام منه أو التعدي عليه فيتحاربون ويتقاتلون وينهب بعضهم أموال بعض ويعبثون بالسكان ويسبون النساء ويستحيون الذراري فيجعلونهم أذلاء صاغرين. وكان الدولة في تلك الأدوار عبارة عن هيئة تحفظ نفسها من تعدي القبائل والعشائر وتسعى لتكون على وفاق مع غيرها وتنشر لواء العدل وتحكم بالعرف والعادة معتمدة على الوجدان على حين كان لا فرق بين الحكومة والدولة من ثم يتضح أن أساس وظائف الحكومة وأهمها منع اعتداء الأعداء ونشر لواء العدل بين أفراد الأمة وكانت العادة إذ ذاك أن يتجهز أفراد القبيلة للحرب بسلاحهم وأموالهم بيد أنهم كانوا يتركون ما يغنمونه من الأموال والأراضي لرئيسهم وأعوانه جزاء شجاعتهم في الحرب وقيامهم بسنة العدل في زمان السلم وما هذه الأموال والأراضي المسلوبة إلا أموال الدولة الابتدائية وعلى هذا النمط كانت الأمم الشرقية في العصور المتقدمة توزع الغنائم على الأمراء والشجعان والرهبان وتأسر السكان وتزرع أراضيهم على أكتافهم. ولما ارتقت حكومات اليونان القديمة والدول الشرقية أذهن يوسعن نطاق بلادهن ويقوين سطوتهن فبنين بتلك الأموال وأولئك الأسرى المباني العظيمة والآثار الفخيمة التي لا تزال تدهش المتأخرين وظل هذا الناموس معمولاً بع وقاعدة من قواعد حقوق الدول المعتبرة في ذلك الحين إلى أن بزغت شمس الإسلام فتبين بطلان هذا القانون الواهي وجعل القائمون بدعوة الدين يكتفون بفتح البلاد وضرب الخراج على الأراضي والجزية على الرقاب ويتركون السكان أحراراً يتصرفون في أملاكهم كما يشاؤون كتاب الخراج ص 14 و20 وجاء فيه بالحرف قال عمر رضي الله عنه فأقر ما أفاء الله عليك في أيدي أهله واجعل الجزية عليهم بقدر طاقتهم تقسمها بين المسلمين ويكونون عمار الأرض فهم أعمل بها وأقوى عليها ولا سبيل لك عليهم ولا للمسلمين معك (ص: 82)
وغدت الدول الإسلامية وحكومات الرومان على ذاك العهد تصرف الأموال في توطيد دعائم الأمن والعدل وتسهيل سبل النجاح على أن الملوك والأمراء في الأجيال المتوسطة أخذوا يحصرون الأموال والأراضي بأنفسهم فصاروا يديرون الممالك بذاتهم وكانت أموالهم يومئذ عبارة عن دخل الرهبان بعد موتهم ريثما يعين غيرهم يضاف إلى ذلك دفائن الذهب والفضة المكتشفة وأموال من لا وارث يرثهم أو من قتلوا جزاء أعمالهم القبيحة وما يحصل من الحراج والمعادن وضرائب المسكرات والصيد وانتقال الأراضي بين الوارثين وعشور البيع والشراء والجزاء النقدي وغير ذلك فيتضح من ذلك أن الأموال المذكورة هي أساس الضرائب الجارية في البلاد المتمدنة الآن.
ولما اخترع البارود واستبدلت المحرقات الفاتكات بالجارحات واتحدت الأمم والشعوب جعلت الدول تتيه عجباً بعظمتها فأخذت يثير بعضها على بعض ويشن الغارات أعواماً مديدة حتى صارت الحكومة تنوء بأعباء الديون واضطرت إلى تحصين القلاع وتقوية الحدود واستخدام الجيوش المنظمة في زمن السلم دون الحرب وأنشأت تسعى في تزييد أموال الملة ليزداد دخلها وتسعى في رفاهيتها وسعادتها وتحسي أخلاقا وتهيئ الأسباب الكافية لهذا الغرض فاقتضى لذلك مبالغ طائلة.
فتبين مما تقدم أن أهم وظائف الحكومة نحو الأمة حفظ كيانها من تعدي الأعداء في الداخل والخارج وهذا لا يقوم إلا بأحكام أسس العدل والحرية وتعميم المعارف وتوفير أسباب الزراعة وتنظيم الصنائع وتسهيل طرق التجارة وكل ذلك يحتاج إلى دراهم ولذلك أحق للحكومة أن تأخذ من الأمة أجرة قيامها بنشر العدل والأمن داخلاً وخارجاً براً وبحراً وليست هذه الأجرة إلا أموال الحكومة التي يحق لها تقاضيها من أفراد الأمة.
قال أبو يوسف: كتب أمير الطائف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أصحاب النحل لا يؤدون إلينا ما كانوا يؤدون إلى النبي ﷺ ويسألون مع ذلك أن نحمي لهم أوديتهم فأكتب إلي بريك في ذلك فكتب إليه عمر أن أدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى النبي ﷺ فاحم لهم أوديتهم وإن لم يؤدوا إليك ما كانوا يؤدونه إلى النبي ﷺ فلا تحم لهم قال وكانوا يؤدون إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كل عشر قرب قربة اهـ ص 40 وقال: فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدوا المسلمين وعوناً للمسلمين على أعدائهم فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجلاً من قبلهم يتجسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريدون أن يصنعوا فأتى أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعاً لم ير مثله فأتى رؤساء أهل كل مدينة رسلهم الأمير الذي خلفه أبي عبيدة عليهم فأخبروه بذلك فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبو عبيدة يخبره بذلك وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج وكتب إليهم أن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بينا وبينكم إن نصرنا الله عليم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا شيئاً اهـ ص 81 فتأمل!
كيف تطرح الضرائب
تبين مما فصلناه أن طرح الضرائب العادلة التي تطبق الأمة حملها (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) حق صريح من أهم حقوق الحكم والاستقلال ولا يخفى على من قرأ التاريخ أن الحكومات وقعت في ديون جسيمة وتداعت تحت أثقالها بسبب الحروب العظيمة التي امتدت أعواماً وشهوراً لعلل معقولة أو غير معقولة حتى اضطرت إلى تحميل الأمة الأجرة التي تقدم ذكرها مع تسوية ديونها من أجل حفظ كيأن الدول ولذلك عرف علماء هذا الفن الضريبة بقولهم: الضريبة ما أصاب كل فرد من أفراد الأمة من نفقات الحكومة بالنسبة لريعه الحقيقي.
فالضرائب يجب أن تؤخذ من أفراد الأمة بالعدل والإنصاف وشرط في أخذها النسبة مع صافي إيراد كل شخص وقد بذل الأوروبيون جهدهم في البحث فلم يروا غير ثلاث طرق يؤملون بها أخذ الضرائب التي لا مناص منها على قاعدة العدل والإنصاف ولكنهم قلما نجحوا فيما قصدوا له وأما تلك الطرق الثلاث فهي:
1 - أن يتبين أفراد الأمة إيرادهم ويعترفوا للحكومة بمداخليهم
2 - التحقيقات الرسمية
3 - الإمارات الخارجية
فبيان أفراد الأمة واعترافهم هو إجبار كل فرد على بيان حقيقة ريعه لينال نصيبه من النفقات اللأزمة للحكومة. غير أن هذه الطريق لا تكون سالمة لأن الناس يكرهون بيان حقيقة أموالهم مع ريعهم ولا يستثنى من ذلك إلا الإنكليز الذين حرموا على أنفسهم الكذب أمام حكومتهم فيما يترتب عليهم أداؤه لأنهم على ثقة من عدلها فلا تكلفهم مالا يطيقون ومع أن هذه الطريق أقرب للعدل من سواها فهي لا تكون عادلة عند جميع الأمم ويستحيل اعتراف المرء بحقيقة دخله إذا كان مقدار الضرائب فوق الطاقة.
وأما التحقيقات الرسمية فهي أن يدقق عمال الحكومة ويحققوا دخل عمال أفراد الحكومة ويحققوا دخل أفراد الأمة ومهما كان أولئك الموظفون متصفين بالعدل معروفين بالإنصاف بريئين عن الغرض والغاية لا يصدقون في تقديراتهم ولا يصلون إلى حفظ النسبة بين المكلفين ولذلك يصعب تحقيق العدل في هذا الطريق.
وأما الإمارات الظاهرة فهي أقل عدلاً من غيرها لأن الظواهر لا تكون حقائق وذلك باعتبار المنازل الجسيمة غير سديدة لأن الناس اعتادوا أن يتظاهروا بالمال والغنى ويضعوا أنفسهم في مصاف من لهم من الإيراد ما يساوي ملكهم وكذلك البخلاء المقترون ممن إذا رأيتهم حسبتهم من الفقراء المدقعين مثلهم كمثل البغال والحمير يحملون الفضة والذهب ويأكلون التبن والشعير فلو نظر لظواهر هؤلاء وفرضت الضرائب على تلك النسبة ظلم الأولون وتضررت الحكومة بخسة الآخرين.
ومع شدة عناية الدول المتمدنة بإيجاد واسطة لوضع الضرائب بالعدل لتعم كل فرد وتؤخذ منهم على نسبة واحدة لكي لا يكلف الضعيف بالكثير ولا القوي بالقليل لم ينجحوا حتى الآن. بيد أن سعيهم هذا جعلهم يقربون من العدل وكذا المسلمون في صدر الإسلام بذلوا قصارى جهدهم من أجل أن يعدلوا بين الرعية في حفظ النسبة بين الإيراد والضرائب. جاء في كتاب الخراج ص 20 فمسح عثمأن الأرضيين وجعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى الرأس اثني عشر درهماً وأربعة وعشرين درهماً وثمانية وأربعين درهماً وعطل من ذلك النساء والصبيان. أهم وقال: حدثني الحجاج بن ارطاة عن ابن عوف أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مسح السواد ما دون جبل حلوأن فوضع على كل جريب عأمر أو غأمر لينال الماء بدلو أو بغيره زرع أو عطل درهماً وقفيزاً وأحداً ومن كل رأس موسر ثمانية وأربعين درهماً ومن الوسط أربعة وعشرين درهماً ومن الفقير اثني عشر درهماً وختم على أعناقهم رصاصاً وألغى لهم النخل عوناً لهم وأخذ من كل جريب الكرم عشرة دراهم ومن كل جريب السمسم خمسة دراهم ومن الخضر من غلة الصيف من كل جريب ثلاثة دراهم ومن كل جريب القطن خمسة دراهم.
وقال: ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها فجعل على كل مائة جريب زرع مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي جريب مما بعد ديناراً وعلى كل ألف أصل كرم مما قرب ديناراً وعلى كل ألفي أصل من بعد ديناراً وعلى الزيتون على كل مائة شجرة مما قرب ديناراً وعلى كل مائتي شجرة مما بعد ديناراً وكان غاية البعد عند مسيرة اليوم أو اليومين وأكثر من ذلك فتبين من هذا أن مراعاة النسبة للإيراد الصافي من الأمور التي يجب أن يعنى بها في طرح الضرائب.
جباية الأموال
وخلاصة الأمر أن رجال الإسلام سعوا لجعل التكاليف متناسبة مع إيراد الأشخاص كي لا يظلم زيد بعمرو. وأما جباية الأموال فشرط فيها علماء هذا الفن أن تكون في زمان سعة المكلف بها فيحصل من الفلاح ضريبته مثلاً بعد أن يذري غلاته ويأتي بها للبيع لئلا يضطر للاستدانة بالربا. فيكون مكلفاً بالمال ورباه. ويتقاضى من أرباب المواشي بعدما تنتج وتدرج ويتمكن من بيعها حتى لا يستدين أيضاً وتؤخذ عن العقارات عندما تؤجر وم الصادرات والواردات عند دخولها وخروجها وأوصوا أن لا تجبى تلك الأموال قبل أوأنها فقال أبو يوسفكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أحد عماله على العشور في العراق والشام من مر عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئاً إلى مثل ذلك اليوم من قابل إلا أن تجد فضلاً_إلى أن فل. حدثني يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان وكان على مكس مصر فذكر أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إليه أن انظر من مر عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم ومما ظهر من التجارات من كل أربعين ديناراً وما نقص فيجاب ذلك يبلغ عشرين ديناراً فإن نقصت تلك الدنانير فدعها ولا تأخذ منها وإذا مر عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون في تجاراتهم من كل عشرين ديناراً دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها فلا تأخذ منها شيئاً واكتب لهم كتاباً بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول.
وقد شرط على الجباة أن لا يضايقوا الرعية لئلا تنفر من الحكومة وحددوا لهم زمأن الجباية فمن تأخر عن الدفع أنذره الجأبي بلطف يخجله فإذا تأخر عن إيفاء ما عليه بعد أنذاره أنذره ثانية بشدة ممزوجة بلين وإذا تأخر بعد ذلك أقام عليه الدعوى بالمحكمة ثم يوضع الحكم في دائرة الإجراء فتحصله هذه كسائر الديون بحسب القانون على شرط أن لا تمس كرامة المكلف بدفعها. قال أبو يوسف حدثني إسماعيل بن إبرأهيمبن المهاجر البجلي عب الملك بن عمير قال حدثني رجل من ثقيف قال استعملني علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عكبراء فقال لي وأهل الأرض معي يسمعون: انظر أن تستوفي ما عليهم من الخراج وإياك أن ترخص لهم في شيء وإياك أن يروا منك ضعفاً ثم قال رح إلي عند الظهر فرحت إليه عند الظهر فقال لي إنما أوصيك بالذي أوصيتك به قدام أهل عملك لأنهم قوم خدع انظر إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفاً ولا رزقاً يأكلونه ولا دابة يعملون عليها ولا تضربن أحد منهم سوطاً وأحداً في درهم ولا تقمه على رجله في طلب درهم ولا تبع لأحد منهم عرضاً في شيء من الخراج فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني وأن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك. قال: قلت أذن ارجع إليك كما خرجت من عندك قال: وإن رجعت كما خرجت قال: فإنطلقت فعملت بالذي أمرني فرجعت ولم انتقص من الخراج شيئاً.
وقد منع عمال الصدقة الجباة عن قبول الهدية والصدقة قال أبو يوسف استعمل النبي ﷺ رجلاً يقال له ابن اللتيبة على صدقات بني سليم فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي قال النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته أما بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض أبطيه فقال اللهم هل بلغت.
ولما كان أمر جباية الأموال من أهم الأمور التي يجب تجنب الظلم والاعتساف وحفظ راحة العامة والخاصة قال أبو يوسف أن تتخذ قوماً من أهل الصلاح والدين والأمانة فتوليهم الخراج ومن وليت منهم فليكن فقيهاً عالماً مشاوراً لأهل الرأي عفيفاً لا يطلع الناس منه على عورة ولا يخاف في لومة لائم ما حفظ من حق وأدي من أمانة احتسب به الجنة وما عمل به من غير ذلك خاف عقوبة الله فيما بعد الموت تجوز شهادته أن شهد ولا يخاف من جور في حكم أن حكم فإنك إنما توليه جباية الأموال وأخذها من حلها ونجنب ما حرم منها أن يرفع من ذلك ما شاء ويحتجن منه ما شاء فإذا لم يكن عدلا ثقة وأميناً فلا يؤتمن على الأموال إلى أن قال: وقد يجب الاحتياط فيمن يولى شيئاً من أمر الخراج والبحث على مذاهبهم والسؤال عن طرائقهم كما يجب ذلك فيمن أريد للحكم والقضاء وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفاً لأهل عمله ولا محتقراً لهم ولا مستخفاً بهم ولكن يلبس لهم جلباباً من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم ثم قال: ولتصير مع الوالي الذي وليته قوماً من الجند من أهل الديوان في أعناقهم بيعة على النصح لك فإن من نصحك أن تظلم رعيتك وتأمر بإجراء أرزاقهم عليهم من ديونهم شهراً بشهر ولا تجري عليهم من الخراج درهماً فيما سواه وقال: تقدم في اختيار هؤلاء الجند الذين تصيرهم مع الوالي وليكونوا من صالحي الجند ومن له الفهم واليسر والنعمة منهم إن شاء الله تعالى ويستنتج مما تقدم أن مراعاة النسبة بين الإيراد وبين الضرائب من أهم القواعد الأساسية في فن المالية ويظهر للقارئ مما ذكر أن المسلمين في صدر الإسلام بذلوا طاقتهم من أجل تخفيف أثقال الضرائب عن الأمة كما يفعل القائمون بوضع الضرائب من العمال العالمين بقواعد هذا الفن في البلاد الراقية اليوم وكذا أقر العلماء أن الدولة لا تكون غنية إلا بشعبها ولا يغنى الشعب إلا بقلة الضرائب فمنع أبو يوسف طلب الزيادة في الخراج من المكلفين بعبارة طويلة ثم ختم كلامه قائلا في الزيادة هذا ضرر على أهل الخراج ونقص للفئ مع ما فيه من الإثم