الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 16/التجارة والشهرة

مجلة المقتبس/العدد 16/التجارة والشهرة

مجلة المقتبس - العدد 16
التجارة والشهرة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 5 - 1907


من مقالة في المجلة الباريزية

ظهر كتاب في نيويورك مؤخراً اسمه طريقة الإعلانات الجديدة قال فيه مؤلفه أنه انتشر الولع بالسياحة في المجتمع الحديث فلم تكتف كل أمة أن تنعزل وراء تخومها عزلة تامة بل راحت تختص بعمل لا يشاركها فيه سواها. فإذا كأنت المانيا تؤثر كبار رجالها المعروفين وتوسد إليهم الأعمال العلمية وفرنسا تعلم أبناءها الصنائع على اختلاف ضروبها فإن أمريكا تسوق إلى مضأمير الأعمال وهي على ما يظهر موطن المشاريع الصناعية العظمى. وإنا لنميل كل الميل أن نحكم على الأمم حكمنا على الأفراد. نحكم عليهم حكماً مسمطاً في شؤون ليست فيهم على حين كان الواجب علينا أن نقدرهم ونضعهم في المنزلة التي يستحقونها. وقد يذهب بنا الاستقراء الناقص إلى أن نستنبط أن جارنا محروم من الأمر الفلاني. وما على الغريب عن أمة يريد أن يصفها حق وصفها إلا أن يضيف ما رآه إلى ما لم يره. فإن في الأشياء أبداً ما يعجب به ويحب. ولا شك أن الحاجيات بأسرها والنزوع إلى العلى قد أخذت حظها عند كل أمة مثال ذلك أن تشهد التفنن بالصنائع في أمريكا إلا أنك تراه على أتمه في مملكة أخرى وعلى وجه يخالفه كل المخالفة. فمن يطلب المصنوعات الفرنسية في أمريكا يسخر منه كمن يطلب إلى اللابوني أن يلبس ثياب سكان المناطق الحارة أو للنازل على مقربة من خط الاستواء أن يعد الأدوات لصيد الدب الأبيض من جواره.

يعيب فلاسفة الألمان على الأمريكي عدم اشتغاله بعلوم ما وراء الطبيعة وعلى العكس يعيب علماء النفس الأمريكان على أساتذة الألمان اكتفاءهم من العلوم بالنظر فيها إلى دون العمل بها. ويعيب المتفنن من الفرنسيين على الأمريكي كونه نفعيا على حين ترى الأمريكي يهزأ إذا نظر إلى ما في بلاد الفرنسيين من أثار التفنن والصناعة. قال الفيلسوف هربرت سبنسر: إن صاحب الفلسفة هو الذي يعرف الصلات التي يهتدي إليها عامة الناس.

وبعد فإن أمريكا توصف بأنها مهد الأعمال المالية والحركة التجارية والصناعية والإعلانات هي دليل على ما هناك من نشاط في الاتجار والصنائع. ومتى أوردنا لك بعض الأرقام يتبين لك أن القوم غريبون في أعمالهم. قال موسيوديسي: تنفق الولاي المتحدة في السنة خمسمائة مليون ريال أجور إعلاناتها. أي أن ما تنفقه يقرب مما تنفقه الدول الأوروبية العظمى كروسيا وألمانيا وفرنسا واسبانيا على جيوشها. وكأنت الولايات المتحدة تنفق هذا المبلغ سنة 1905 وبحسب التقدير الذي قدره عألمان آخران ارتقت النفقات من ستمائة مليون ريال إلى مليون ريال للإعلان عن مصنوعاته وها هو اليوم يصرف ألف ريال في اليوم على هذا الغرض. وتخصص المعامل الكبرى التي لبيع بالمفرق في مدينة نيويورك وحدها البريد زهاء أربعة ملايين ريال في السنة لنشر إعلاناتها في الصحف. وفي مدينة شيكاغو يستخدمون البريد لنقل قوائم بإعلاناتهم وقد صرف أحد أصحاب المخازن الكبيرة لإرسال طبعة واحدة من الإعلانات بطريق البريد 64 ألف ريال ومعظم الأجور التي يدفعها أرباب المحال التجارية والصناعية يؤدونها لأرباب المجلات لأن المجلة تبقى على المنضدة معرضة للأنظار نصف شهر أو شهر ريثما يصدر العدد التالي أما الجرائد تغيب عن الأنظار بعد الأنظار بعد ساعات من صدورها. تتقاضى إحدى صحف فلادليفيا وهي تطبع مليون نسخة ستة ريالات عن كل سطر من الإعلانات فتكون أجرة الصفحة الواحدة في اليوم ستة آلاف ريال وإذا خصصت بمحل تجاري واحد تؤجر بأربعة آلاف ريال. وهكذا الحال في جريدة العملة التي تصدر في أوغستا فإن أجرة السطر فيها خمسة ريالات وهده الجريدة تطبع مليوناً وربع مليون نسخة والمجلات تتقاضى في أمريكا عن الإعلانات أجرة أرخص من أجرة الجرائد لأنها أقل انتشاراً وأعظم مجلة تطبع في العالم الجديد 60335 نسخة فتأخذ أجرة كل صفحة خمسمائة ريال وكثيراً ما تكون نصف صفحاتها مشحونة بالإعلانات فقط وقد قدر ما تتقاضاه عشر مجلات كبرى في الولايات المتحدة فبلغ معدله السنوي 4، 130، 353 ريالا. وهكذا قل عن النفقات الطائلة التي ينفقها أرباب التجارة استأجرت ثلاثين ألف مكان لتعليق الإعلانات عشرة ريالات في السنة عن كل قدم مربع في إحدى ساحات نيويورك العظمى.

ويكون للتاجر من الرجل الماهر في التفنن بالإعلانات ذخر وأنفع عامل فينقذه راتباً مهماً. لذلك تدفع المخازن الكبرى التي تبيع بالمفرق في أمهات مدن أمريكا مثل نيويورك وشيكاغو الذي يحس صف البضائع في الزجاج يتقاضى أجرة مثل هذه مسانهة.

قدر المقدرون أن متوسط ما ينفقه التاجر الأمريكي على الإعلانات من أصل أرباحه خمسة في المائة ومنهم من ينفق أكثر ومنهم من ينفق أقل. ويقتضي ذلك من التفنن وحسن الذوق شيئاً كثيراً ولما كانت أمريكا المثل السائر بغناها ترى الدراهم فيها تغدو وتروح من جيب إلى جيب كانها بانطلاقها دراهم ذاك الكريم المفتخر بقوله

لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق

فالمرء بادئ بدء لا يرى حاجة ماسة لابتياع المصنوعات وبيعها إلا طمعاً في الأرباح الكثيرة ومباهاة بما لديه من عروض ومتاع وثروة حقيقة أو غير حقيقية ثم تصبح هذه العادة بعد من ضروريات الحياة. قال باسكال في كتابة (الأفكار): أكثر من الصلاة تكن تقياً. ويقول لسان حال التجارة: اجعل الزخرف والزينة ديدنك تغدو بطبعك مفنناً والذوق يحصل لصاحبه بسرعة.

قالوا أن التاريخ يعيد نفسه وهو قول صحيح فقد رأينا طبقة الإشراف في الغرب وهي في الأصل من أبناء أولئك البرابرة القساة والأمراء الغلاظ الجفاة في أوائل القرون الوسطى قد رقت طباع أهلها بالتعليم والتربية فالمال هو الذي يولي الشرف ويحسن الأذواق في الحقيقة. وأمر بديهي لأن حواسنا تتأثر في الغالب والعجب يورث الرغبة في الجمال وامتلاك ناصية الجمال تكون مادة للعجب.

خذ مثالاً لذلك رغبة القوم في أمريكا بالملاحة والظرف وتأثيرهما في عقولهم. فإن المخازن العظيمة التي تبيع بالمفرق في المدن الكبرى كنيويورك مثلاً يكثر الطلب عليها أيام الاثنين أكثر من سائر أيام الأسبوع. ذلك لأن الجرائد تصدر يوم الأحد طبعات خاصة من صحفها وتملؤها بالإعلانات وعلى العكس في يوم الجمعة فإن الأشغال فيه تكون في فتور حتى يعده التجار من الأيام التي لا حياة فيها ولا رواج لسلعهم. بيد أنه لم يسعهم إلا أن يتداركوا أمره بإعلانات جلبت الزبائن على مخازنهم فعد ثاني الأيام في منافعه التجارية وأنك لترى كثيراًت من ربات يغسلن غسيلهن ويقضين شؤون بيوتهن يوم الثلاثاء ليتمكن يوم الاثنين من الاختلاف إلى المخازن والانتفاع بما جعلته للزبون في ذلك اليوم من الأمتيازات.

ولو شئنا تعداد ما يأتيه الأمريكان من ضروب الاحتيال في الإعلانات لضاق المجال فإن القوم يعتبرون الإعلانات من أدوات النجاح النافعة شهدت بذلك العادة والحس مثال ذلك أن القوم في الولايات المتحدة يصرفون كميات وافرة من الكعك بحيث يحشى أن ينسوا استعمال الخبز فيما بعد. فكان من رغبة الناس في الكعك يباع بالمفرق منذ بضع سنين بأن يوضع عند البدال في صناديق وبراميل مفتحة ويجعل الواحد تلو الآخر فيجئ الزبون يجس الكعك ويذوق قطعة منه ثم يشتري أو ينصرف. فإذا أراد أن يشتري يتناول البائع الكعك بأصابعه في العادة ليضعه في الميزان ويكون قد وزن فيه من قبل سكر أو بن أو ملبس ثم يأخذ فيضعه في كيس الورق. وأنت خبير بأن تنأول الكعك على هذه الصفة فيه ما فيه من الأضرار بالصحة والقذارة التي تؤدي إلى القرف وهي منافية للذوق قليلة السرعة والغناء. خل عنك بأن الكعك إذا ظل على الدوام معرضا للهواء يفقد طراوته وقضمه. على أن الناس لم يشتكوا من هذه الطريقة.

وكان من الإعلانات أنها هي التي سدت الخلل وأصلحت الحال. غدا التاجر الأمريكي لا يكتفي بأن تكون بضاعته أحسن بضاعة بل اقتضى عليه أن يؤثر في أذهأن العامة ويحملهم على ابتياع ما لديه والاعتماد في تنأول حاجتهم عليه. فمن ثم كان التاجر أن يشفع جودة بياعاته بفوائد لم يكن للمبتاع على بال اجتناؤها وأخذ الباعة يتفننون بكعكهم حتى أدت الحال إلى أن يباع الأن في رزمة وزنها محدد. فترزم أولا في ورقة غليظة صحية تنفذ إليها الرطوبة والهواء ثم يوضع هذا المغلف في علبة من المقوى على شكل لطيف وتلف تلك العلبة بورقة أيضاً وترسم عليها علامة المعمل واسمه. وبهذه الطريقة أصبح الكعك في أمريكا آمناً من الجراثيم الضارة والغبار الملوث يحفظ بحاله طويلاً ولا ترقد فيه القطط في الليل كما كان من قبل وأخذ الباعة يبيعون منه كميات أوفر. وتبأرى الباعة في هذا التفنن حتى لا يتخلف أحد عن صاحبه ولا يقطع البائع المتفنن على البائع الخامل رزقه وما الداعي إلى كل هذا إلا الرغبة في الإعلان.

ولم يقف الأمر في أمريكا عند حد بيع الكعك على هذه الصورة بل أنه تعداه إلى السكر والبن والملح والفلفل والأرز وغيره. وربما بيع الخبز بعد الأن في ورق خاص به لا تمسه يد ولا تراه عين ولا تؤثر فيه عوامل الحرارة والبرودة. وهكذا تدخل روح الترتيب والنظام والنظافة حتى إلى أفقر بيوت الأمريكيين مما يعد خطوة عظيمة في طريق الاتجاه صوب الولوع بالجمال واختيار الأحسن من كل شيء.

ومن فوائد الإعلانات أنها نفعت في بيع الثياب الحاضرة الجاهزة فكان بعض الأمريكيين ومنهم الفقراء فقط يلبسون من قبل ألبسة حاضرة ويعمد بعضهم إلى الخياطين لأن مقادير أجسامهم تختلف بعضها عن بعض وقد لا يوأفق الاكتساء بالأقيسة المعتادة فقام أحدهم وأنشأ معملاً لصنع الثياب الحاضرة من جميع أنواع الطول والعرض والهندام وتوصل بواسطة الإعلان عن محله بالجرائد والمجلات أن أقبل الناس عليه لأن قيمة الثياب الحاضرة تفرق عن التفصيل نحو النصف فإذا وجد كل إنسأن القياس الذي يطلبه يفضل أخذ بدلةثم ما زال ما كان علق في الأذهأن القوم من أن الألبسة الجاهزة لا تلاءم كل جسم وغدا معظم أهل أمريكا يبتاعون الألبسة المهيأة على الأيام ذاك الوهم الذي غرسه الخياطون وغيرهم.

وكان من رخص الثياب في أمريكا أن غدا الأمريكيون غاية في نظافتهم ولبسهم الجديد من الثياب. وحدث أن أحد الأمريكان نزل إلى مدينة هامبورغ في ألمانيا فقال لأحد رفاقه عجبت من أهل المدينة كيف لا يوجد فيهم غني يلبس بزة جديدة. ذلك لأنه رأى القوم يلبسون ثياباً لا تماثل في نظافتها وحسن نظامها ما يلبسه سكان المدن الأمريكية وبهذا عرفت أن الأمريكيين فاقوا الأوربيين في ولعهم باتخاذ الجميل من كل شيء وإن كان هذا الخلق فيهم قديماً في الأوربيين. ومثل ذلك قل عن الأثاث والرياش في المساكن فإن الأمريكأن يستجدونها ويستجدونها. وارتأى كثيرون من مراقبي سير الإعلانات أن ما كان منها منظوماً يفضل على المنثور لأن العامة تطالعها برغبة وينظرون فيها إذا كانت شعراً ولو عامياً أكثر من نظرهم في غيرها. ومن الناس من يقول أن الإعلانات كثيراً ما جلبت ضرراً لأن القارئ بما فيها ويكون فيها مبالغة أو خديعة فيبتاع السلعة أو الشيء فيبخس أو يغبن وأنها كثيراً ما أتت بما لا تحمد مغبته.

ولكن القائلين بالاستكثار من الإعلانات يقولون أبداً: أن لكل سبب من أسباب العمل سلاحاً ذا حدين وذكاءنا أيضاً نصرفه في الشر كما في الخير. فلا داعي إذا لتعنيف المعلنين بحجة ما في إعلاناتهم من الخطاء. وليس من العقل أن ينبذ الدين والأدب بحجة أن هناك ناساً من المنأفقين المخادعين كما لا يجوز بحال أن يزهد في سهام المصارف (البنوك) لأن في بعضها تدليساً وغشاً.

قيل لخياط في فيلادلفيا أنك تغش الناس بما تنشره من إعلاناتك التي تخالف أكثرها حقيقة الواقع فقال: أن في هذه المدينة مليون فلو خدع بما أعلنه عشرة في المائة منهم وأكثرهم بله مغفلون وتيسر لي أن القي في شرك احتيالي عشرة في المائة منهم أي عشرة آلاف نسمة فإنا في سعة من العيش وبسطة من الغنى. وفاته أن من خدع مرة لا يرجع ثانية في الغالب. وأحسن طريقة لدفع الغش عن القراء أن يجعل أرباب الصحف والمجلات أجوراً غالية على الإعلانات التي يلحق عليه إدارة الجريدة من مالها لأنها هي التي كأنت السبب في خديعته.

العامة وضعاف العقول يخدعون في العادة بكل ما حوت الإعلانات. والعامة أكثر الناس. ويليهم في الانخداع النساء ثم العملة. على أن العامة يقل عددهم في أمريكا لشيوع التعليم فيها فيقل لذلك المنخدعون بالإعلانات الساقطة يوماً بعد آخر. قال المسيو بوأنكره في كتابه (قيمة التعليم) وهو الكتاب الذي اشتهر بين الخاصة والعامة: لا يعرف كم نفع البشر الاعتقاد بعلم الفلك. فإن قدر الفلاح لكبار وتيخو براهي فذلك لإنهما كانا يروجان على السذج من الملوك أخباراً من المغيبات يبنيانها على قرانات الكواكب. فلو لم يكن أولئك الأمراء على جانب من التغفل يصدقون بما يلقى عليهم لكنا بقسنا إلى اليوم نعتقد أن الطبيعة تابعة لهوى النفوس وظللنا نتسكع في بيداء الجهالة. وهذا القول ينسج مثله على منواله فيقال: لو لم يكن للأمريكيين رغبة في اكتساب المال ولو لم يتنافسوا فيه ويتفاخروا في إحرازه ولو لم يكونوا متعجرفين ربما كنا رأينا القوى السامية في الإنسان تسقط في المزاحمة مع القوى العملية النافعة الصرفة في جنسنا الإنساني وكنا نسير الشؤون المادية على وجه سمج.

فالصنائع هي زخرف الحياة ولا يكون الزخرف إلا مع الغنى ولا يحصل الغنى في هذه العصور الديمقراطية البعيدة عن العبودية إلا بالتفإني في اصطياد الدرهم والدينار وقد ينتج من شر كبير خير كثير ومن الولوع بالمال في الاتجار بالأدب والفنون.