الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 15/التقية

مجلة المقتبس/العدد 15/التقية

بتاريخ: 15 - 4 - 1907


الأمم في أول نشأتها تحتاج إلى كتم أمرها وضم أطرافها والتماسك في كل أحوالها خوف عدو قاهر ومليك مقتدر وعدة ضخمة وعدد؟؟ من مال ورجال حتى إذا استحكم أمرها وأصبحت كفؤا لمناوئها تظهر ما كانت تضمر وتقدم إقدام الاتيي على الوادي وتلوب على من تضمه إليها وتكثّر به سواد قومها. وهكذا حال الأفراد فإن العالم أو صاحب الدعوة إذا كان في مبدأ شأنه بين قوم يخاف بادرتهم إذا فاتحهم بأفكاره يخفي شيئاً مما يكنه ضميره حتى إذا اشتدت شكيمته واستحكمت مُنّتُه واستجاش له أنصاراً وخاصة يقبلون ولو جانباً من أفكاره وعلمه يتدرج في بث دعوته فيبدأ بالضعاف أو المستضعفين إلى أن يصل إلى الأقوياء والعظماء. وهذا الضرب من الكتمان يسمى التقية مشتقة من أتقاه أي خافه وهي ضد العلانية. عادة راجت ولا تزال رائجة في المشرق خصوصاً بين المغلوبين المخالفين أمام الغالبين الظالمين ولكم ذهب بها فيما غبر أرواح رجال لم يحسنوا استعمال التقية ونجا بها أناس جعلوها شعراً يلبسونه ومجناً يتقون به عادية من يخالفونهم أو يريدونهم على العلم بما لا يعتقدون به من علم ورأى ونحلة.

جاء الرسول العربي عليه الصلاة والسلام فقام يبث دعوته وتحمل فيها صنوف الأذى والإهانة ولما كثر أنصاره ومريدوه من المهتدين وخاف امتداد الأذى هاجر إلى المدينة وهناك أقام على تلقين اليقين علانية. ولذلك أجمع رأي الصحابة على عهد عمر بن الخطاب لما أرادوا التأريخ أن يبدأوا من سنة الهجرة لأنه الوقت الذي حكم فيه الرسول على غير تقية فأكن الدور الأول ما كان إلا لتأسيس ما بدأ ظهوره من الدعوة في المدينة فلم يحسبوه. وقد جاء في القرآن آيات تدل على الأخذ بالتقية وآيات على عكسها بحسب المناسبات.

قال الخازن في تفسير قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} أي ألا أن تخافوا منهم مخافة ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن مداراة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إ مع الخوف من القتل مع سلامة النية إلى الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}. ثم أن هذه التقية رخصة فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم. وأنكر قوم التقية وقالوا إنما كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين فأما اليوم فقد أعز أمة الإسلام والمسلمين فليس لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: ابن الحسن يقول التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان. فقال سعيد: ليس في الأمان تقية إنما التقية في الحرب. وقيل إنما تجوز التقية لصون النفس من الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. اهـ

واختلفت مذاهب المسلمين في التقية فروى المؤرخون أنه كان سبب اختلاف نافع بن الأزرق ونجدة بن عامر من زعماء الخوارج أن نافعاً قال التقية لا تحل والقعود عن القتال كفر واحتج بقوله تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}. وبقوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وخالفه نجدة فقال: التقية جائزة واحتج بقوله عز وجل: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}. وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فالأزارقة من الخوارج وهم أصحاب ابن الأزرق المشار إليه يقولون إن التقية غير جائزة في قول ولا عمل. وحكى الكعبي عن النجدات وهم أصحاب نجدة بن عمار أن التقية جائزة في القول والعلم كله. وقال الصُّفرية الزيادية وهم فرقة من الخوارج أيضاً: التقية جائزة في القول والعمل. والرِّدَيُّ عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه.

أما الشيعة فلهم في التقية تجوّز لم تعرفه فرقة من المسلمين فيما أحسب فكل ما أرادوه تكلموا به فإذا قيل لهم ذلك ليس بحق وظهر لهم البطلان قالوا إنما قلناه تقية وفعلناه تقيةً. هذا ما نقله الشهرستاني في الملل والنحل وليس في الأيدي كتاب من كتبهم نرجع إليه فيما قالوه هم في حقها. ولقد رأيت بعضهم يستعملون التقية في خلواتهم وجلواتهم فلا تجديهم إلا صغر النفوس وضياع الشمم والشرف على حين لا يضطرهم إلى ذلك داعٍ ولا يريدهم عليه حاكم ولا محكوم عليه. ولكن هي العادات يرضعها الأبناء مع لبن الأمهات فيتعذر الإقلاع عنها إلا بعد الاستغراق في نور العلم النافع والتربية الصحيحة.

والعقل يقضي بأن يستعمل في دار التقية ما لا يستعمل في دار العلانية على حسب الأحوال. وقد تترتب مفاسد دينية ودنيوية على سوء استعمال التقية ولكن قل في العلماء وأرباب المقالات من أحسن استعمالها وساعده محيط بلاده على تحقيق أمانيه. والتوسط في كل شيء محمود المغبة فكيف بالتوسط مع الطواغيت والمرء لا ينجو معهم بدونه.

عهدنا الحجاج لما هزم عبد الرحمن بن الأشعث وقتل أصحابه وأسر بعضهم يتلقى كتاب عبد الملك بن مروان في عرض الأسرى على السيف فمن أقر منهم بالكفر خلّى سبيله ومن أبى قتله. فأتى منهم بعامر الشعبي ومطرف بن عبد الله بن الشخير وسعيد بن جبير. وكان الشعبي ومطرف تريان التقية وكان سعيد بن جبير لا يراها فذهب عامر ومطرف إلى التعريض والكناية فعفا عنهما وأما سعيد بن جبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرَّض به الشعبي: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، وانخزل بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. قال: صدق والله ما برّوا بخروجهم علينا ولا وقووا خلّيا عنه. ثم قدم إليه مطرف بن عبد الله فقال هل الحجاج: أتقرّ على نفسك بالكفر؟ قال: إن من شق العصا، وسفك الدما، ونكث البيعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر. قال خليا عنه. ثم قدم إليه سعيد بن جبير فقال له: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: ما كفرت بالله مذ آمنت به. قال اضربوا عنقه.

أرأيت رجلاً معروفاً بصلابة دينه ووفرة علمه وثبات جنانه وقوة برهانه فادى بروحه من أجل الحق وغلّب الموت على القول بما يخالف ما وقع في نفسه؟ أبى إباؤه وأنفت أنفته أن يلجأ إلى تقية لا يرضاها ذوو النفوس الكبيرة فذهب مثال الكمال وأنموذج الفضيلة والتقوى أبد الدهر. هذا هو سعيد بن جبير الذي لا تفتأ الألسن تذكره بالرحمة وتسخط على من قتله شر قتلة.

ومن التقية المحمودة إن صح أن يسمى التقية ما يأتيه بعض العلماء من الامتناع عن إفشاء بعض الأسرار في الدين للعامة وقد أرجع الغزالي هذه الأسرار التي يختص المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها إلى خمسة أقسام: الأول أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك وإخفاء سر الروح من هذا القسم. الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الزرد بالجعل. الثالث أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب كما لو قال قائل رأيت فلاناً يقلد الدر في أعناق الخنازير فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها. الرابع أن يدرك الإنسان الشيء جملةثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق. الخامس أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده حقاً والبصير بالحقائق يدرك السر فيه.

قال صاحب كتاب إيثار الحق على الخلق: كثرت البدع وكثرت الدعاة إليها والتعويل عليها وطالب الحق اليوم شبيهٌ بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمر بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى. وأن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة. قال ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه.

ونسب تنكب الناس عن طريقة الحق لعدم الحرص وقوة الداعي وللخوف من شر الأشرار مع الترخيص في التقية بإجماع الأمة فقد أثنى الله على مؤمن آل فرعون مع كتم إيمانه وسميت به سورة المؤمن وصح أمر عمار بن ياسر بذلك وتقريره عليه ونزلت فيه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. وقد قيل من عرف الخلق جدير أن يتحامى ولكن من عرف الحق فعسير أن يتعامى. والذين آمنوا أشد حباً لله. ونسبه أيضاً للخوف من الشذوذ من الجماهير والانفراد عن المشاهير.

وذكر أيضاً أنه زاد الحق غموضاً وخفاءً أمران أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام قائلاً: ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر الخلق. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين أما أحدهما فبثثته في الناس وأما الآخر فلو أبثه لقطع هذا البلعوم.

ومازال الأمر في ذلك يتفاحش وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة المقصد الأسنى ولوّح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح الرحمن الرحيم. وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات البرهان في مسألة قدم القرآن، والرازي في كتابه المسمى بالأربعين في أصول الدين. قال: وثانيهما الاعتماد على الكتابة في حفظ العلم فإنه أدى إلى كتم أهل العلم لكثير من مصونه في أول الأمر ثم لمهمات الدين في آخره وكان العلم في أول الأمر يبذل من أهله لأهله مشافهةً ولو سراً وذلك أول النقص وهو محفوظ في الصدور غير مبذول لأهل الشرور في الشعور فلما قلّ الحفظ وطال الأمر وكتب ليحفظ وتعذرت الصيانة وخيف العدوان من أعداء أهل الإيمان كتم بعضهم فلم يظهر علمه فازداد النقص واتقى بعضهم فتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفاً على نفسه ورمز بعضهم فغلظ عليه فيما قصده في رمزه فتفاحش الجهل.

وأما الفرق بني ما يجوز من المصانعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز وهو المصانعة وربما عبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالفة وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام. ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في الرسالة المخرسة لأهل المدرسة: لا يجوز أن تكون المولاة هي المتابعة فيما يمكن التأول فيه لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق وصلى الحسن البسط على جنائزهم وأقام علي بن موسى الرضا مع المأمون وكثَّر جماعته وتزوج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك. والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له فتأويله ممكن. وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي مولاة الكافر لكفره والعاصر لمعصيته ونحو ذلك. وهو كلام صحيح والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} ومنها قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

تأمل هذا المنقول في التقية من كلام ذاك الإمام المجتهد وهو نموذج من تأليف من عمل بعلمه ولم يكتم حقيقةً إرضاء لخاطر ولم يتق رثاء وخوفاً وطمعاً. ذاك كلام أبي عبد الله محمد المرتضى من أكابر علماء القرن التاسع أنفت نفسه من التعصب لعادات الآباء والمشايخ فتجانف طرق أسلافه وحكّم الإنصاف في أقوال فرق الإسلام ولولا عراقته في الشرف وبُعد غوره في العلم وإخلاصه في أقواله وأعماله لاضطهد وأوذي ونال من صنوف العذاب ألواناً. أقدم هذا الإقدام مؤثراً أن ينصرف عنه جانب من حطام الدنيا مثل تولي الإمارة عند الزيدية وشرطها عندهم أن يتقلدها أعلم الناس وأشرفهم وكان هو جامعاً لهذين الشرطين وهو من أسرة تولت زعامة الناس فرأى الدعوة إلى الحق خيراً من الإمامة والإمارة فردّ على أبناء مذهبه الأصلي في كتاب ضخم يقع في زهاء ألف ورقة وسماه العواصم والقواصم وخلّف مصنفات غيرها دلت على سعة فضله وعقله وأنه ممن أحسنوا استعمال التقية ولم يتأذوا بالعلانية ورخصت أعمارهم في عيونهم فأفادوا واستفادوا. وكتابه إيثار الحق المنقول عنه آنفاً رأيه في التقية أكبر دليل على ما توصف به.

وإذا قابلنا بني كلام هذا الإمام وكلام من اشتهر أكثر من شهرته لا نعتم أن نشعر بفرق بين المشارب والعقول ولكلٍّ ذوقه وعقله. فمن مشاهير المؤلفين والفلاسفة الفخر الرازي وكل من قرأ مصنفاته ير فيها عقلاً كبيراً ومادة واسعة. ومع هذا وجد له أهل البصر ما ينتقد في حياته العلمية.

درّس الرازي والتفت حوله التلاميذ والأساتذة فكان إذا ركب يمشي معه ثلثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ونال الحظوة من أمراء عصره والحظة عند شعوبه وتعاظم حتى على الملوك ومع هذا مال الرازي إلى مذهب الجبر القاضي بأن الإنسان كالريشة في الهواء لا عمل هل ولا تدبير ينفعه وأن القضاء والقدر يدوران به على مرادهما وهو المذهب الذي عشش اعتقاده في صدور معظم المسلمين فكان من دواعي انحطاطهم وإن لم يشعر ظاهر الشريعة ولا المأثور عن الأمناء عليها في الصدر الأول بشيء من هذا المعنى وإنما رأى الرازي الخير في نصرة هذا المذهب لأنه كان متسلطاً بكثرة على أهل بلاده فقرر كما قال عن نفسه ما أعتقده أنه هو الحق وتصور أنه الصدق. ولقد رد عليه بعض علماء المسلمين وسفهوا رأيه فيما ذهب إليه حتى أن كل محب لاحترام العلم وإكرام صنيع حملته ليرجو أن تكون بعض هذه الأفكار التي أخذها العلماء على الرازي هي التي سجل على نفسه في وصيته بأنه رجع عنها.

وأنت ترى أن اليماني والرازي المشار إليهما قضيا حياةً طيبةً ممتعين بثمار علقهما وغادرا هذه الدار بلا إهانة وفتنة واكتفى معاصروهما ومن بعدهما من العلماء بالرد عليهما في الورق فكانا مثالاً فيمن نفعته التقية وعرف استخدامها. وإذا جئنا نستشهد بمن جنى عليهم عدم استخدام التقية نخرج عن قصد الاختصار. قال الثوري: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلّط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية قد صرح بما اعتقد صحته والغناء فيه فعاداه أعداء التجديد والتحقيق وأشياع التخريف والتلفيق من علماء السوء الرسميين وآذاه من شأنهم مسايرة الحزب الغالب من الأمراء الذين لا مذهب لهم إلا المال ولا دين إلا بسطة الجاه ولا سياسة إلا حكم الناس بما يريدون ولا عقل إلا الاعتصام بالقوة والجبروت.

قضى فساد محيط ابن تيمية والجهل المركب الذي فُطر عليه من جُفّوا في التجني عليه بممالأة من لا رأي لهم أن قضى سجيناً سنين عديدة في جب يوسف بقلعة الجبل بالقاهرة وأعواماً في برج بالإسكندرية وأعواماً في قلعة دمشق إلى آخر ما عومل به من الحبس وكان القصد من هذا كله إيقاف قريحته عن الانبعاث تفادياً من أن يجرف سيلها العرم ما وهى من باطل الاعتقاد ووجد ضعاف العقول وأسرى التقليد آباءهم عليه من الأضاليل والخزعبلات. ولا أقول إن ما لقيه ابن تيمية من الألاقي حبس قلمه عن الكتابة وعلق تأثيره في نفوس مئات من القريبين للخير ولكن من لنا بعشرة عملوا عمله في تاريخ الإسلام رزقوا نفساً كنفسه وعزيمة كعزيمته يستهين بروحه وراحته ويستميت في نصرة الحق وإماتة الباطل من دون ما تقية؟

ولقد شهدنا رجلاً قام في القرن الثاني عشر في وسط جزيرة العرب دعا إلى مثل دعوة ابن تيمية واستنار بعلمه. واهتدى بهديه فعاش سعيداً والنفع به عميماً ألا وهو محمد بن عبد الوهاب. قام هذا بين قوم تغلب عليهم السذاجة البدوية والفطرة العربية فصاح فيهم صيحة أراد بها زحزحتهم عما كانوا فيه من العبادات والمعاملات لأنها من شأن أهل الجاهلية منافية للإسلام فأذعن أعلامه بين أناس ما عرفوا إلا الشرك والوثنية. وكان نصيب هذا الداعية من علماء عصره أن بدّعوه وفسقوه وكفروه ولو طالت إليه يد الأشرار لمزقوه كل ممزق وجعلوه سلفاً ومثلاً للآخرين.

نعم نفعت تلك البادية في بث الدعوة بلا تقية ولا مصانعة أكثر من الشام ومصر زمن ابن تيمية. والدعوات كلها سياسةً كانت أو علمية ما فتئت تبدأ في البوادي والأقاصي ثم تمتد امتداد شواظ من نار فتلتهم الأقرب فالأقرب. وأهل المدن يستغرقون في الترف على الأغلب ويتبنكون النعيم حتى تكاد تنزع منهم وجداناتهم إلا قليلاً فيلجأون إلى المشاغبة في كل ما لم يألفوه والتمويه في الحق والباطل. ولذلك ترى سكان الجبال والأرياف أنشط في كسب العلم وأرغب في التجديد ونزع التقليد لبعدهم عن نشأة السرف والترف.

ومعاذ الله أن يفهم من هذا القول أن ابن تيمية لم يحسن استخدام التقية وابن عبد الوهاب أحسنها ولكن الأول جمع الشروط كلها فخانته بيئته وأسلمه قومه لأهواء الحاسدين. وهذا هو السبب الذي من أجله اعتاد بعض أصحاب الأفكار والمجددين المصلحين منذ القديم أن يهجروا مساقط رؤوسهم لبث دعوتهم وترويج بضاعتهم كما ترحل التاجر بتجارته والصانع بنتائج صنعته. عهدنا معظم العلماء لما أن يشتد عليهم في وطنهم الضغط الناشئ من حسد حاسد وكيد كائد ينزلون صعقاً آخر ليقدروا بقيمهم الحقيقية ويثمنوا بما يساوون. كان هذا شائعاً في بلاد الإسلام أيام كان فيها بقايا من العلم ونسيس من الحياة الاجتماعية فكان العالم إذا كُرب أن تُكربه التقية في بغداد يهجرها إلى الشام وإذا اشتدت به الحال هنا يغادرها إلى مصر أو المغرب أو الأندلس وإذا وقع عليه ما لا ترضى به نفسه في الروم يرحل إلى فارس.

إليك حكم التقية في العلم والعلماء والدين والأمراء. ولم أفض فيما يستعمله أهل السياسة من التقية لأن ما هم بسبيله مبني في الغالب على الخديعة والحيل مدعوم بالرهبوت والجبروت مصبوغ كل يوم بصبغة تخالف صبغة أمس.

وأني لأرجو أن لا يكون جماع أهل العلم والسياسة داخلين في غمار من وصفه أحد الأعراب بضعف فقال: سيء الرؤية، قليل التقية، كثير السعاية، ضعيف النكاية ولا أن يكونوا مثل من قال المأمون فيهم لرجل وعظه فأصغى إليه منصتاً فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فأسأل الله أن ينفعنا بها وربما علمنا غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.