الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 14/نفاضة الجراب

مجلة المقتبس/العدد 14/نفاضة الجراب

مجلة المقتبس - العدد 14
نفاضة الجراب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 3 - 1907


فجائع البائسين

4

مضت أيام وسعيد يجتهد فوق طاقته بحيث قدم فحصين عن دروس صفين في آن واحد حتى بلغ الصف المنتهي ليقرب وصوله إلى المدارس العالية وظل مثابراً على خطته حتى خرج الأول من المدرسة ولم يترك جائزة لأحد من رفقائه في الصف فأدهش المعلمين والتلاميذ وأمّل الجميع بنجاحه في المستقبل وبعد ما نال الشهادة عزم على السفر واطلع الباشا على قصده فساعده على ما يريد ولم يتيسر له أن يختلي بجميلة ولكنه ودعها قائلاً أؤمل أن أوفق إلى مطلوبي وذهب إلى الأستانة تحف به الآمال وتشيعه الأحلام.

حتى إذا بلغ دار السعادة أخذ يفكر في انتخاب مدرسة يتخرج فيها على النحو الذي يكون به في المستقبل جديراً بجميلة فلا تكبده ما لا يطيق من النفقات. فرأى أن دار المعلمين أحسن عائدة عليه لأن الأول في الصف فيها يقبض مشاهرةً ليرة عثمانية وكان يعتمد على نفسه بأنه سيحرز الأولية بيد أنه فكر بما سؤول إليه أمره في المستقبل وماذا سيكون من اشتغاله فلما أدرك أنه سيصير معلماً للنشء وقيماً على الأطفال امتنع عن الدخول إلى دار المعلمين ذلك لأن هذه الصناعة تعد قبيحة عند العامة وهو يود أن يصير في مقام يكسب به جاهاً يخوله الحق أن يخطب جميلة من أبيها ثم فكر في حقيقة تعليم النشء وتدريبهم فأدرك انه بعمله هذا يكون علمهم العلوم وأحسن تربيتهم وجعلهم رجالاً للأمة وقد يعلمهم المؤازرة والتضامن فيجعلهم جسماً واحداً وأمة واحدة كالبنيان المرصوص ويدربهم على الأعمال الشريفة التي تعود بالخير على وطنهم فيغنم بذلك أجراً جزيلاً وثناءً جميلاً. وربما أحرز منصباً في نظارة المعارف يجعله في أوج المعالي إذا ساعده الدهر وخدمه الحظ وكان مغروراً بحظه لما رأى من نفسه الغناء في الفوز بالأولية في الصف ومحبة الناس عامة. وبعد أن فكر ملياً في الأمر أزمع الدخول إلى هذه المدرسة فدخلها وأخذ يقضي أوقاته ويفني صحته في الدرس لينال ذلك الراتب. وفي غضون ذلك انتقل الباشا من دمشق برتبة أكبر إلى مكان بعيد فساقته الضرورة إلى الاكتفاء بهذا الراتب القليل.

وكان سعيد لما بلغ الأستانة نزل في خان من خانات شنبرلي طاش واستأجر أصغر ح فيه يدفع ثلاثين قرشاً في كل شهر وقد أتى معه بفراش ولحف واشترى قطعة بساط عتيق فمده وجعل يجلس على فراشه كل من يزوره من إخوانه وكان يشتري ما يلزمه من الأواني شيئاً فشيئاً ويعيش في غاية الاقتصاد. فكلما دخل حجرته أو أكل أو شرب أو نام يعتريه ضيق صدر فيشكو دهره ويقول إلى متى وأنا مقضيٌّ عليًّ بالتقتير والحرمان من كل لذة وقد ينتهي في الأحايين إلى درجة اليأس بحيث يكاد ينتحر ليخلص من هذه الحياة التعسة ثم يرجع إلى نفسه ويقول قتل الإنسان ما أكفره. لابد من تحمل المشاق حتى أنال السعادة ومهما عاكستي الدهر فإني قاهره بشدة صبري ثم يأخذ يفرك في مستقبله وماذا يفعله وربما تجسمت أمامه السعادة ورأى نفسه في أعلى المناصب وأنه نال حينئذ وصالاً من حبيبته جميلة وبينا هو يخوض بحار هذه الخيالات يرى ساعة الدرس أتت فيلعن الدرس والاجتهاد لأنه كان في حرب من الأفكار.

وكان يمتنع عن التنزه إلا إذا اكرهه إخوانه على رفقتهم فيذهب حياءً منهم فينغصون عيشه وهم بمالهم فرحون فكان إذا رأى منزلاً عالياً تذكر حجرته وإذا رأى عربة جميلة تذكر ذهابه وإيابه إلى المدرسة مشياً تحت المطر والثلج وإن رأى نُزلاً تذكر دكان الطاهي الذي يتعشى فيها وإذا استنشق هواءً نقياً تذكر هواء حجرته الفاسد وإذا رأى غادة تذكر حبيبته وإذا رأى عجوزة تخدمها السراري تذكر أمه وهي تعمل في المطبخ. وكلما شاهد ما يدل على السعادة كان يذكر ما يقابله من شقائه فيرجع من التنزه حزيناً كئيباً ويعود رفقاؤه مسرورين. ولذلك كان يعد أحسن أوقاته ساعة نومه الخالي من الأحلام إذ يستريح به من التفكر في الشقاء وكان كلما ذكر شقاءه يقطع أمله من جميلة ولكن الآمال كانت تبعث الاطمئنان إلى قلبه. وقضى ثلاث سنين على هذا المنوال وهو بعيد عن راحة الفكر وانشراح الصدر فأتم الدراسة وأخذ شهادة تامة تؤهله لكل خدمة ثم عين معلماً براتب ثمانمائة قرش في الشهر فساقته الآمال وأطمعته الرواتب وسعد به أبواه وأهله ولكن لم يمض زمن حتى مات أبوه وخلف له أسرة قضي عليه أن ينفق عليها فأصبح راتبه لا يكفيه وصار يلتمس ممن تعرف إليهم أن يعينوه معاوناً لمدير مكتب بيروت الإعدادي فبلغ راتبه ألفاً ومائة قرش على شرط أن لا يفارق المكتب إلا ليلتين من كل أسبوع ويدرس أربع ساعات كل نهار ويعلم الرياضيات والتاريخ والإنشاء فصار يتألم من تنوع الفنون التي يشتغل بها وكان يود أن يختص بفن واحد منها ولكن قلة الأجرة التي خًصت للدروس اضطرته إلى أن يتحمل هذا العذاب ويمنع نفسه من الإخصاء بفن واحد ومع كثرة اشتغاله وتألمه من كثرة عائلته ما نقطع لحظة عن التفكر بجميلة ولكن بعدها عنه وانقطاع أخباره جعلاه في يأس من الوصول إليها وكان في احتياج للزواج.

5

في يومٍ راقت سماؤه ورق هواؤه ذهب سعيد مع صديق له يسمى رفيقاً إلى متنزه ضبيا ليصرف وقتاً بدون فكر ويتخلى ساعة عن بؤسه وشقائه. فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث في كل ما خطر ببالهما. فساقهم الكلام إلى البحث عن الزواج شأن من لم يتزوجوا من الشبان وكان لرفيق أخوات جميلات متعلمات يود الناس الزواج بهن ولكن كان له أم عرفت بمساوئ الخلاق واشتهرت بسوء الطوية فامتنع الناس عن التأهل بأخواته. وكان رفيق في كدر من كسادهن وهو على علم من مكانة سعيد في الحال والمآل فتصور سعادة لأخته في قرانها بسعيد فتجاسر وكلفه بأن يصير له صهراً ففكر سعيد هنيهة ووعده بالقبول فتعهد رفيق بإسكانه في منزله واعتباره واحداً من أهله وفرداً من أفراد عائلته وافترقا على أمل القران فذهب رفيق وأخبر أمه بما جرى بينه وبين سعيد ومدحه لها وأعلمها براتبه وأفهمها مستقبله فسرت به وأملت بسعادة ابنتها فرضيت وساقت ابنها إلى إتمام هذا الأمر فذهب إليه غير مرة وسأله عن عزمه فأجابه بالقبول وكان سعيد فكّر في جميلة وما بينهما من الوعد. ولكنه استبعد ثبات النساء على أقوالهن والوصول إليها لما بينه وبينها من الامتياز في الطبقة وعبثاً رأى نفسه معلقة بها فرضي بالزواج وتكلم مع رفيق على مقدار المهر فرضي هذا بخمسة آلاف بعد قبول أمه ولكنهما قرراً على أن يعقد النكاح على مهر مقداره 150 ليرة رئاءً أمام الناس وعينت ليلة العقد ودعي الأقارب والخلان وشربت المرطبات وتولى الشيخ صيغة العقد وذهب كل من حضر داعياً بلسانه وهم ما بين معترض ومنتقد وساب وشاتم وحامد.

وعينت ليلة العرس ودفع المهر سعيد فاستدان وباع راتبه بنقص ليقبضه قبل ميعاده حتى يقوم بما يلزم من نفقات العرس.

واجتمع بقرينته شهيرة فوجدها على ما يرغب وسرّ بها وظن أنه نال السعادة فصار معززاً مكرماً لدى أسرة رفيق بأسرها ولكنه وقع في قبضة الديون بعد أن كان يقتصد من راتبه ويجمع دراهم وصرت لا تراه إلا شاكياً باكياً من دهره يفكر ويقدر فيما يجعله غنياً وكانت عنده (تحويلات) البنك العقاري وتحويلات سكة حديد الروم ايلي فرهنها على مبلغ ليوفي ديونه فما خلص منها ولكن ذلة ليالي الوصال وأوقات الاجتماع كانت تنسيه همه وتسليه عن غمه. وظل نحو شهري بين مسرور بزوجته ومغموم بديونه وكان أخبر أمه التي تركها بدمشق بزواجه فأرسلت تطلب منه أن تحضر إليه لترى كنّتها وتلتقي بابنها فاستدان لها مبلغاً أرسله إليها فأتت ونزلت ضيفة في بيت رفيق ولم تلبث يوماً أو بعض يوم حتى أخذت أم رفيق تهينها هي وبناتها إلا شهيرة امرأة سعيد فإنها كانت تبجلها رعايةً لقرينها فتكدرت أم سعيد وأخبرت ابنها بما وقع لها فأسف لذلك واضطر إلى الرحيل فاتخذ له داراً سكنها هو وأمه وامرأته فزادت نفقته وازدادت ديونه فصعب انتقاله على أم رفيق لأنه كان يشترك معها في الإنفاق على البيت وكانت تقتصد بسببه وتخفف نفقات ابنها فسعت في إرجاع ابنتها بدعوى أنها لا تطيق السكنى مع أمه وكانت تعلّم ابنتها ما تقوله فصارت هذه تلح عليه باعتزال أمه وتبدي له الجفاء بعد أن كان لا يرى منها إلا المحبة والوفاء فصار يؤاخذها على أعمالها وينصح لها بأن لا تسمع كلام أمها فما سمعت له وتركته وحيداً من أجل أن تنال رضى أمها ورجعت إلى بيت أخيها. اغتنمت تغيب أهل الدار ذات يوم فأتت بحمالين ونقلت متاعها وتركت الدار بلا أثاث فرجع سعيد في المساء فلم يجد متاعاً وأخبره الجيران بما تم فعلن حماته والساعة التي عرف بها رفيقاً وكانت امرأته حاملاً قد أقربت وكان أخوها متغيباً عن بيروت عندما تمت هذه الأعمال القبيحة فلما رجع أخبرته أمه وعظمت المر في عينه حتى جعلت سعيداً فحمة سوداء أو حية رقطاء وصورته لابنها مثال الدناءة والرذيلة وجردته من كل شهامة وخلة كريمة ونسبت إليه من الأعمال ما لم يخطر له على بال حتى أشربته بغض صهره وساقه الحنو الأخوي للانتصار لأخته وأعماه كلام أمه عن رؤية الحق وراح يظن الباطل حقاً وأصبح لا يثق بكلام سعيد فبدلاً من أن ينصح لأخته وأمه أخذ يزيدهما عتواً وطغياناً. وكان سعيد يسعى ليصلح الخلل ونصح لرفيق ووعظه فما استفاد إلا هجراً وصداً فتركه وشأنه.

وضعت شهيرة فطلبوا منه نفقات الوضع فما تأخر عن طلبهم وأرسل إليهم جميع ما يلزمهم من دارهم وغير ذلك على أمل أن يرجعوا عن غيهم. فولدت الفتاة غلاماً فرح به أبوه ولكنه لم يتسر له أن يراه وصار يتوسط ليرى مهجة فؤاده فلم يحظ بطائل. وعندها رأى أن يهجر أهل زوجته هجراً جميلاً فاغتاظ رفيق لذلك وأقام الدعوى عليه في المحكمة الشعرية فأتى بشهود من أقاربه ليشهدوا أن سعيداً طلق شهيرة فشهدوا بالطلاق وأنه لم يدفع من مهرها المسجل شيئاً وقدره مائة وخمسون ليرة وهنا أدرك سعيد أنه وقع في شرك احتيال رفيق الذي اتفق معه على خمسة آلاف قرش وكتب العقد 150 ليرة ولكنه أقام البراهين والأدلة القاطعة على أنه دفع المهر وأنه لم يسبق منه طلاق وأن الفتاة زوجته في كل وقت وأنه يحبها وأن تعيين هذا القدر من المهر كان من قبيل التظاهر أمام الناس بالسعة ومفاخرة لا حقيقة.

فأدرك القاضي إخلاصه وأيقن بصحة دفع الخمسة آلاف من المهر المسجل وما استطاع إلا أن يحكم ببقية المائة والخمسين ليرة مهراً مؤجلاً لأنه مسجل بالقيود وشهادة الشهود على أنه موقن بعدم صحة هذا المهر المسجل ورتب على سعيد مائة وخمسين قرشاً في كل شهر أجرة الحضانة وتربية ابنه وحكم ببقاء الزوجية.

فعند ذلك يئس سعيد من إمكان الاجتماع بزوجته إلا إذا ماتت حماته ولم يجسر على الطلاق خوفاً من أن يحق عليه أداء بقية المهر لأنه لم يبرح رازحاً تحت أحمال الديون التي تذهب ببركة راتبه كل شهر وأخذ يشكو من آلام الوحدة بعد أن كان يعيش العيشة الزوجية فساقته الضرورة إلى الميل للزواج مرة ثانية فوسط امرأة من اللواتي يتوسطن للنساء سمسارات وأوصاها بأن تفتش له على زوجة غنية لا أم لها ولا أب ولا أخوات.

6

من عجائب الاتفاق أن علي باشا عاد إلى بيروت بمنصب أعلى من منصبه سابقاً فأنشأ سعيد يتردد عليه ويزوره في أغلب الأحايين.

علمت جميلة بما حل بسعيد فأسفت عليه وشمتت به لأنه خان عهدها على أنها لا تزال مقيمة على العهد ويئست من الزواج وعزفت نفسها عن الرجال وحكمت عليهم بأنهم أقل وفاءً من النساء ولكنها ودت الاجتماع به لتعاتبه وتشكو إليه وتشكو منه لأنها لم تطلع أحداً على سرها وأخذت تسعى وراء مقصدها حتى تيسر لها أن تخلو به في منزل أبيها فرحبت به وأخذت تعاتبه قائلة: لم يخطر ببالي أنك ستخون عهدي لأني لم أعهد فيك إلا الوفاء والثبات ومكارم الأخلاق فما الذي حملك مع على الخيانة؟

- نعم خنت عهدك على أن مكانك لا يزال محفوظاً في قلبي ولكن علمي بمنزلتي وعدم إمكاني القران بك واحتياجي إلى تدبير أمر معاشي وتنظيم حياتي ساقاني إلى ذلك الزواج المشؤوم لازداد شقاءً على شقاءٍ وأنال جزاء خيانتي لعهدك وكان ينبغي أن أبقى على الوفاء ولو عشت العمر كله في حرمان.

فضحكت جميلة ثم قالت: هب أني لم أشك بما أعهده فيك وأنك لا تزال على عهدك القديم فما الذي ساقك إلى الزواج مرةً أخرى وأنت على علم من حبي لك ووجودي في بيروت؟

- لم أقصد من ذلك إلا تعذيب زوجتي والانتقام منها لأني أعلم أن أعظم ما يجازى به النساء الزواج عليهن ولو كانت الواحدة منهن مطلقةً وعلى عصمة زوج آخر.

- وهذا هو العجب العجاب! فكيف يليق بمنوّر الفكر مثلك عرف بمكارم الأخلاق أن يتنازل للانتقام؟ أنسيت أن الرجال لا ينتقمون عند المقدرة؟

- لا أنكر أن الانتقام نقيصة في الرجال ولكن إذا كان الذي لا تنتقم منه يعد عدم انتقامك جبناً ويزيد في طغيانه فهل يعامل إلا بالانتقام؟ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ودفع الشر بالشر أحزم، واللئام لا يعاملون بغير الانتقام.

- هب إني سلمت لك بأن الانتقام من هؤلاء الأنذال واجب عليك وإذا لم تفعل تلام فقل لي بأبيك ألا تأمل إرجاع امرأتك؟

- لا أخفي عنك أنني ربما رضيت بها إذا رجعت عن غيها وعلمت أن لا خلاص لها مني وأصلحت نفسها وماتت أمها كل هذا إذا كنت في يأسٍ منك.

- فأنت إذاً عازم على الانتقام منها بزواج امرأة أخرى؟ ألا تصبح إذا رجعت إليك ذا الزوجتين؟ فكيف تتصور لك راحة أو هناء بين زوجتين وأنت على علم بأن من يتزوج امرأتين يشتري عذابه بيده فينغص تنغيصاً لا نهاية له ويلقي بنفسه في الغم والهم، وإذا طلقت الثانية لترجع إلى الأولى فيكون عملك مما يشين العقلاء لأن النساء لسن كما يقول بعض الجهلاء كالحذاء متى ما مللت منه تنزعه من رجلك!. وتذكر ما كتبته إحدى منذ حين من أن رجلاً رأى في منامه أن حذاءه سقط في النهر فراجع كتب تفسير الأحلام فلم يجد تعبيراً لرؤياه سوى مفارقة زوجته فطلق امرأته تفسيراً لمنامه وتصديقاً لكتب الحشو. على أن العاقل البصير يحترم النساء لأنهن جنس لطيف جدير بالتعظيم والمحبة. النساء أمهاتكم اللواتي يعانين أنواع العذاب في الوضع فمن لم تكن أمك فهي أم أخيك أو أبيك أو صديقك أو جارك أو ابنك. فكيف يليق بك أن تطلق زوجتك بعد ما تستوفي حظوظك منها وتذهب برأس مالها فتتركها محرومةً من الزواج؟ ولا يدورنَّ في خلدك أني لا أذكر أن الله تعالى أجازكم أن تأخذوا من النساء مثنى وثلاث ورباع ولنه جل شأنه شرط عليكم العدل ثم ذكركم بأنكم لا تستطيعون أن تعدلوا بين النساء. وكيف ترضى امرأة بشريكة لها في حياتها بأعمالها وأفراحها؟ ألا تضطر أن تحرمها منك لتعدل بين الاثنتين وتعاملها بالمساواة، أويخطر ببالك أن تلك التعسة تنام تلك الليلة وهي على علم من أنك عند أعدى عدوّاتها؟ ثم افرض أن الاثنتين اتفقتا - وهذا ضرب من المحال - أليس من الممكن أن يأتيك أولاد من الاثنتين؟ وبديهي أن يتنازع أولادك على أقل سبب فإذا انتصرت الواحد لابنها لا تسكت الأخرى فيقع النفور بينهما وبين الأخوة فتحرم بذلك راحتك وتفقد سعادة عائلتك فإذا كان الشقاق دأب بيتك ونشأ الأخ على بغض أخيه فكيف تؤمل منه خيراً للهيئة الاجتماعية؟ أوهل لك سبيل إلى الإقناع بأن تعدد الزوجات حسن ونتائجه حسنة؟

- لا يسعني الإنكار بمضرة تعدد الزوجات إلا إذا كان عن ضرورة وللضرورة أحكام، ولا أنكر أن الشرع الشريف لم يبحه إلا لهذا السبب وما فرضه علينا فرضاً فمن لم يكن في اضطرار إلى تعداد زوجاته فلا يليق به إلا الرضا بواحدة.

وإذا صفا لك من زمانك واحد ... نعم الصديق فعش بذاك الواحد

- فإذا وافقتك الجديدة وأعجبتك بخلُقها وخلْقها وطلقت شهيرة فماذا تكون حال ولدك منها؟ لو كان أجمل ولد في العالم وكنت أعقل رجل لابد من أن تسقطه من عينك وتجعله نقطة سوداء لأن المرأة عدوة طبيعية لابن زوجها فإذا نشأ ابنك في ظلم امرأتك واستبدادها ألا تكون حينئذ قد جنيت عليه. وأنت في عيني أعظم من أن ترتكب جناية مثل هذه وهب أنه سمحت لك كل هذه الأحوال أليس من العار أن تتزوج باسم الانتقام أو باسم الاحتياج وأنت تعلم أن القصد من التأهل اتخاذ قرينة تشارك الرجل في أفراحه وتشاطره أتراحه ويكمل بها ويعيش معها عيشة راضية فيقومان بما يجب عليهما للمجتمع الإنساني وهذا الأمر لا يتم إلا بقران الرجل بمن توافقه طبيعة ومزاجاً وأخلاقاً ولذلك أرى أن تسعى في استرضاء خاطر شهيرة إذا كانت فيها هذه الشروط وترضى بما قسم لك ربك وتربي ابنك كما تشاء لتجعله خير الخلف من بعدك عساه يكون لك ذخراً وسنداً.

- أنا وحقك معترف بما أتيت به من الحقائق ومن الأسف أنه لم يتيسر لي الاقتران بمن توافقني وتكون جامعة لشروطك ولو أسعفني الحظ وتزوجت منك لسعدت وما أتاحت لي الأيام أن أقع في المهالك والأخطار.

- قضي الأمر وكان بودي أن أكون قرينة لك ولكنك عجلت فأخطأت وحرمت نفسك مني وحرمتني بعملك من التأهل بغيرك لأني وعدتك بان لا أرضى بسواك ومن شيمي وطبعي الثبات على وعدي فلهذا لا أقرن بأحد وسأعيش عانساً متبتلة وبحكم القضاء راضية

فلما سمع سعيد هذه العبارة احمر وجهه وأطرق خجلاً وود الموت ليخلص مما عراه من الخجل أمام من فاقته بمكارم أخلاقها واستولى عليه السكوت وانقطع عن الحركة.

فلما أدركت خجله قالت لا تستحي فإنك لست أول رجل خان الجنس اللطيف بوعده فمهما كان الرجل عاقلاً رقيق الشعور كريم العواطف والأخلاق لا يزال في عتو بدعوى التفوق على النساء ولا يعد الخطأ أمامهن إلا من قبيل السهو والنسيان الملازمين للبشر ولكن كن على ثقة من أنه سيجيء يومٌ ترتقي فيه الهيئة البشرية وتعلم منزلة المرأة وواجبات الرجال نحوها فتحفظ حقوقها فتصبح معززةً مكرمةً ولا يجسر أحد حينئذ على خيانتها لأن عمله يعد سقوطاً في الأخلاق، وأرجو منك أيها الصديق أن لا يشق عليك كلامي وما لك إلا الإذعان والاعتراف بالذنب لأني صاحبة الحق. وأما أنا فإني أسلمت أمري لخالقي الذي جعلني بائسة محرومة من شرف السعادة الحقيقية.

فعند ذلك قام وعبرات الأسى تنهمل من عينيه على خديه وأخذ يقبل يديها ويقول: ها أنا ذا أكرر اعترافي بذنبي عني والعفو من شيمك ولا تزيديني هماً وخجلاً فوق كدري، وارحمي شبابي لئلا يسوقني هذا العذاب إلى الانتحار.

فضحكت وقالت: أرجو أن تجلس في مكانك. أتدري سبب ضحكي؟ قال: لا. فقالت لأني قرأت من الروايات وأخبار العشاق ما لم أتذكر عدده وقد ثبت لدي أن الرجال يستعطفون النساء ويستميلونهن بدعوى الانتحار فلا يصدق دعواهم إلا اللواتي حرمهن الخالق من العقل والعلم وكم قرأت وسمعت من أخبار الرجال الذين كانوا عزموا على الانتحار من أجل معشوقاتهم وبعد أن حظوا بقربهن تركوهن يعانين آلام العذاب وندر من انتحر والنادر لا حكم له. وإني لا أود أن أسمع من عاقل مثلك أن يقول هذا الكلام فلو كنت ممن يطيب لهم الانتحار لصبرت من أجلي وعملت مثلي. هذا والشائع على الألسن أن الرجال أقدر من النساء على ضبط أنفسهم ولكني رأيتك مع شدة عقلك ومتانة أخلاقك لم تمنع نفسك من خيانة العهد.

- كفى سيدتي أما قلت لك أني تزوجت اضطراراً علماً مني أنه من المحال أن أصل إليك لما بيننا من الدرجات والفروق.

- هل طلبتني ورجعت خائباً حتى تعتذر هذا الاعتذار الواهي؟

- لا أجرؤ على أن أخطبك لأني كنت على يقين من رجوعي خائباً وخفت أن تتحول عني أنظار الباشا وأن تنقلب محبته لي نفوراً مني فأكون حينئذ ضيعت آمالي على أني مازلت غريقاً في بحر الآمال.

- ماذا تقول؟ أجننت أم تهذر؟

- أعذريني على خطأي ولا تجرحي حواسي فإني مازلت أسعد بها.

- ماذا تقول؟ لقد صغرت في عيني بعدما كنت كبيراً!. أنسيت إننا كنا نتكلم عن تعدد الزوجات ووصف مضراته؟ وكيف يخيل إليك أن تجعلني شريكةً لمن خربت آمالي وجعلتني في حرمان من حبيبي الخائن؟

- آه سيدتي دعي عنك هذا الكلام فإني سأطلقها من أجلك وأرجع إليك إذا ساعدني الحظ.

- كيف تطلق زوجتك أم ولدك وأنت تعلم أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق وماذا تكون حالها بعد الطلاق وماذا يؤول إليه أمر ابنك التعيس الذي سيتربى على غير ما تريد؟

- أنسيت أن الله تعالى قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} على أني سعيت لأمسكها بمعروف فلم يتيسر لي لأنها شربت لبن اللؤم من أمها ولا أمل لي بإصلاح حالها وهي كلما تقدمت ودرست على أمها زادت لؤماً وخبثاً وبغضاً إلي فطبيعة الحال تسوقني إلى تسريحها وأما ابني فإنه أهمل وترك للطبيعة تتصرف به كما تشاء فخانته وسلطت عليه الأمراض وقد أخبرني الطبيب أن لا أمل في حياته وإذا مات أراحنا واستراح وبذلك تزول الموانع ويبقى مانع واحد وهو قبول الباشا الذي لا سبيل إليه فهل إليه من وسيلة؟

- أنا ثابتة على قولي وعهدي ولكن وجود زوجتك يمنعني عن قبول ذلك.

فأقسم لها بالله بأنه لو لم يخف من الحكم عليه بدفع بقية مهرها لطلقها ثم قال: لا يخفى عليك قلة ذات يدي وعدم اقتداري على دفع المبلغ ولعل الحظ يسعفني فيموت ابني على أني أعدك وعد حر أنه يستحيل اجتماعي بها بعد الآن.