مجلة المقتبس/العدد 14/صدور المشارقة والمغاربة
→ ../ | مجلة المقتبس - العدد 14 صدور المشارقة والمغاربة [[مؤلف:|]] |
شعراء النصرانية في الجاهلية ← |
بتاريخ: 15 - 3 - 1907 |
اميرسون
1803 - 1882
يظن بعضهم أن العالم إذا بث فضل علمه والأديب إذا نشر آثار أدبه والأخلاقي إذا علّم الحكمة لأهل جيله وقبيله وصاحب الدعوة أو النزعة إذا نفخ في الناس من روحه ولم يظهر للعيان في الحال أثر مما قصدوا له ووقفوا نفوسهم عليه وأنفقوا نقد أعمارهم على خدمته يعدون في الخائبين الخاسرين وأن العمل إذا لم يُنتج لأول الأمر لا يعد صاحبه رجلاً مذكوراً ولا عمله مبروراً مشكوراً كأن يطلبون من الغرس أن يثمر في يومه ومن الطفل أن يكبر بانفصاله عن أحشاء أمه وفاتهم أن لكل عمل عمره ولكل مؤثر أثره والله لا يضيع عمل عامل.
يكاد يوقن كل ناظر في الحضارة الغربية وباحث في تاريخها منذ مئتي سنة أنها ترمي بالتدريج إلى أن تكون حضارة مادية بحتة لا ينظر فيها لغير الأبيض والأصفر وأن أهل الغرب على اختلاف أصقاعهم وحكوماتهم لا يحيون ولا يريدون أن يحيوا إلا أن الحياة المادية ولا تراهم إلا زاهدين في الحياة الأدبية أو الروحية. فعلى نسبة غنى المرء عندهم وكثرة ذهبه تزداد حرمته والإعجاب به وكلما استحل أكل مال الضعيف وتفنن في هضم حق الفقير ولو تحت ستار الاحتكار أو الاستعمار أو الشركات والمضاربات عُدّ من أرباب العقول والمضاء وهذا من عيوب هذه المدينة الأوروبية وما نخال أن الحال كانت كذلك على عهد الحضارة الإسلامية.
الحياة المادية تكاد الآن تتغلب في كل بلد من المعمور على نسبة دخول نور العلوم وفضلات التمدن الحالي وتشهدها على أتمها في الولايات المتحدة الأمريكية لأن جميع أهلها من المهاجرين من أقطار العالم في طلب الرزق وقل فيهم مثل المهاجرة الأول الذين هاجروا إليها فراراً بنفوسهم من ظلم الحكومات الأوروبية فتكوّن منهم والله أعلم على ما طبيعة تلك المملكة الضخمة من الخصب وأسباب الثروة التي لم يجتمع مثلها لمملكة أقوام يحلمون بالدولار ويحيون به ويموتون في حبه ويفصلون كل شيء على مثاله ويسعون بكل ما يمكن إلى نيله ولا يفكرون في غيره من الحياة الأدبية التي لو نزعت من أمة لزالت عنها سعادتها وغبطتها ونعماؤها.
ولقد كان أول من دعا من حكماء تلك الديار إلى الإقلال من هذا التكالب الضار والجمع بين حب الذهب وحب الأدب صاحب هذه الترجمة اميرسون حكيمها وعالمها العامل. دعا إلى ذلك وأهل طبقته من المفكرين في أمته فأثر دعوته في بعض النفوس تأثيراً نظرياً ولكن لم تظهر آثارها العملية حتى الآن على أن كثيراً من زعماء الأفكار وحملة العلم فيهم يتوفرون اليوم على قتل تلك الروح المادية ومحاربتها للتخفيف من شرر شرورها وفي طليعتهم الرئيس روزفلت داهية الأرض وعالم القياصرة والإمبراطورة وأعقل المالكين من المطلقين والمقيدين.
نشأ اميرسون في حجر الدين وكان أبوه رئيساً دينياً من شيعة الموحدين فانصرف في أول أمره إلى احتذاء مثال والده في الوعظ والإرشاد ونال وظيفته في كلية هارفارد الجامعة فدرس فيها علم اللاهوت وغدا واعظاً موحداً في إحدى بيع بوستون إلا أنه لم يلبث أن تخلى عن هذه الصناعة وذهب إلى بلدة كونكورد سنة 1835 ينقطع للتعليم والإلقاء على سبيل المذاكرات العامة وإلى تأليف الكتب وإنشاء المقالات في المجلات وأسس لنفسه مجلة دينية فلسفية سماها الكمال وكانت تآليفه لأول عهده فلسفية محضة ولما زار إنكلترا سنة 1848 ورأى أهل العالم القديم وما عندهم من آثار وأمصار تنبهت فيه القوى النفسية فوضع تأليفاً كان سبباً لأن لقّب به كارلايل أمريكا تكلم فيه على كثير من كبار الرجال ممن بلغوا مراتب الكمال على نحو ما تكلم كارلايل الإنكليزي في كتابه الأبطال وعبادة الأبطال. ومن جملة كتب اميرسون التي تأفَّقت بها شهرته كتاب سماه الخُلُق الإنكليزي درس فيه أخلاق الأمة الإنكليزية من الوجه الاجتماع والأدبي شرح فيه على أحسن طراز وألطفه وأوضح أسلوب وأنفعه الأسباب التي نجم عنها مجموع النقائص والعيوب التي يتألف منها الخُلُق البريطاني.
كان اميرسون كاتباً وشاعراً وهو إلى الكتابة أميل وفيها أمتن وأرصن. منقطع القرين في سلاسة التعبير ولطف الأداء والتصوير مما كاد يبلغ به حد الإعجاز في لغته. وكان حكيماً مفكراً وأخلاقياً عظيماً. قيل إن الوحدة التي مال إليها اميرسون وسعة العيش التي أنقذته من الهموم الخارجية أتاحتا له أن يكون منه في القرن التاسع عشر رجل شبيه بمونتين في القرن السادس عشر هذا كاثوليكي وذاك بروتستانتي. فأميرسون حكيم كمونتين وشارون الحكيمين الفرنسويين وشكسبير الشاعر الحكيم الإنكليزي. ولقد أولع بدرس كتب مونتين ثم انتقل إلى الأخذ من كتب شكسبير فهو مثلها باحث من النظار وهو مثلهما في الإبداع والعمل بما في فطرته بعيد الغور حسن التعليل جيد النقد نافذ البصيرة خالص من شوائب التقليد.
قال مترجموه أنه جمع جميع الأدوات التي تطلب للفلسفة ولم يتيسر له أن يحيلها إلى طريقته. ومما امتاز به نقده أحوال عصره لأن طرق الحكومات الجمهورية تهلك الفرد في سبيل الجماعة فقام اميرسون وناهض في عصره هو وكبار أرباب العلم من أهل حلقته المتشعبين بأفكار أمثال وتوروالكوت وشاننغ وفرانك سانبون وغيرهم المتكالبين على الغنى المستحلين للمطامع. وقام يقول للفرد: اعتقد بما يوحيه إليك قلبك. ورأى أن الصناعات تقضي على عالم الكمال فأنشأ يقول إن العالم لا يحيا حياة طيبة رغيدة إلا إذا نبذ الأنانية وطهّر حياته من الشهوات البدنية ليبلغ الزلفى من رب العباد براً تقياً. فاميرسون هو صاحب الفلسفة المعنوية التي تدعو إلى المعارف والآداب وقد وصفته مجلة بلاكو ماكازين بقولها: كان اميرسون من أسجع الناس خُلقاً وأوسعهم علماً وأحسنهم رأياً وأسمحهم فكراً وآلفهم بالفطرة وأخلصهم من الأوهام المائجة المتغيرة ليس له نظرية يحيد عنها ولا طريقة يصعب الأخذ بها ولا أرب في القبض على قياد أحد. يطلب للمرء أن يكون لنفسه وأن لا يعتمد إلا عليها وأن يوقرها ويحترمها على مثال كبار الرجال ممن لهم ما له وعليهم ما عليه. فإن قام اميرسون بمبدأ عام استنتج من فلسفته أو تصور أنه أتى أمراً جديداً لم يسبق إليه سابق فهو أنه دعا إلى إعادة الإنسان إلى شرفه في نظر أخيه والإهابة بالناس إلى الغيرية وزحزحتهم عن الأنانية ليكون المرء كبيراً في نفسه معتمداً عليها مستقلاً كل الاستقلال في أفكاره وأفعاله وهذه هي الشروط الحقيقية في القوة الشخصية والخير الاجتماعي.
وما نرانا مخطئين لو عقلنا إن فلسفة اميرسون النظرية تتعاصى على التحليل فيقتضي حلها بحسب ما يوحي إليه وحي الوقت وأن يجع إلى حلها في مشالك المسائل المتعلقة بما وراء المادة وإذا تعاورتها بالحذف والتنقيص تُفقدها رواءها وتضيع سناها وسناءها فعليك يا هذا أن تقبلها على علاتها وتشربها على كدوراتها إذ أن حسنها إن تبقى على رسمها كما صدرت عن أبي عذرتها وهو يسير في الفلوات ويصعد الآكام والعقبات ويوغل في الحراج والغابات ويميلها بحسب ما تنزل عليه من السماء ويستنشقها من الهواء ويسمعها من حفيف الأوراق ويتناولها من أرج المروج الخضراء ويقرأوها في سطور المسايل والتيار. فإن أنت حذفت منها اضطرابها وارتخاءها وتلون صورها ولهجاتها وارتجالها ومواضع الوقف فيها تصاب بآفة وعاهة. ولذا كان علينا أن نقبل تعاليم اميرسون بالحرف بدون أن نغير منها شيئاً فهو ابن الوحدة والتأمل.