الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 13/تسامح العظماء

مجلة المقتبس/العدد 13/تسامح العظماء

بتاريخ: 15 - 2 - 1907


يظن من لا عهد له بدرس مشاهير رجال الإسلام أنهم كانوا جبابرة لا يحسنون غير البطش والكر والفر على أن الباحث في سيرهم يراهم من أشد الأمم حرصاً على ما فيه قوام عمرانهم ولم يكن في قلوبهم غالباً شيء مما يقال له تعصب أو تحزب بل ساسوا رعاياهم سياسة العدل لم يحابوا ولم يداجوا فقدروا الكفاءات قدرها ولم يعتبروا في مصالحهم إلا أهل الغناء والعلم. وربما لا يصدق إلا غمار في هذه الإعصار لو قلنا لهم إن معاوية بن أبي سفيان اصطفى لنفسه ابن أثال النصراني من أطباء دمشق وأحسن إليه وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه. وصحب تياذوق الطبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتولي من جهة عبد الملك بن مروان وخدمه بصناعة الطب وكان يعتمد عليه ويثق بمداواته وكان له منه الجامكية الوافرة والافتقاد الكثير.

وخدم جورجس بن جبرائيل الخليفة المنصور وكان عظيماً عنده رفيع المنزلة ونال من جهته أموالاً جزيلة والمنصور هو الذي يقال له الدوانيقي لبخله. وخدم بختيشوع بن جورجس هارون الرشيد وتميز في أيامه وكان رئيس الأطباء كلهم في بغداد. وكان جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس حظياً عند الخلفاء رفيع المنزلة عندهم كثيري الإحسان إليه وحصل من جهتهم من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء وكان مكيناً عند جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك أحبه مثل نفسه وكان لا يصبر عنه ساعة ومعه يأكل ويشرب أعطاه الرشيد مرة من أجل مداواة إحدى حظاياه خمسمائة ألف درهم وأحبه مثل نفسه وجعله رئيساً على جميع الأطباء. وأمر له المأمون مرةً بألف ألف درهم وبألف كر حنطة ورد عليه سائر ما كان قبض منه من الأملاك والضياع وصار إذا خاطبه كناه بأبي عيسى جبرائيل وأكرمه زيادة على ما كان أبوه يكرمه وانتهى به الأمر في الجلالة إلى أن كان كل من تقلد عملاً لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى جبرائيل ويكرمه وكان عند المأمون مثل أبيه.

ووجد في خزانة بختيشوع بن جبرائيل مدرج فيه عمل بخط كاتب جبرائيل بن بختيشوع الكبير واصطلاحات بخط جبرائيل لما صار إليه في أيام خدمته الرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة يذكر أن رزقه كان من رسم العامة في كل شهر من الورق عشرة آلاف درهم يكون في السنة مائة وعشرون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفاً ألف وستمائة وستون ألفاً ونزله في الشهر خمسة آلاف درهم يكون في السنة ستون ألف درهم في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف وثلثمائة وثمانون ألف درهم ومن رسم الخاصة في المحرم من كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم ومن الثياب خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم. تفصيل ذلك: القصب الخاص الطرازي عشرون شقة الملحم الطرازي عشرون شقة الخز الصوري عشر شقاق الخز المبسوط عشر شقاق الوشي اليماني ثلاثة أثواب الوشي النصيبي ثلاثة أثواب الطيالسة ثلاثة طيالس ومن المسور والفنك والقماقم والدلق والسنجاب للقبطين. وكان يدفع إليه في مدخل صوم النصارى في كل سمة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم وفي يوم الشعانين من كل سنة ثياب من وشي وقصب وملحم وغيرهم بقيمة عشرة آلاف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألفاً وفي يوم الفطر في كل سنة من الورق خمسون ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألف ألف ومائة وخمسون ألف درهم وثياب قيمة عشرة آلاف درهم على الحكاية يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة مائتا ألف وثلاثون ألف درهم.

ولفصد الرشيد دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم من الورق مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة ألف درهم. ولشرب الدواء دفعتين في السنة كل دفعة خمسون ألف درهم مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ألفا ألف وثلثمائة درهم. ومن أصحاب الرشيد على ما فصل منه مع ما فيه من قيمة الكسوة وثمن الطيب والدواب وهو مائة ألف درهم من الورق أربعمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة تسعة آلاف ألف ومائتا ألف درهم. تفصيل ذلك عيسى بن جعفر خمسون ألف درهم زبيدة أم جعفر خمسون ألف درهم العباسة خمسون ألف درهم إبراهيم بن عثمان ثلاثون ألف درهم الفضل بن الربيع خمسون ألف درهم فاطمة أم محمد سبعون ألف درهم. كسوة وطيب ودواب مائة ألف درهم ومن غلة ضياعه بجندي سابور والسوس والبصرة والسواد في كل سنة قيمته بعد المقاطعة ورقاً ثماني مائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ثمانية عشر ألف ألف وأربعمائة ألف درهم ومن فضل مقاطعته في كل سنة من الورق سبعمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث وعشرين سنة ستة عشر ألف ألف ومائة ألف درهم وكان يصير إليه من البرامكة في كل سنة من الورق ألفا ألف وأربعمائة ألف درهم. تفصيل ذلك: يحيى بن خالد ستمائة ألف درهم يكون في مدة ثلاث عشرة سنة أحد وثلاثين ألف ألف ومائتي ألف درهم يكون جميع ذلك مدة أيام خدمته للرشيد وهي ثلاث وعشرون سنة وخدمته للبرامكة وهي ثلاث عشرة سنة سوى الصلات الجسام فإنها لم تذكر في هذا المدرج من الورق ثمانية وثمانين ألف ألف درهم وثمانمائة ألف درهم منها خمسة وثمانون ألف ألف درهم ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف درهم.

التذكرة: الخراج من ذلك ومن الصلات التي لم تذكر في النفقات وغيرها على ما تضمنه المدرج المعمول من العين تسعمائة ألف دينار ومن الورق تسعون ألف ألف وستمائة ألف درهم. تفصيل ذلك ما صرفه في نفقاته وكانت في السنة ألفي ألف ومائتي ألف درهم على التقريب وجملتها في السنين المذكورة سبعة وعشرون ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم ثمن دور وبساتين ومتنزهات ورقيق ودواب والجمازات سبعون ألف ألف درهم ثمن آلات وأجر وصناعات وما يجري هذا المجرى ثمانية آلاف ألف درهم. ما صار في ثمن ضياع ابتاعها لخاصته اثنا عشر ألف ألف درهم. ثمن جواهر وما أعده للذخائر عن قيمة خمسمائة ألف دينار خمسون ألف ألف درهم. ما صرفه في البر والصلات والمعروف والصدقات وما بذل به خطه في الكفالات لأصحاب المصادرات في هذه السنين المقدم ذكرها ثلاثة آلاف ألف درهم. وما كابره عليه أصحاب الودائع وجحدوه ثلاثة آلاف ألف درهم. ثم وصى بعد ذلك كله عند وفاته إلى المأمون لابنه بختيشوع وجعل المأمون الوصي فيها فلسلمها إليه ولم يعترض في شيء منها عليه بتسعمائة ألف دينار. ولا عجب فيما قاله فثيون الترجمان أن جنس جورجس وولده كانوا أجمل أهل زمانهم بما خصهم الله به من شرف النفوس ونبل الهمم ومن البر والمعروف والأفضال والصدقات وتفقد المرضى من الفقراء والمساكين والأخذ بأيدي المنكوبين والمرهوقين على ما يتجاوز الحد في الصفة والشرح.

وبلغ بختيشوع بن جبرائيل من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من سائر الأطباء الذين كانوا في عصره وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرس وبلغ من كمال المروءة ومباراة الخلافة في الزي واللباس والطيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ في النفقات مبلغاً يفوق الوصف وكان أيضاً لطيف المحل من المهتدي بالله وشكا إليه ما أخذ منه في أيام المتوكل لنكبة وقعت عليه من هذا لفرط إدلاله عليه فأمر أن يدخل إلى سائر الخزائن فكل ما اعترف به فليرد إليه بغير استئمار ولا مراجعة فلم يبق له شيء إلا أخذه وأطلق له سائر ما فاته وحاطه كل الحياطة.

وكان عبيد الله بن بختيشوع متصرفاً ولما ولي المقتدر الخلافة استكتبه لحضرته وبقي معه مديدة وصار ابنه جبرائيل من خاصة عضد الدولة بن بويه وكان يكرمه كثيراً ويغدق عليه المشاهرات ووصله الصاحب بن عباد بما قيمته ألف دينار وكان دائماً يقول صنف مائتي ورقة أخذت عنها ألف دينار يعني بذلك الكناش الذي وضعه بأمر الصاحب في الأمراض التي تعرض من الرأس إلى القدم.

وكان عيسى المعروف بأبي قريش صيدلانياً أكرمه المهدي مرة ولم يزل يطرح عليه الخلع وبدر الدنانير والدراهم حتى علت رأسه وكناه أبا قريش أي أبا العرب. وخلف اثنين وعشرين ألف دينار مع نعمة سنية. وكان عبد الله الطيفوري من أحظى خلق الله عند الهادي وزكريا بن الطيفوري كان من جماعة القائد أفشين كان منه إن امتحن الصيادلة في معسكره كما امتحن يوسف لقوة الكيميائي زمن المأمون صيادلة بغداد. وكان إسرائيل بن زكريا الطيفوري جليل القدر عند الخلفاء والملوك كثيري الاحترام له وكان مختصاً بخدمة الفتح بن خاقان بصناعة الطب وله منه الجامكية الكثيرة والأنعام الوافر. وكان المتوكل بالله يرى له كثيراً ويعتمد عليه وله عند المتوكل المنزلة المكينة وجد مرة على المتوكل لما احتجم بغير إذنه فافتدى غضبه بثلاثة آلاف دينار وضيعة تغل له في السنة خمسين ألف درهم وكان متى ركب إلى دار المتوكل يكون موكبه مثل موكب الأمراء وأجلاء القواد. وكان يزيد بن زيد بن يوحنا متطبب المأمون وخدم إبراهيم بن المهدي وله من الإحسان الكثير والأنعام الغزير والعناية البالغة والجامكية الوافرة. وتقدم سابور بن سهل عند المتوكل وكان يرى له وكذلك عند من تولى بعده من الخلفاء وكان عالماً بقوى الأدوية المفردة وتركيبها وكان موسى بن إسرائيل الكوفي متطبب إبراهيم بن المهدي. وكان سلمويه بن بنان متطبب المعتصم اختاره لنفسه لما استخلف وأكرمه إكراماً كثيراً يوفق الوصف وكان يرد إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلات وغيرها بخط سلمويه وكل ما كان يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين فبخط سلمويه وولى أخا سلمويه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد وخاتمه مع خاتم أمير المؤمنين ولم يكن أحد عنده مثل سلمويه وأخيه إبراهيم في المنزلة وكان المعتصم يسميه أبي فلما اعتل سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده فلما مات امتنع المعتصم من أكل الطعام يوم موته وأمر بان تحضر جنازته الدار ويصلى عليه بالشمع والبخور على زي النصارى الكامل ففعل وهو بحيث يبصرهم ويباهي في كرامته وحزن عليه حزناً شديداً. وعالج إبراهيم بن أيوب الأبرش إسماعيل أخا المعتز وبريء فأجازته أمه والمتوكل بست عشرة بدرة وكان أخص المتطببين عند المعتز لما أفضت الخلافة إليه. وكان جبرائيل كحال المأمون يدخل إليه في كل يوم عند تسليمه من صلاة الغداة فيغسل أجفانه ويكحل عينيه فإذا انتبه من قائلته فعل مثل ذلك وكان يجري عليه ألف درهم في كل شهر.

وأجرى الرشيد على ماسويه أبو يوحنا ألفي درهم في الشهر ومعونة في السنة عشرين ألف درهم وعلوفة ونزل وألزمه الخدمة مع جبرائيل وكان لهذا في الشهر عشرة آلاف درهم ومعونة في السنة مائة ألف درهم وصلات دائمة وإقطاعات.

وخدم يوحنا بن ماسويه بصناعة الطب المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل وكان له منهم الأنعام الكثير والمنزلة السامية وله عليهم دالة الأقران على أقرانهم لا الخدم على مخدوميهم. وكان ميخائيل بن ماسويه متطبب المأمون وكان به معجباً وله على جبرائيل بن بختيشوع مقدماً حتى كان يدعوه بالكنية أكثر مما يدعوه بالاسم وكان لا يشر الأدوية إلا مما تولى تركيبه وإصلاحه له. وبلغ حنين بن إسحاق عند المأمون منزلة عالية لأنه كان رئيس جماعة التراجمة لعهده وكانت له الإقطاعات الحسنة والجواري الجيد والإحسانات الفائضة وزادت مكانته كثيراً بعد خروجه من المحنة التي ألحقها به أعداؤه وأمر المتوكل الأطباء الذين طلبوا قتل حنين وسعوا فيه لديه أن يحمل إليه كل منهم عشرة آلف درهم. وأمر أن يضاف إليها مثلها من خزانته فكان زهاء مائتي ألف درهم. قال حنين في كلامه على ذلك ثم أن الخليفة أمر بإصلاح ثلاث دور من دوره التي لم أسكن قط منذ نشأت في مثلها ولا رأيت لأحد من أهل صناعتي مثلها وحمل إليها سائر ما كنت إليه محتاجاً من الأواني والفرش والآلة والكتب وما يشاكل ذلك بعد أن شهد لي بالدور وتوثق بشهادات العدول لأنها كانت خطيرة في قيمتها لأنها تقوّم بألوف دنانير فلمحبته لي وميله إلي أن تكون لي ولعقبي ولا تكون عليّ حجة لمعترض فلما فرغ مما أمر به من الحمل إلى الدور وجميع ما ذكر وتعليقها بأنواع الستور ولم يبق غير المضي إليها أمر بحمل المال الضعف الكثير بين يدي وحملني على خمسة أرؤس من خيار بغلاته الخاصة بمواكبها ووهب لي ثلاثة خدم روم وأمر لي كل شهر بخمسة عشر ألف درهم وأطلق لي الفائت من رزقي في وقت حبسي فكان شيئاً كثيراً وحمل من جهة الخدم والحرم وسائر الحاشية والأهل ما لا يمكن أن يحصى من الأموال والخلع والإقطاع وحصلت وظائفي التي كنت آخذها خارج الدار من سائر الناس آخذها من داخل الدار وصرت المقدم على سائر الأطباء.

وخدم يوحنا بن بختيشوع بصناعة الطب الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل وكان يعتمد عليه كثيراً ويسميه مفرج كربي. وحظي بختيشوع بن يوحنا من الخلفاء وغيرهم واختص بخدمة المقتدر بالله وكان له منه الأنعام الكثير والإقطاعات من الضياع وخدم بعد ذلك الراضي بالله فأكرمه وأجراه على ما كان باسمه في أيام أبيه المقتدر.

الباقي للآتي.