الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 12/الشيخ إبراهيم اليازجي

مجلة المقتبس/العدد 12/الشيخ إبراهيم اليازجي

مجلة المقتبس - العدد 12
الشيخ إبراهيم اليازجي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 1 - 1907


فجعت العربية في الشهر الماضي بكبير من أكابر أهلها المنشئين وأستاذ من جهابذة المعربين والمؤلفين الطيب الذكر والأثر الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء. توفاه الله في هذه العاصمة عن ستين عاماً قضاها بين المحابر والدفاتر وقد وقف حياته على الإفادة والاستفادة فانتفع به خلق كثير في جميع البلاد التي تقرأ فيها العربية ولاسيما في مصر والشام.

ولقد عزَّ نعيه على كل من عرف فضله وأخلاقه وما خصَّ به من دماثة الخلق ولين الجانب وعزة النفس وحسن العهد ولا عجب فقد فقدت المطبوعات بفقده عضواً عاملاً ورجلاً نافعاً. ورثاه جمهور كبير من العلماء والفضلاء وابنته الصحف والمجلات على اختلاف الملل والنحل واللغات لأن المصيبة بفقده كانت عامة جازاه الله أفضل ما يجازي المحسنين على إحسانهم.

وهاك ما كتبناه في المؤيد الأغر يوم وفاة هذا الفقيد العزيز من تأبينه وترجمة حياته:

كان فقيد اليوم عالماً مدققاً ولغوياً ضليعاً ومترسلاً تحريراً ومفتناً فكهاً ونقاداً غيوراً وكاتباً فريداً وشاعراً مجيداً قضى حياة المتعلم والمعلم والعالم على أكمل وجوهها وبرز خاصة في علوم العربية على أقرانه فعد من آحاد زمانه.

نشأ من بيت كان ربه يتغنى ليله ونهاره بالشعر والأدب فشبَّ وشاب فيما نشأ عليه أنشئ له. وناهيك بمن يرضع اللغة من صغره ويعاني الأدب في جميع أدواره لا يصل إلى وسمعه غيره ولا تقع عينه على ما سواه والجميع مستحسن له ومصفق ومؤمن على أقواله ومصدق.

فانصرف في مدينة بيروت كوالده الشيخ ناصيف إلى التعليم والتصنيف فتخرج به جهابذة أدباء وأكثرهم اليوم هم الحركة الدائمة في مصر والشام وألف على ذاك العهد كتباً وصحح أخرى منها شرح ديوان المتنبي. وصحح التوراة كما نقح كتب والده المدرسية في الصرف والنحو والبيان والعروض ووقعت له محاورات مع صاحب الجوائب وغيره كطرفة الطرف وكتب مجلة الطبيب سنة كاملة بمساعدة صديقيه العالمين الدكتورين زلزل وسعادة.

هبط مصر في شتاء سنة 1897 لإنشاء مجلة علمية وطبع معجم عربي كان عني بتأليفه منذ سنين ولكن خانته الأقدار فرأى ما كان يسمعه عن نهضة مصر العلمية مبالغاً فيه وأن سوق العلم والأدب كاسدة لا لإقبال عليها فأصدر أولاً مجلة البيان سنة بمعاونة الدكتور زلزل ثم أصدر وحده مجلة الضياء فدامت مطردة الصدور إلى صيف هذه السنة وقد شحنها من عرائس أفكاره وتحقيقاته اللغوية وأماليه الأدبية ما لو كتب بغير هذا اللسان لأعجب به أهله وكبروا مثل مقالات اللغة والعصر ولغة الجرائد وأغلاط العرب وأغلاط المولدين وطبع في العهد الأخير كتاب نجعة الرائد في اللغة ولم يوفق إلى طبع معجمه لأسباب أهمها قلة النصير والظهير.

كان الفقيد شديد الغيرة على لسان العرب بحيث لا يدانيه في ذلك غير خاصة الخاصة. مبالغاً في التدقيق والتمحيص حتى أنه كان يألم ممن يرتكب غلطاً لغوياً إنشائياً ألمه ممن يسيء مباشرة إليه أو يصادره في أعز الأشياء عليه ولذلك قلما كان يغفل كتاباً أو ديواناً من النقد اللغوي والأدبي وكثيراً ما تأخذه الحمية العربية فينحني على المنتقد عليه وربما وصلت المسألة من العموميات إلى الخصوصيات كما جرى في نقده معجم أقرب الموارد وكتاب الدرة اليتيمة وغيرهما. ولابد لمن يتمحض للانتقاد أن يلاقي ما لقي الشيخ اليازجي فيصاب ويصيب خصوصاً والناس في زماننا لم يألفوا الانتقاد وأكثر المنتقدين يعدونه ثلماً لشرفهم وحطة لأقدارهم والناقد كيفما كانت الحال لا تصفو له القلوب إلا علي الندرة ولاسيما إذا عامل منتقديه بأنه هو المسيطر على كل ما يبدر من خطاءٍ وخطل والكفيل بحل كل إشكال ومعضل فكان انصراف قلوب بعض العالمين والمتأدبين عنه لعدم اضطلاعه بسياسة التعليم وهو داء العلماء من القديم حتى عقد ابن خلدون فصلاً في أن العلماء أبعد الناس في السياسة.

وعلى الجملة فقد كان فقيد اللغة والأدب اليوم آية في سعة اطلاعه على شوارد اللغة واوابدها محيطاً بأقوال أئمة البيان العربي عارفاً بصحيح الكلام من فاسده بصيراً ببعض العلوم كالفلك والرياضيات وله إلمام تام بالفرنسية والإنكليزية (والعبرانية والسريانية) ويد طولى في الخط والرسم والنقش والحفر بحيث لو أتيح له أن يعمل بما يهوي وينصرف إلى ما يغلب على طبعه لاختار أن يكون رساماً من أهل الفنون الجميلة. ولولا أنه آثر خدمة العربية كما قال لي عن نفسه مخافة أن يغلق بيته على حين في وسعه فتحه ويتوانى عن خدمة لغة عرف أبوه وأخوته من قبله بالتوفر على خدمتها والغرام بآدابها لجاء منه مصور ماهر ربما خلف وراءه مالاً وكان أهنأ عيشاً وأهدأ بالاً.

خدم الشيخ إبراهيم لغتنا بوضع بعض ألفاظ لمسميات إفرنجية وعرب بعض المصطلحات وله شعر جيد وبعضه سائر على الألسن وإن لم ينسب إليه تقية مثل قصيدته المشهورة في القطرين التي يقول في مطلعها.

دع مجلس الغيد الأوانس ... وهوى لواحظها النواعس

إلى أن يقول سامحه الله:

فالشر كل الشر ما ... بين العمائم والقلانس

والخير كل الخير في ... هدم الجوامع والكنائس

وإن صحَّ ما قيل لي أمس من أن الشيخ اليازجي مات بسرطان في الكبد فيكون ما كان قاله هو في نعي فقيد الشرق السيد جمال الدين الأفغاني قضى. . . بعلة السرطان وقد تشبث منه بين الفك والنحر ودب في مجرى الفصاحة منه ولا عجب أن يدب السرطان في البحر قد نعى به نفسه وهو جدير أن يطلق عليه فإنه بلا مراءٍ رافع لواء الأدب وشيخ العاملين على إحياء لغة العرب فلا عجب إذا اهتزَّ عالم الأدب اليوم أسفاً على فقده. عوضنا الله عنه خيراً وألهم المصابين بفقده جميل الصبر والسلوان.