مجلة المقتبس/العدد 11/كلية المستنصر بالله
→ صفحة تاريخية في سورية | مجلة المقتبس - العدد 11 كلية المستنصر بالله [[مؤلف:|]] |
العالمون والعاملون ← |
بتاريخ: 16 - 12 - 1906 |
جئت في أوائل هذا الرمضان إلى كلية المستنصر بالله القائمة في الضفة الشرقية من دجلة زائراً لها بعد مضي سبعة قرون على بنائها فألفيت بابها الشرقي الشمالي الكبير مسدوداً فدخلتها من باب مفتوح إليها حديثاً من الجانب الجنوبي المتصل بدجلة أفضى بي إلى ساحة وسيعة طولها سبعون متراً تقريباً في عرض أقل من نصف ذلك قليلاً قد سقف إدارة الجمرك التي امتلكتها مقدار ثلثيها بحصر مرفوعة على عمد من خشب وقاية لما تحطه فيها ابتغاء رسومه من رزم الأمتعة التجارية المجلوبة من أوروبا والهند ومشيت في خط أعوج بين تلول وكثبان من الرزم والحمول وضجيج الحمالين يكاد يصم أذني فقلت في قلبي هذا بدل من أصوات الأساتذة الذين كانوا يلقون الدروس العالية في هذه الكلية على مسامع ألوف من طلاب العلم. وطفت حول الساحة وأسراب الدجاج السارحة هناك تتطاير فارة من أمامي. وسرحت طرفي فيما يحيط بها من البناء الضخم ذي الطبقتين المشيد بالآجر وارتفاعه مع ما دفن منه إلى اليوم في الأرض خمسة عشر متراً تقريباً فوجدت كثيراً من الغرف مسدوداً أبوابها وغالب الأبنية واقعاً في طرفي الساحة طولاً فإن هناك عدداً من المنتديات والقاعات الفسيحة ذا طبقة واحدة يساوي ارتفاعها ذات الطبقتين كانت في قديم عمرانها مختصة بالدرس العام والبحث والمذاكرة فخرب بعضها اليوم وألم به البلى وفصل مدخل كثير منها عن الساحة الأصلية الكبرى إما بسد بابها القديم أو ببنائه وحول القسم الأكبر إلى إدارة الجمرك وبعضها من الطرف الغربي إلى إدارة النهر السنية وأنبار للفحم المختص بالوابورات السلطانية وبعضها إلى ملاهي قهوات وبعضها إلى مخازن للأمتعة وحوانيت.
خرجت من الساحة ودخلت من الطرف الجنوبي إلى ناد منها عظيم طوله خمسون متراً في عرض سبعة عشر تقريباً هو بعض ما ذكرت أن مدخله فصل عن الساحة الأصلية فألفيته كذلك مستودعاً للرزم التجارية. وفي الجانب الغربي الجنوبي وما يقابله من الجانب الشرقي الشمالي نظير ذلك إلا أنه أقل طولاً وعرضاً أما الذي في الجانب الشرقي الشمالي فهو اليوم ملك لبعض أغنياء اليهود وقد كتب له قضاة المسلمين حججاً شرعية بذلك وسلمته إدارة الطابو أوراقاً رسمية بملكيته فحول إلى مغازات جسيمة.
أما القسم الفوقي من المدرسة فكثير من غرفه متداع بادي الشقوق مائل الجوانب خاضع لحكم الدهر المبدل لعزها القديم بالهوان فتألم قلبي لمشاهدة ذلك وفاضت دموعي أسفاً عليه. وسألت أحد الحمالين أن يدلني على السلم الذي يفضي إليه فأجاب أن السلالم منهدمة فلا طريق إلى الصعود إلا ما كان في أعلى الجانب الغربي الجنوبي فإنه تحفظ فيه الحمول الخفيفة المجلوبة من الخارج. فانصرفت وقلبي يكاد ينفطر مثل جدرانه حزناً على ما شاهدته من خراب هذه المدرسة التي كانت في سالف عهدها ملجأً كريماً للعلم وكعبة يطوف بها طالبو الحكمة ودار الفخر للأمة العربية.
وطفت بها من الخارج وقست بخطواتي طولها فوجدته 120متراً في عرض ستين تقريباً هذا إذا لم نحسب الحمام الجسيم الذي هو في الجنوب الشرقي منها وقد ألحق بالجمرك حديثاً وكذلك الجامع الذي هو في الشمال الغربي منها قد فصلته اليوم عنها سوق تقضي إلى الجسر فإذا أضفنا ذلك والمظنون أنهما كانا في القديم ملحقين بها زادت جسامة هذا البناء الفخيم.
أما النظامية فلا يرى لها اليوم أثر في بغداد والذي يشاهد من قاعدة المنارة غير مختص بها فيما اعتقد إذ لا يناسب ثخنه ما نسمعه عن فخامة ذلك البناء بل هو فيما أظن بقية جامع صغير قد بني على أنقاض تلك واندرس. ثم عدت إلى داري فنظمت قصيدتي هذه:
وقفت على المستنصرية باكياً ... ربوعاً بها للعلم أمست خواليا
وقفت بها أبكي قديم حياتها ... وأبكي بها الحسنى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بناتها ... وأنعي سجاياهم وأنعي المساعيا
بكيت بها عهداً مضى في عراصها ... كريماً فليت العهد لم يك ماضيا
بكيت بها المدفون في حجراتها ... من العلم حتى بل دمعي ردائيا
أكفكف بالأيدي بوادر أدمعي ... ويأبين إلا أن يفضن جواريا
وطأطأت رأسي في ذراها تواضعاً ... وحييت بالتسليم منها المغانيا
وسرحت أنظاري بها فوجدتها ... بناء لتشييد المعارف عاليا
بناءً فخيماً عز للعلم مثله ... فقلت كذا فليبن من كان بانيا
وألفيت قسماً قد تداعى جداره ... وقسماً على ما كان من قبل باقيا
تهب رياح الصيف في حجراتها ... فتلبسها ثوباً من النقع هاييا وتسعى على الجدران منها عناكب ... تجد لها فيما تداعى مبانيا
فألممت فيها بالروم دوارساً ... وسئلت منهن الطلول بواليا
وقلت لدار البحث عظمت محفلاً ... وقلت لنادي الدرس حييت ناديا
أكلية العلم الذي كان روضه ... نظيراً كما شاء التقدم ناميا
بأية ريحٍ فيك هبت زعازع ... تصوح ذاك الروض فاجتث زاويا
بقد كنت فيما قد مضى دار حكمةٍ ... بها الناس يعلم الحقائق ماهيا
فكنت بأفق الشرق شمساً مضيئةً ... تشعين نوراً للمعارف زاهيا
وكانت بلاد الغرب إذ ذاك في عمى ... تقاسي من الجهل الكثيف الدياجيا
فأين رجالٌ فيك كانوا مشائخاً ... إليهم يحث الطالبون النواجيا
وكانوا بحاراً للعلوم عميقةً ... وكانوا جبالاً للحلوم رواسيا
وكانوا مصابيح الهدى ونجومها ... بهم يهتدي من كان في الليل ساريا
يميتون في نشر العلوم نهارهم ... ويحيون في حل العويص اللياليا
نواحيك من طلابها اليوم اقفرت ... وكانوا الوفا يملئون النواحيا
فقالت وقاك الله لا تسألنني ... فمالك نفع في السؤال ولا ليا
فقلت أجيبيني كما كنت سابقاً ... تجيبين من قد جاء للعلم راجيا
فقالت ألمت حادثاتٌ عظيمةٌ ... وجرت على هذي البلاد واهيا
هناك استبد الدهر بالناس مبدلا ... فرفع مخفوضاً وسفل عاليا
هناك اضمحلت دولةٌ عربيةٌ ... بها كانت الأيام ترفع شانيا
وعوض عنها دولةٌ ثم دولةٌ ... تسر بكون الجهل في الناس فاشيا
وذاك لأن العلم للمرء مرشدٌ ... يعلمه عن حقه أن يحاميا
عرت نكبات الدهر بغداد بعدما ... بها ردحا ألقى السلام المراسيا
فاذهب ما للعلم من رونق الصبا ... تتابع أحداث يشبن النواصيا
وأدنى الذي قد نابها من نوائب ... خرابي ولولاها لما كان دانيا
فكابدت منهن الصروف نوازلاً ... وقاسيت منهن الخطوب عواديا
وأبدي على عزي القديم إهانتي ... رجال لشخص العلم كانوا أعاديا وأهملت حتى انهد مني كما ترى ... مبان لنشر العلم عزت مبانيا
وصرت على حكم الذين تحرزوا ... من العلم يا هذا إلى ما ترانيا
فقد ذوي الغصن الذي كان ناضراً ... وقد عطل الجيد الذي كان حاليا
أضاءت قرون بي هي اليوم قد خلت ... فسل إن تشأ عني القرون الخواليا
وكنت أرجي أن تعود عمارتي ... إذا بعث الرحمن للعلم راعيا
فأملت عمراً ذلك العود باطلاً ... وعشت له دهراً أمني الأمانيا
أرجي بها أني ألاقي شبيبتي ... فأيقنت هذا اليوم أن لا تلاقيا
لقد نقض الأيام بالعجم مرتي ... ومر الليالي يتبعن اللياليا
ورنق عدوان الزمان معيشتي ... فمن لي بأن ألقى الزمان مصافيا
ومزقني الباغون كل ممزق ... ولا أحدٌ عن فعل ذلك ناهيا
فقد صيروا للفحم بعضي مخزناً ... وبعضي حوانيتاً وبعضي ملاهيا
وحطت بساحاتي ابتغاء رسومها ... بضائع للتجار تشقي الأهاليا
ولاقيت منهم كل خسف وجفوة ... فماذا عسى من بعد ذا أن ألاقيا
أغل فلا أسقى من الماء شربة ... ودجلة تجري بالنمير أماميا
فيا ليتني كنت اسمحوت باجمعي ... ولا كان في حالي كذا الذل باديا
كما أنه أختي النظامية اسمحت ... ولم يبق من آثارها الدهر باقيا
وكل جديد سوف يرجع للبلى ... إذا لم يكن منه له الله واقيا
بغداد