الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 11/صدور المشارقة والمغاربة

مجلة المقتبس/العدد 11/صدور المشارقة والمغاربة

مجلة المقتبس - العدد 11
صدور المشارقة والمغاربة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 12 - 1906


الجاحظ

لم يأت على الشرق العربي أيام كانت رياض الأزمنة وعهد السعود حقيقة كأوائل الدولة العباسية ولاسيما زمن المأمون والرشيد - علم زاهر وحرية مطلقة وسعة عيش وسيادة تامة ونصر مؤزر وسلام شامل والقول الفصل لأرباب العقل في كل حال وشأن. ولذلك لا يستغرب أن ينشأ أيام تلك الدولة مثل الجاحظ رجل العلم الراسخ والنظر السديد والأدب الناضج والبلاغة التي لم يكتب لمتقدم ولا لمتأخر في هذه الأمة العربية أن داناها على نحو ما أجمع كبار أرباب هذه الصناعة.

ولد الجاحظ وطير اليمن يغرد في الأصقاع الإسلامية وناهيك بالعراق في قرنه الثاني والثالث. فكانت هذه الأسباب على ما خص به من جودة الفطرة أكبر معين له للقبض على قيادة العلم النافع وتحكيم العقل السليم في المنقول ولقد تخرج بالنظام صاحب المذهب المعروف في علم الكلام ولكنه لم يجمد على علمه وحده وإن كان رأساً في علم الكلام وله مقالة معروفة بع في أصول الدين وفرقة تعزى إليه من فرق المعتزلة أعقل أرباب المذاهب في الإسلام دعيت الجاحظية.

الجاحظ وعاءٌ من أوسع أوعية العلم في الأمة لم يحو إلا لبابه خالصاً من القشور كلها كان وقفاً على الخير المحض لكل متناول فكأنه وكأن مصنفاته الممتعة التي يتجلى فيها بعد نظره وغوره وإخلاصه وأخلاقه دائرة المعارف أو موسوعات العلوم بلغة غربية منتشرة لعهدنا حوت كثيراً من علوم البشر أو النافع الراجح منها وهي مسبلة على المطالعة في خزانة كتب إذا قلبت أي صفحة من صفحاتها تعود من تحديقك فيها وقد حفل وطابك بما طاب من ثمرات معارف الناس.

فهو ولا مراء أحد أفراد في هذه الأمة ما أظنهم يتجاوزون عدد الأنامل. هو ممن إذا ذكروا في مصاف رجال الأمم رفعنا بما كتبوا رؤوسنا وابتهجت بذكراهم نفوسنا. ناهيك برجل قال في وصف كتبه الأستاذ أبو الفضل ابن العميد الوزير العالم المشهور وقد جرى ذكر الجاحظ في مجلسه فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به فسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل قال أبو القاسم السيرافي وكان حاضراً: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنساناً يا أبا القاسم فكتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً ولم استصلحه لذلك.

نعم إن كتب الجاحظ على ما قال ابن العميد تعلم العقل والأدب وإن حسده معاصروه فما هو أول ذي نعمة محسود. بيد أنه كان عارفاً بشغب المشاغبين وحسد الكارهين وإليك ما قاله فيهم في كتاب المحاسن والأضداد: إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسي فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد المركب فيهم وهم يعرفون براعته ونصاحته وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفاً لملك معه القدرة على التقديم والتأخير والحط والرفع والترهيب والترغيب فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة فإن أمكنتهم الحيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيد الذي ألف له فهو الذي قصدوه وأرادوه وإن كان السيد المؤلف فيه الكتاب نحريراً نقاباً ونقريساً بليغاً وحاذقاً فطناً وأعجزتهم الحيلة سرقوا معاني ذلك الكتاب وألفوا من أعراضه وحواشيه كتاباً وأهدوه إلى ملك آخر ومنوا إليه به وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوباً إلي وموسوماُ بي.

وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيري وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة ويحيى بن خالد والعتابي ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته علي ويكتبونه بخطوطهم ويصيرونه إماماً يقتدون به ويتدارسونه بينهم ويتأدبون به ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم ويروونه عني لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رئاسة يأتم بهم قوم فيه لأنه لم يترجم باسمي ولم ينسب إلى تأليفي.

هكذا كانت الحال بين الجاحظ ومعاصريه والمعاصرة حرمان في كل زمان. ولكن كان له من القبول عند الخلفاء والأمراء والأغنياء في دهره ما يقل وقوع مثله لغيره في عصر من الأعصار. فإن استبشع المتوكل منظره لما ذكر له لتأديب بعض ولده وصرفه بعد إكرامه - وكان الجاحظ مشوه الخلق قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين والجحوظ النتوء وكان يقال له الحدقي لذلك - فقد اختاره المأمون معلماتً لنفسه وكفى بمنزلة المأمون بين خلفاء الإسلام فهو أعقل خليفة في الإسلام بلا مدافع وأعلم رجال بني العباس. وعمر مترجمنا عمراً طويلاً فنيف على ما قيل عنه على تسعين سنة وكانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة بلده التي نشأ فيها. قال ابن خلكان وقد أصيب بالفالج في أواخر عمره فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده وكان يقول في مرضه اصطلحت علي الأضداد إن أكلت بارداً أخذ برجلي وإن أكلت حاراً أخذ برأسي وكان يقول أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة وكان ينشد

أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب

وحكى بعض البرامكة قال كنت تقلدت السند فأقمت بها ما شاء الله تعالى ثم اتصل بي أني صرفت عنها وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار فخشيت أن يفاجئني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل ولم يمكث الصارف أن أتى فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل بالفالج فأحببت أن أراه قبل وفاته فصرت إليه فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادم صفراء فقالت: من أنت؟ قلت: رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلت فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل فقلت للجارية: لابد من الوصول إليه. فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال: أحب أن أراه قبل موته فأقول قد رأيت الجاحظ ثم أذن لي فدخلت وسلمت عليه فرد رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله. فانتسبت له فقال: رحم الله تعالى أسلافك وآبائك السمحاء الأجواد فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا أسألك أن تنشدني شيئاً من شعرك فأنشدني.

لئن قدمت قبلي رجال فطالما ... مشيت على رسلي فكنت المقدما ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما

ثم نهضت فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج قلت: لا. قال: فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه فقلت: نعم وخرجت متعجباً من وقوعه على خبري مع كتماني له وبعثت له مائة إهليلجة.

قلنا ولو وقعت حكاية الإهليلج لرجل من المتأخرين لعدها للقائل كرامة وراح يدعي أن صاحبه يعلم الغيب ويكشف مخبآت القلوب ويتصرف في الكون وأهله إلى آخر ما يلغط به المهووسون في هذه القرون وقد بلغ من ضعف العلم والعقول أن لو أنكر منكر ذلك لرموه بكل كبيرة ولكن ذاك الأمير البرمكي عد بفطرته السليمة ما صدر عن الجاحظ قوة فراسة ونسبه إلى اتفاق صادف واقعاً. ولو أتيح لنا الاطلاع على ترجمة مفصلة للمترجم به لعرفنا الجاحظ ونشأته وما وقع له في عصره وما أثر عنه من المصنفات التي تعد بالعشرات أكثر مما عرفنا منه وما علينا للوقوف على ذلك إلا أن نعمد إلى النظر إلى تآليفه ففيها أعظم ترجمة حافلة له وكلام الرجل أصدق ما ينبئ عنه.