مجلة المقتبس/العدد 1/سيئات القرن الماضي
→ الأمية والكتاتيب | مجلة المقتبس - العدد 1 سيئات القرن الماضي [[مؤلف:|]] |
تعليم اللغات ← |
بتاريخ: 24 - 2 - 1906 |
من مقالة لأحد علماء الفرنسيين نشرت حديثاً في إحدى المحلات العلمية
من القضايا التي استلفتت الأنظار انتشاراً الأمراض العصبية في القرن التاسع عشر وخصوصاً في النصف الثاني منه انتشاراً لم يعهد من قبل على ما دخل المجتمع من الإصلاحات والتقلبات في حالتيه الطبيعية والأدبية. فلو طاف الباحث نصفي الكرة الأرضية وراقب عن أمم شرقها وغربها شمالها وجنوبها، مدنها الصغرى والكبرى، أصقاعها الباردة والحارة، لسمع الإنسانية تئن من تزايد الأمراض العصبية كل يوم وقد أصيبت بها أرباب الصناعات والحرف على اختلاف الأعمار والجنس ولم تعمل فيها انقلاب العادات وطرق المعيشة وأساليب الفكر والحس على ما حصل من ارتقاء العلوم الطبيعية وعلوم الحياة التي بها عرف ما كان من قبل مجهولاً من أمراض الدماغ وما انتهى إليه العلم من طبائع الأمراض العصبية وعللها ودلائلها.
وارتقاء العلوم الطبيعية في هذا القرن لا يرفع الملام عن أطباء القرون الماضية لسكوتهم عن الأمراض العصبية. فقد نراهم أحسنوا معرفة الأحوال الطبيعية وظواهرها وراقبوها أحسن مراقبة وإن لم يعقلوا عليها شرحاً مرضياً. عرفوا حق المعرفة حقيقة البول السكري والصرع والتشنج وغيرها من الأدواء ولم يعرفوا الخناق وأنواع الحميات والهزال العصبي وهذيان الشيوخ وغيرها من الأوصاب المنتشرة بين أهل جيلنا. لا جرم أن كثرة الأمراض العقلية تستدعي نظر الحكومات والباحثين في الصحة والأخلاق فقد زاد عدد المجانين في أوروبا وأميركا زيادة عظيمة في أواخر القرن الماضي. والجنون على الجملة أربع طبقات: جنون مطبق، وجنون خبل، وجنون ناتج من خبال الشيخوخة، والبلاهة والتغفل والجنون كما قالوا فنون ويكون جنون الخبل ناتجاً من تعاطي الكحول فإن المدمنين للشراب ما برحوا ينمون نمواً عجيباً. وإنكلترا أكثر البلاد التي زاد فيها الجنون في هذه الأثناء. فقد كان عدد المعتوهين فيها سنة 1866 - 53 ألفاً فصار سنة 1897 - 99 ألفاً فالمعتوهون الآن واحد في كل 293 بإنكلترا. وقد ثبت لدى أدباء بريطانيا أن مجانينهم كثروا بكثرة انهماك القوم في تناول الأشربة الروحية فإن 33 في المائة من المعتوهين هم ممن يتعاطون المسكرات عندهم.
وقد نشر حديثاً أحد نُطس الأطباء بحثاً دقيقاً في الجنون بالولايات المتحدة فثبت عنده بالإحصاء أن أكثر الولايات عرضة للجنون هي التي كثر تعاطي الأعمال الصناعية فيها في جنوبي البلاد. أما البلاد الزراعية فإن المصابين بها أقل من ذلك فتجد في مقاطعة الماساشوست مجنوناً في كل 348 ساكناً على أنك لا تجد غير مجنون واحد في كل 935 من مقاطعة الأركانساس. والجنون بين السود أقل انتشاراً منه بين البيض. ومادام الزنوج نازلين في الأرياف فهم في مأمن من ضياع العقل ولكن متى نزلوا الحواضر وأخذوا في مجاراة البيض ومجاذبتهم حبل الجهاد الاجتماعي يكثر فيهم هذا الداء فيملؤون البيمارستانات والمستشفيات.
ومن أمراض هذا القرن ما عرفه أطباء الأمريكان من مرض دعوه نوراستينا أو ضعف المجموع العصبي. مرض يكثر انتشاره في البلاد التي تزدحم فيها أقدام السكان. ولم يعرفه قدماء الأطباء فخلطه بعضهم بفقر الدم وبعضهم بالهستيريا ومعظم المصابين به ممن صرفوا قبل الوقت قواهم العصبية في الإفراط بالشهوات من الرجال وممن ضعف تركيبهن النامي من النساء بتعدد الحمل والرضاع وممن أصابتهم خطوب وأهاويل واستولى عليهم أرق متتابع. بل ويصاب به أيضاً من صرفوا أوقاتهم منذ طفولتهم في استعمال قواهم العقلية بما لا تسمح به تراكيبهم ولا يعوض الغذاء ما يصرفونه من دقائق الدماغ على نحو ما ترى شباناً أنجزوا دروسهم ولم يستطيعوا التغلب على مصاعب الحياة فخانتهم قواهم وجهادهم فأضاعوا الثقة بأنفسهم وظنوها عجزت عن الغلبة على ما صادفوه في طريق حياتهم من المشاق فسدت قلة القوة الحيوية في وجوههم سبل الأعمال، وقلبت لهم تقلبات الزمن ظهر المجن، فأمسوا ولا يرون الأمور إلا من وجهتها التي لا ينبغي أن ينظر إليها فيحدث عندهم كل ما يرتاح إليه نظراؤهم كدراً ولهفاً. وتختلف أعراض هذا الداء حتى في الشخص الواحد في كل دور من أدواره ويكثر شيوعه بكثرة الشقاء الاجتماعي وتعدد أسباب الجهاد في الحياة.
ومن أمراض هذا القرن ابتلاء بعضهم بالحقن بالمورفين تخفيفاً لبعض آلام تصيبهم أو تفادياً من تصور عوارض يخشون الوقوع بها وقد ابتليت المدنية الغربية بهذه الوصمة كما ابتليت المدنية الشرقية في الهند والصين وتركيا بوصمة التخدر بالأفيون. ومعظم من يخدرون حواسهم بالمورفين تسكيناً للآلام والأوصاب هم أهل العقول الكبيرة وربما كانوا ممن يعجب الناس بمواهبهم العلمية. وثلث المصابين به من الأطباء. وفيهم قادة الجيوش ورجال السياسة. وقد أقيمت مستشفيات في إنكلترا وألمانيا وفرنسا (وأميركا) ليقلع الداخلون إليها عن عادة استعمال هذا المخدر بالوسائط العلمية والعملية.
ومن مفسدات الجنس البشري في هذا القرن التسمم بالكحول فقد زاد صرف المشروبات الروحية في النصف الأخير منه حتى قدر أحدهم خمسة من المائة يموتون في مستشفيات باريس من فعل الكحول. وأوربا سواء في استعمال الخمور اللهم إلا الأقاليم الشمالية الباردة والرطبة منها مثل روسيا والسويد ونروج وبلجيكا فإن شرب الكحول مألوف فيها كل الألفة ويفرط السكان في تناوله وخصوصاً طبقات العملة منهم. فقد أصاب الفرد في فرنسا سنة 1876 أربعة ليترات من الكحول في السنة وأصاب الفرد في ألمانيا خمسة وفي إنكلترا ستة وفي روسيا عشرة إلى اثنتي عشر إلى عشرين لتراً بحسب الولايات والصناعات. ولم يجد فرنسا إكثارها من وضع الضرائب على الكحول إذ لم ينقص شاربوه.
والتسمم بالمسكرات أخف وطأة في البلاد التي تجود فيها الكروم مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وجنوبي فرنسا وقلما يصيب الفرد فيها غير لتر واحد أو لترين في السنة. واختلفت بلاد الغرب في وضع قوانين لبيع المشروبات فاكتفى بعضها بالاحتكار وبعضها بضرب الضرائب الفاحشة. ونشأت فيها عدة جمعيات تحض الناس على الامتناع عن المسكرات. وهذه الجمعيات تعظم فائدتها كلما كثرت في كل صقع وناد وساعدتها الإرادة الشخصية. وقد زاد عددها في إنكلترا ونورمنديا وسويسرا والسويد يعرف القائمون بأعبائها بني قومهم بمضار الكحول الطبيعية والأدبية والعقلية. وأن الحكومات لتحسن صنعاً إذا أرادت معلمي المدارس على أن يقرئوا الأطفال شيئاً في قواعد الصحة ويدلوهم على ما تحدثه الكحول من سوء الأثر في الجسم وما ينتج الامتناع عنها من سعادة المرء والأسرة.