الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 1/التربية والتعليم

مجلة المقتبس/العدد 1/التربية والتعليم

مجلة المقتبس - العدد 1
التربية والتعليم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 2 - 1906


العمل والعملة

في الحديث كلكم حارث وكلكم همام. والحارث الكارث واحتراث المال كسبه والإنسان لا يخلو الكسب طبعاً واختياراً. والهمام مشتق من هم بالأمر يهم إذا عزم عليه. قال الراغب الأصفهاني: العمل كله فعل يصدر من الحيوان يقصده فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات والعمل قلما ينسب إلى ذلك ولم يستعمل في الحيوانات إلا في قولهم الإبل والبقر العوامل.

قال علماء اللغة: واعمله استعمله واعتمل اضطرب في العمل وقيل عمل لغيره ورجل عمِل وعمول ذو عمل ورجل عمول كسوب. والعُمالة رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل والعملة العاملون بأيديهم ضروباً من العمل في طين أو حفر أو غيره. والعامل هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله. واستعمل غيره إذا سأله أن يعمل له واعمله أعطاه عمالته. قال باور:

يشكو بعض العملة من حظهم وسوء طالعهم ويقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما خلقنا عملة وما حالهم في شكواهم إلا حال من يشكو من كونه خلق إنساناً. فالعمل قانون الطبيعة البشرية وهو شريف بذاته في نظر العقل مقدس مبارك كيفما كانت الطرق التي يجري عليها والغاية التي يرمي إليها. والعملة صنفان: صنف يعمل ذكاؤهم فقط ويدعون عملة الفكر أو أرباب الصناعات الفكرية وهم الذين يتعاطون الأعمال الملقبة بالأعمال الحرة. والصنف الآخر طبقة العملة بأيديهم وأجسامهم وهم أوفر عدداً وأكثر سواداً. هؤلاء العملة هم الأولى يعملون في القرى والمدن ويتبارون في استخراج نتاج الطبيعة على اختلاف عناصرها ويكيفون تلك النتائج بحيث تصلح لما يتطلبه المجتمع من الحاجيات. وهذا الضرب من العملة قسمان أيضاً: زراع وصناع والفئة الثانية مفضلة إلا أن كلتيهما حريتان بالاعتبار والإكرام.

حياة العامل أضمن مراتب الحياة الإنسانية بأسرها لأن له من فكره رأس مال لا يسلبه إلا بفقد صحته وزوال كيانه. وليس هذا النوع من الثروة عرضة للأخطار كسائر أنواع الثروة إذ العمل للمجتمع البشري بمثابة التنفس في الحياة ولا يتأتى توقيف حركة العمل والتنفس بدون أن يؤدي هذا الانقطاع إلى بحران عظيم قد يودي بصاحبه إلى الفناء إذا دام على أشده.

وإن حياة الصناع لتستدعي نشاطاً أكثر وحركة دائمة وإذا حدث في الأحيان أن فترت الصناعة موقتاً في بلاد فإن بلاداً غيرها تتطلب نزول أهلها فيها. ومن اعتاد أن يستخدم قواه الطبيعية مدفوعاً بعامل العقل والذكاء يجد له بسطة في الرزق حيث حل من أرض الله. قال أحد عقلاء الأقدمين ليس للقدر سبيل إلي فيسلبني مالي لأني حيثما رمت بي تصاريفه لا أخاف الفاقة ولا اضطر إلى سداد من عوز إذ أحمل ثروتي كلها معي وهو كلام يصدق على العالم كما يصدق على العامل كل الصدق. لأن العامل لا يعدم من يحتاج إليه في أي ناحية رمته فيها يد الأقدار وكيفما قلبته صروف الدهر فعيشه أكثر ضماناً من عيش العالم مادام له من عمله مهارة، ومن جسمه قوة، وما عليه أن يتعلم لغة قوم ينزل عليهم لأن عمل يديه ينوب في خطاب من يود خطابه.

وللعامل من الاستقلال ما يفوق به سائر طبقات الناس وإن لم يتأتَ لامرئ في العالم أن يستمتع بالاستقلال المطلق. وذلك لأن العامل في غنى عن التزلف والملق لا يحتاج إلى من يمد إليه يد المعونة إذ قلما يحاذر أن يكون له ممن يجاريه ما يحرمه التمتع بعمالته فإن من يعمل له محتاج للعامل الذي يفوق غيره في أمانته ومهارته. فكما أن العامل يحتاج لمن يعمل له فهذا محتاج للعامل أيضاً والحاجة بينهما متبادلة فليس في ذلك غضاضة على العملة البتة.