مجلة الرسالة/العدد 999/القصص
كيف أطعم الفلاح الفلاح المسؤولين Повесть о том, как один мужик двух генералов прокормил هي قصة قصيرة بقلم ميخائيل سالتيكوف شتشيدرين نشرت عام 1869. نشرت هذه الترجمة في العدد 999 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ: 25 أغسطس 1952 |
وتفضلوا بقبول احترامي
القصصي الروسي سالتيكوف
كانا في قوت ما يشغلان منصبين من مناصب الحومة
وكان كلاهما فارغ الرأس. ومن أجل ذلك وعلى غرة منهما وجدا نفسيهما (يشحنان) إلى جزيرة غير مأهولة كأنما ينقلهما إليها بساط سليمان.
وكانا قد قضيا عمريهما في ديوان حكومي نشأ فيه وتربيا وشابا؛ وكأنما قد ولدا به أيضا. وهما من أجل ذلك لا يعرفان أي شيء لا يتصل بأعمالهما، وكل الذي يعرفانه ينحصر في الصيغ الديوانية المألوفة التي تنتهي بهذه الجملة (وتفضلوا بقبول احترامي).
لكن هذا الديوان ألغي وأقالتهما الحكومة فهاجرا، بعد أن أطلق سراحيهما، إلى شارع بوديشسكايا في بطرسبورج، وكان لكل منهما فيه منزل وطاهية ومعاشه.
ولما استيقظا من النوم في الجزيرة التي (شحنا) إليها، وجدا نفسيهما نائمين تحت لحاف واحد. ولم يفهما بالطبع في البداية ماذا أصابهما؛ فأخذا يتكلمان كمل لو كان الأمر بينهما يجري على عادته.
قال أحدهما: (ما أغرب الحلم الذي رأيته ليلة الأمس يا صاحب السعادة! لقد رأيت في الحلم أني نقلت إلى جزيرة غير مأهولة).
لكنه ما كاد ينطق بهذه الكلمات حتى وثب من مكانه ووثب الموظف الآخر أيضا، وقال في دهشة شديدة: (ولكن أين نحن الآن؟ وهل كان ما رأيناه حلما؟).
ولمس كل منهما الآخر ليستوثق هل هو في حلم أم يقظة. وكان أمامهما المحيط، ووراءهما متسع قليل من الأرض خلفه المحيط أيضا، فبكيا لأول مرة بعد أن ألغى ديوانهما.
ونظر كلاهما إلى الآخر فرآه لا يرتدي إلا قميص النوم وقد علقت في جيده صفيحة عليها رقم. وقال أحدهما: (الآن موعد تناول القهوة، ولكن من لنا بها الآن؟) ثم عاد إلى البكاء وقال: (ما الذي نفعله يا صاحب السعادة؟ إننا لو كتبنا تقريرا فكيف نبعث به؟).
فأجابه الموظف الآخر: (سأخبرك بالذي يجب أن نفعله يا صاحب السعادة: أنا أذهب شرقا وأنت تذهب غربا، ثم نعود إلى الاجتماع هنا، وإذا اهتدى أحدنا إلى رأي تشاورنا فيه) وهنا اختلفا في تعرف الشرق والغرب وتذكرا قول رئيس الديوان:
(إذا أرت أن تعرف الشرق فاجعل الشمال أمامك، فالذي على يمينك عند ذلك هو الشرق)، ولكنهما لما أرادا أن يعرفا أين هو الشمال اتجها نحو كل الجهات دون أن يهتديا إليه. ولأنهما قضيا كل حياتهما في دار المحفوظات؛ فقد ذهب مجهودهما هذا عبثا
وقال أحدهما: (أرى يا صحاب السعادة أن يذهب أحدنا إلى اليسار والآخر إلى اليمين)
وكان هذا الموظف قد اشتغل فضلا عن عمله في دار المحفوظات بتدريس علم الخط وقتا ما، فهو لذلك أذكى قليلا من صاحبه.
وكان كما اقترح. أما الموظف الذي إلى أليمين فوجد أشجار تحمل كل أنواع الفاكهة؛ وكان بوده لو يستطيع تناول تفاحة، ولكن الثمر كان شديد العلو فلا يستطيع الحصول عليه إلا إذا تسلق الشجر. وقد حاول أن يتسلق إحداها، ولكن ذهبت محاولته سدى. وكل الذي نجح فيه أن مزق قميص نومه.
وألقى نظرة على الماء فرآه ممتلئا بالسمك، فتمنى لو أن كل ما فيه من سمك معروض للبيع بشارع بودشسكايا. ولما مر هذا الخاطر بذهنه جرى لعابه، ومشى في الغابة، فرأى كل أنواع الطيور والأرانب والغزلان فقال:
(يا رب ما أكثر رزقك وما أقل قدرتنا على الحصول عليه!)
واشتدت عليه وطأة الجوع. وعاد إلى المكان الذي اتفق مع صاحبه على لقائه فيه فوجده في انتظاره.
قال: (ماذا وجدت يا صاحب السعادة؟) فأجابه صاحبه: (لم أجد غير عدد قديم من جريدة الوقائع الرسمية): فأخذ يحدثه عما وجده هو. وجلس الموظفان، ثم حاول كل منها أن ينام ولكن خلو معدتيهما من الطعام سبب لهما أرقا شديداً. وكان من أسباب الأرق أيضاً تفكيرهما في المعاش المرتب لكل منهما، وفيما يتقاضاه عنها الآن فيتمتع به دونهما. وكان من أسباب الأرق فضلا عن ذلك تفكيرهما فيما بالجزيرة من سمك وسماني وأرانب وفاكهة وإن ليس في مقدورهما الحصول على شيء منها. قال أحد الموظفين: لا أعرف كيف نعيش هنا؟ إننا حتى لو استطعنا الحصول على طائر فكيف نذبحه وننظفه ونطبخه؟ كيف يحدث كل ذلك؟ فأجابه الآخر: (إنني في الحق لا أفهم كيف يحدث كل ذلك)
ثم عادا إلى الصمت وحاولا أن يناما، ولكن قبل أن تغتمض عيونهما مر سرب من السماني فتخيلاه وهو مقلي على الأطباق. وقال أحد الموظفين: (لقد هممت من شدة الجوع أن آكل حذائي) فأجابه الآخر: إنني سأمتص جوربي).
ونظر كل منهما إلى الآخر نظرة شر كأن نفسه تحدثه بأن يأكل صاحبه؛ ثم صرخ كل منهما صرخة جنونية كأنها عواء الذئب. وقال الموظف الذي اشتغل بالتدريس: أضننا لن ننتظر حتى يحاول أحدنا أن يأكل الآخر) فأجابه: (وكيف نفعل؟ إننا بلا ريب سنلاقي الموت؛ فما رأيك يا صاحب السعادة؟).
قال يجب أن نقطع الوقت بالمحادثة، وإلا فإن واحداً منا سيأكل الآخر لا محالة) فأجابه الموظف الآخر: (ولكن ماذا نقول؟ أبتدئ أنت).
قال الموظف الذي كان مدرسا: (قل لي لماذا تشرق الشمس أولا ثم تغرب)؟ ولماذا لا يكون العكس؟) فأجابه الآخر: (هذا سؤال مضحك يا صاحب بسعاد. إن الشمس تشرق لكي نستيقظ ويذهب كل منا إلى الديوان، ثم تغرب لكي ننام)
قال: (ولكن لماذا لا تفترض العكس فنذهب عند شروق الشمس إلى الفراش فننام ونحلم، وعندما تغرب الشمس. . .) فقاطعه الآخر قائلا: (إن هذا القول لا يستقيم مع التفكير لأن شروق الشمس يحمل الإنسان على الاستعداد للذهاب، كما أن غروبها يحمل الإنسان على طلب العشاء).
وقد أفسدت كلمة العشاء المحادثة لأنها هاجت جنون الموظفين الجائعين، فقال أحدهما: (إن أحد الأطباء قال لي إن الإنسان يستطيع أن يعيش مدة ما بما في جسمه من سوائل. فقال الآخر: (لا أفهم ماذا تعنيه).
قال: (هذا يعني أن في الجسم أنواعا مختلفة من السوائل، وإن بعضها يتحول إلى بعض حتى تصير إلى الخلاصة الغذائية) فقال الآخر: (وماذا يحدث بعد هذا).
قال: (يحتاج الإنسان في النهاية إلى طعام جديد ليتحول إلى الأنواع المختلفة من تلك السوائل) فقال: (إذن فالعبرة كلها بالطعام! لعنة الله على الطعام!).
وأدرك الموظفان أن هذا النوع من الحديث لا يؤدي إلى الغرض الذي يقصدان إليه، بل هو يزيد من شهوتيهما فقرر أن يتركا الحديث؛ فلما طال بهما الصمت تذكر أحدهما الوقائع الرسمية فتناولها ليقرأ فيها لصاحبه. ولكن انتهت الفقرة الأولى - وهي خبر وليمة رسمية - إلى ذكر أنواع الطعام، فأخذ الآخر منه الجريدة ليقرأ خبراً آخر. وأخذ يقرأ، ولكن الخبر - وهو استكشاف جديد - قد انتهى بإقامة حفلة تكريم، وتناول أيضاً ذكر الطعام.
ودفع بالجريدة إلى صاحبه فقرأ فيها فقرة لا تتعلق بدايتها بالطعام، ولكنها انتهت إلى ذكره أيضا. فأطرق كلا الرجلين وتثاءبا تثاؤبا مؤلما.
ثم برقت عينا صاحب السعادة إذ خطر بباله خاطر سعيد ووقف فجأة ليعلن استكشافه وصاح: (ماذا تقول؟ لقد عرفت السبيل إلى النجاة، فماذا تقول إذا أتينا بخادم؟).
فصاح الآخر: (وكيف نأتي بخادم يا صحاب السعادة وأي صنف من الخدم تجده هنا؟)
فقال: (خادم بسيط كسائر الخدم يستطيع أن يعد لنا الطعام وإن يصيد أسماني والسمك ويطبخهما)
قال: (هذا حسن ولكن كيف نجده؟) فقال: (لماذا إن الخدم موجودون في كل مكان. إننا نقوم فنبحث حتى نجد واحداً منهم. ولابد أن يكون هنا خادم على الأقل)
اطمأن الموظفان إلى هذه الفكر. وقام كل منهما ليبحث عن خادم، وطالت مدة بحثهما، ولكنها لم تذهب سدى، فقد وجدا في النهاية رجلا أسود اللحية على جسمه ثوب من جلد الماعز وهو نائم تحت شجرة كبيرة، فلكزه صاحب السعادة وصاح: (كيف تنام هنا ونحن موظفان نكاد نموت من الجوع قم!)
فنهض الخادم ونظر إلى الموظفين وكان أول ما هم به أن يفر ولكنهما أمسكا بتلابيبه فاستسلم المسكين للقدر المقدر عليه، وصدع بالأمر وتسلق شجرة تفاح فجمع للسيدين الجديدين خير ما فيها، وقطف تفاحة نشوك على الفساد فجلعها لنفسه. ثم نزل عن الشجرة، فجمع مقدارا من البطاطس وأوقد النار بضربة حجرين في وسط هشيم وطبخ البطاطس؛ وفي أثناء ذلك صاد أرنبا فأضافها إلى الطعام، وصاد كذلك زوجا من السماني؛ فأدرك الموظفان مقدار ما لقياه منت السعادة بقرب هذا الخادم. ونسيا أنهما كادا يموتان من الجوع منذ قليل. وقال كل منهما للآخر (ما أسعد حياة الموظف!).
وقال لهما الخادم: (هل أنتما مسروران؟) فقالا: (نعم ونحن نقدر خدماتك).
قال: (فهل تسمحان لي الآن بأن أستريح؟ فقالا: (نعم على شرط أن تأتي لنا بحبل أولا) فذهب وجمع أليافا طويلة لوم يزل يفتلها حتى صنع منها حبلا طويلا متينا فلسمه أليهما وأستأذن في السماح له بالراحة فقيداه بالحبل وأذنا له بأن ينام في ظل الشجرة المجاورة.
وزاد حذق الخادم في تهيئة الطعام فزاد الموظفان بدانة وصحة. وقال أحدهما للآخر وهما يتناولان طعام الإفطار: (ما رأيك يا صحاب السعادة؟ هل تعتقد أن قصة برج بابل قصة رمزية أم قصة واقعية؟).
فقال: (إنها بلا شك قصة واقعية، والدليل على ذلك كثرة ما في العالم من اللغات. وإلا فكيف تنشأ اللغات لولا تبلبل الألسن؟).
قال الآخر: (وهل تعتقد أن قصة الطوفان صحيحة؟) فقال صاحب السعادة: (نعم بغير شك. ودليلها وجود أنواع كثيرة من الحيوان) وتناول عدد الوقائع الرسمية فأخذ يقرؤه للمرة العاشرة من أوله إلى النهاية.
لكن السأم دب إلى نفسيهما، فقد كانا يذكران ثيابهما الرسمية ومعاشهما وطاهييهما في طبرسبورج فتذرف عيونهما الدمع.
وقال أحدهما: لا أعرف كيف شارع بودشسكايا الآن يا صاحب السعادة. فقال: لا تذكرني به فقد كاد يقتلني الحنين إلى الوطن.
قال الآخر: (إن الحياة هنا لذيذة لا عيب فيها، ولكن الحمل يتوق إلى ثدي أمه، ونحن نتوق إلى رؤية بلدنا وإلى ارتداء ثيابنا الرسمية في يوم قبض المعاشات على الأقل.
قال صاحب السعادة: (إن الملابس الرسمية حتى ولو كانت من الدرجة الرابعة تسر الإنسان وتنسيه متاعبه.
واستدعى الموظفان الخادم ليشير عليهما برأي لكي يعودا إلى شارع بوتشسكايا.
فصنع لهما من أشجار الغابة سفينة لن تكن كسائر السفن، ولكنها مجرد أخشاب مربوطة بعضها إلى بعض، وصنع لنفسه مجدافين ليتولى بمفرده تسيير السفينة.
وبدأت الرحلة، فكانا يلعنانه ويلقبانه بأقبح الألقاب كلما ظنا أن حياة اثنين من الموظفين ستتعرض للخطر في سفينة هذا الخادم.
وكان البليدان لا يعملان شيئا في السفينة، فنهض الخادم مع انفراده بالتجديف يهيئ لهما الطعام مما يصيده من السمك ويشويه حتى بلغت السفينة النهر.
وما كان أسعدهما عندما انتقلت السفينة من بحر البلطيق إلى نهر النيفا، ودخلت السفينة قناة كترينا وهما لا يزالان بها، ولم يخطر ببالهما أن يقطعا بقية المسافة مشيا على الأقدام. وفي النهاية وصلا إلى العاصمة.
كانت سعادتهما سعادة بالغة عندما نزلا من السفينة فجلسا على أقرب مقهى من الشاطئ يشربان القهوة. وفي اليوم التالي لبسا الثوب الرسمي وذهبا لقبض المتجمد من المعاش. ولست أستطيع الإخبار عن مقدر هذا المعاش ولكنهما لم ينسيا الخادم، فقد أهديا إليه زجاجة من الويسكي وخمسة قروش صحيحة. . . تمتع يا خادم.
ع. ن