الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 998/القصص

مجلة الرسالة/العدد 998/القصص

بتاريخ: 18 - 08 - 1952


الرسالة الأخيرة

بقلم رالف بلومر

أخذ الناس على أنفسهم أن يتجنبوا سبيل الأخطاء، ووضعوا نصب أعينهم أن يحيدوا عن طريق الأغلاط؛ ومع ذلك فكثير منهم من يهوى في هاويتها، ويتردى في حمأتها؛ بل أصبحت وكأنها من مستلزمات الحياة؛ أو من ضروريات البشر، فقد ترى البعض يتدارك الخطأ قبل وقوع في نتائجه، والآخر يقع فيه ويتخبط في إشراكه وجرائره.

بيد أن الأخطاء كثيراً ما يمحو بعضها بعضاً. وهنا نرى أالقدر يشاء للعض أن يجني من وراء ذلك ويربح. . . ويشاء للبعض الآخر أن يخسر من جرائه بل ويهلك.

أخذت يد (جرافيل فورلاند) ترتجف ارتجافاً تحت المصباح الكهربائي الموضوع على المكتب؛ وهو يترع كأسه من شراب البراندي. وما كاد يفرغ من ذلك حتى تقلصت يده على الكأس وتمتم: لقد انتهى كل شيء، وعما قريب سأمسي في حالة أخرى آن بها كل عدوان الدنيا وغدرات الناس، وهجران الزمن.

ثم غيب يده في درج المكتب وأخرج مظروفاً وضعه نصب عينيه.

لقد طالما عاب عليه رئيسه الكولونيل باكستر إهماله وتوانيه، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل راح يقدح فيه وينال منه أمام زملائه في الجيش وإخوانه، وقد قال له فيها قال. . . (فورلاند!. . سوف لا تسلم من ارتكاب الحماقات والأخطاء مادمت حيا. . إن حياتك لمليئة بالأغلاط، مفعمة بالأخطاء منذ أن أدركت معنى الحياة. وإني أقول لك على رؤوس الملأ: (إن دخولك في رحمة الله أو إلقائك في قرار الجحيم لن يكون ألبته سولا نتيجة حتمية لإحدى هذه الغلطات. . أيها الرجل! إنك تعيش على الأخطاء وستموت من جرائها).

وأطلق فورلاند العنان لأفكاره تحلق في أجواء السنتين الماضيتين، وهو يكتب عنوان الكولونيل على الظرف.

ونحى المظروف جانباً، ثم أمسك بإحدى يديه الرسالة التي كتبها منذ لحظة. بينا كانت يده الأخرى تعبث في حركات عصبية مضطربة بمسدس متوسط الحجم.

وراحت يمناه تجريان على كلمات الرسالة.

(الكولونيل أ. هـ. باكستر

سيدي الكولونيل

أرجو المعذرة يا سيدي إذا وجدتم أن هذا الكتاب لا يمت إلى أعمال الجيش بصلة. وسوف أكون - حينما يصلكم هذا - إما في جنة الخلد أو في عذاب السعير. هناك حيث ينال المرء جزاءه من جنس عمله. وقد فضلت هذه النهاية وآثرتها لأني عجزت عجزاً بيناً عن إعادة ما امتدت إليه يداي الآثمتان من أموال الفرقة التي وكلت بحفظها. ووسد إلى أمر حراستها والعناية بها. ولا عجب إذا وصلك كتابي هذا قبل اكتشاف الحادث، فذلك ما علمت على أن يكون.

وكان الأمل يشيع في نفسي حتى الآن، لظني أني لابد واجد طريق الخلاص الذي ينئيني عن ذلك المأزق الضيق الخانق. وكان مما يغمر نفسي بالأمل ويفيض عليها بالرجاء، أن يوم اكتشاف الحادث ليس منا بقريب، بل دونه أيام عديدة، وليال كثيرة، تمكنني من إخفاء الأمر وتسديد العجز وإكمال النقص.

غير أن الأيام قد مرت، ولليالي قد تصرمت، وأصبح اليوم المروع الرهيب قاب قوسين أو أدنى؛ فلا يمر الليل حتى يفيض نوره، ولا تمضي ساعات إلا ويبزغ فجره وتترجل شمسه. كل ذلك وأنا كما كنت. . . عاجز عن إخفاء الحادث، أو إكمال النقص الذي أحدثته يداي الملوثتان. . فليس أمامي في هذه الحال غير السجن والعار. . سوى الخراب والدمار. . وليس ذلك مما أسيغه أو أرضاه.

أما عن المبلغ المختلس فقد بلغت قيمته حتى الآن ستمائة جنيه أو تزيد. فهل يدور بخلدك يا سيدي أنه في وسعي إعادته إلى مكانه من الخزانة دون أن يدري أحد؟ قد يكون ذلك ممكنا من وجهة نظرك، ولكن المعجزات لا تحدث في عصرنا هذا يا سيدي الكولونيل، إنما الأخطاء فحسب هي التي يشيع حدوثها، أو إحداثها إن شئت.

وقد تقول: إنه كان في وسعك أن تقترض المبلغ؛ غير أني سوف لا أكون معك إبان اكتشاف الحادث، بل أن روحي هي الأخرى ستأبى أن تحضرك، لأني لا أرضى أن تزعجك. ولا أود أن تهيجك.

وإني على يقن أن رحيلي إلى العالم الآخر هو خير سبيل تطرق، وأفضل طريق تسلك؛ ودعني أقول لك: وداعا يا سيدي الكولونيل!

المخلص

درافيل فورلاند

ملازم أول

وغيب الرسالة بعد ذلك في الظرف وختمه. . . ثم ألصق عليه طابع البريد. وكان هو يفعل ذلك حالما ساهما، مفكراً واجما، تتناوب وجهة الحمرة والصفرة. يرى يديه ترتجف وأصابعه ترتعش. . . ولم يكن ذلك لما يشعر من تأنيب في الضمير لسرقته، أو وخز في النفس لفعلته. بل كان ذلك لأنه لا يستطيع درء الفضيحة عنه، ولا يمكنه دفع العار بعيدا منه، ولأنه سيفقد عمله لما أتاه من المنكر، ولما اقترفه من الجرم.

إن السبيل الوحيدة والطريق السهلة المعبدة للخلاص من الفضيحة، والاغتسال من العار اللذين سيجرهما عليه اكتشاف الحادث. هي رصاصة تحترق رأسه.

وأبصر يده ترتجف وهو يشعل إحدى لفافات التبغ، فأيقن أن تظاهره بالثبات وادعاءه الرزانة والهدوء إن هما إلا قناعا شفافا يخفي وراءه ما يصطخب في نفسه ويعج من عوامل الرعب والفزع الهائلة. . . وقال بلهجة الواثق يحدث نفسه:

- سينتهي كل ذلك سريعا. . ما هي إلا ضغطة واحدة لهذا الزناد وينتهي الأمر كله، بل ويشق على أي أحد أن يلحق بي أو ينالني.

وأخفى المسدس في أحد أدراج المكتب، ثم تناول الرسالة، وغادر البيت ليودعها صندوق البريد، أي حظ تعس ذلك الذي يلازمه؟ من له بمن يمد له يد العون فيرد المال المسلوب قبل أن يجردوا الخزانة؟ أي دهر جائر ظلوم، هذا الذي يأبى مساعدته وتخليصه من وهدة العار التي تردى فيها، وهاوية الدرن الذي تمرغ فيه.

وتمتم فورلاند يحدث نفسه:

- ها هو ذا آخر يوم من أيام حياتي، ينقضي تحت سمعي وبصري.

وألقى الرسالة في صندوق البريد، ثم كر راجعا إلى مثواه.

وهناك أخر المسدس وأدناه من رأسه المحموم، وزم شفتيه، وغمض عينيه، وراحت إصبعه تضغط شيئاً فشيئاً وكاد كل شيء ينتهي، لولا أنه سمع وقع أقدام تقترب منه أعقبه سلعة مكبوتة ودق خفيف على الباب.

ودخل الخادم فألفى سيده منتحيا ناحية من المكتب جالسا في تراخ وخمول، أما المسدس فقد كان مختفيا وراء علية السجاير.

- لقد جاءت الآن فقط يا سيدي

فاه الخادم بهذه الجملة في صوت خافت ولهجة احترام وهو يمد يده إلى سيده برسالة مسجلة. . . فتناولها فورلاند بيد مرتجفة ثم أومأ إليه بالانصراف.

وفض الظرف في عجلة واضطراب فسقطت منه الرسالة وهو يخرج حزمة من الأوراق المالية كانت فيه.

والتقط الرسالة وأخذ يقرأ ما جاء فيها بعينين جاحظتين.

(سيدي: لقد أمرني عمك جيمس. . ب. موبيث أن أرسل إليك هذا الكتاب وبه ألف من الجنيهات، وهي نتيجة الارتفاع المفاجئ لأسهم شركة آبار البترول، التي كان لك حظ الاشتراك فيها عند فجر حياتك).

وكانت الرسالة ممهور بإمضاء مسجل شهير.

وأحس فورلاند رغبة ملحة في أن برفع عقيرته بالصياح فرحاً وابتهاجاً، ها هي ذي ألف جنيه في يده. . . ملكه وحده، لا ينازعه فيها منازع. ولا يشاركه فيها شريك، سيعيد ما اختلسه في صبيحة اليوم التالي قبل اكتشاف الأمر دون أن يعلم أحد. . . أية معجزة أية خارقة. . أي حظ سعيد؟ لقد هزأ بالمعجزات وهاهي ذي قد حدثت، وسخر من الخوارق وها هي ذي قد حلت.

بيد أنه عبس قليلا وهو ينظر إلى المال، لماذا لم يرسله عمه صكا على المصرف؟ ولكنه عاد وتذكر أن عمه يمقت معاملة البنوك، بل هو لا يثق بها ولا يأمن لها، إن عادته دواما أن يدفع بالنقد.

وتذكر قول عمه له ذات يوم: (أصغ إلي يا فورلاند، إن شركتنا هذه وإن كانت لا تدر علينا أي ربح الآن. فإنها ستغدو في مدى زمن - طال أم قصر - من أعظم الشركات الدولية في العالم) إذن فهذه هي أولى الأرباح. . . إذن ستترى عليه المبالغ بعد الآن. . .

وفورلاند يعلم عن عمه أنه ما كان يرسل إليه فلسا واحداً، إذا درى بموقفه الدقيق الحرج؛ إنه - أي عمه - يكره أن يرى أحد أفراد الأسرة يتلوث بهذا العار، ويتمرغ في هذا الرجس. وتقطب جبينه وهو يفكر. . حسنا!. . سيعيد المال المسروق فتبقى له بعدئذ أربعمائة جنيه أو تقل، ولن يكون هناك ما يشينه ويعيبه أمام عمه أو يحط من قدره. بيد أنه أن كوحش حبيس؛ وزأر كأسد جريح، حينما تذكر الخطاب الذي أرسله الكولونيل بعنوان بيته في (إيست كوست). . . لا مرية أنه سيتسلمه في الصباح الباكر.

وهب واقفاً في ذعر. . ما الذي بحق الشيطان جعله يتسرع ويرسل الكتاب؟ أما كان لأولى به أن يتريث إلى الصباح؟ إنه لا يسعه الآن أن يتلافى الأمر أو يتفادى الكارثة. . ولا يمكنه أن يعيد المال؛ ويزعم أنها مزحة من مزحة، أو مهزلة أراد بها التسلية واستطلاع ما قد يحدث. فقد يرتاب الكولونيل في الأمر، ويجرد الخزانة بعين أخرى. . منتبهة متيقظة. ويميط اللثام عن التلاعب الذي أحدثه بالمال منذ سنتين.

وألقى فورلاند المسدس في درج المكتب. ووضع المال في حرز حريز. ثم تناول قبعته وغادر مثواه إلى صندوق البريد.

يا للحظ التعس. ويا للأمل الخائب!! لقد أفرغت الرسائل التي في الصندوق منذ عشر دقائق فحسب.

وتراءت له أشباح السجن والفضيحة والعار. فجن جنونه. إن مصيره الآن في يدي رجل، ولو أنه طيب القلب إلا أنه لا يلين ولا يرحم في مثل تلك الأمور. ثم إنه عمه جيمس لا يتردد في ازدرائه ولفظه والتبرئ منه إذا بلغه خبر جريمته الشنعاء وإثمه الكبير الزرى.

وأبصر مكتب البريد يجثم في نهاية الطريق فهرول إليه. وألفاهم هناك في عجلة من أمرهم وهم يفرزون الرسائل.

وارتدى فورلاند ثوب الهدوء وثبات الجنان وهو يدلي إليهم بأنه أرسل بمحض الخطأ والتسرع خطاباً يود استرداده. ثم وصف لهم الظرف.

فأجاب أحد العمال في رقة مشوبة بحزم أن إعادة أية رسالة إلى صاحبها ضرب من المستحيل وأفهمه أن مصلحة البريد تعد نفسها مسئولة عن الرسائل حتى تصل إلى المرسلة إليهم.

فأخذ فورلاند يتهدد وتوعد تارة، ويلين ويتذلل تارة. وكان كل ذلك عبثاً. فلمح إليهم بالرشوة، ولوح لهم بالمال. وقد رفع المبلغ حتى أضحى يغري المرء على مخالفة ضميره والإخلال بواجبه، فنظر إليه العامل نظرة شزراء مليئة بالتهكم والازدراء. ثم أدار عنه وجهه واستغرق في عمله.

فخرج فورلاند يلتمس الهواء البارد الرطب عساه يلطف من هاته النار التي تضطرم بين أضلعه اضطراماً ولعله يخمد ذلك السعير الذي يحتدم في أحشائه احتداماً.

وتراقصت على صفحات ذهنه كلمات الكولونيل التي طالما صوبها إليه معرضا به قادحاً فيه (إنك أيها الرجل تعيش على الأخطاء وسوف تموت من جرائها).

وفي مأواه غرق في مقعده وراح يشحذ ذهنه ويكد قريحته لعل يصل إلى حل لتلك المعضلة الجديدة أو عساه يجد طريقا للخلاص مما وقع فيه من الخطأ مرة أخرى.

وهبط الليل وانتشرت معالمه الطاغية على الكون. بل مضى كل الليلة إلا قليلا واقترب الفجر وكاد يبزغ. وورلاند لما يجد بعد حلا لذلك الإشكال الجديد، وظل جالساً بأعين جاحظة وجفون مقرحة، وشعر مشعث وخدين أصفرين غائرين.

ستصل الرسالة إلى الكولونيل بعد بعض ساعات فيقرأها ويدرك كل شيء.

ليس هناك سبيلا لمنع ذلك، على الرغم من أن الخطاب لا يزال في مكتب البريد. يا لله! كيف يمنع وصوله؟ لقد أصبح ذلك مستحيلا، لأن الكولونيل يتسلم رسائله يدً بيد من موزع البريد. وزأر فورلاند يقول:

- لماذا لم أتريث قليلا؟

واختفى فورلاند المرح الطروب، واحتل مكانه فورلاند آخر وحشى النظرات. كساه اليأس ثوب الجنون، وأورثه الهم والقلق حالة التوحش.

ها هو ذا الخراب يتراءى له كوحش هائل يريد ابتلاعه، والدمار يهاجمه كجارح جبار يبغي اختطافه، ومع ذلك كان في وسعه أن يتفادى ذلك لو أنه لم يخطئ ويرسل ذلك الخطاب. وملأ كأسه من الكونياك ورفعها إلى فمه بيد ترتعد في شدة وعنف، حتى لقد تساقطت قطرات من الشراب على أرض الغرفة.

وانتبه أخيراً من ذهوله فرأى أن الصبح قد تنفس وبزغ النهار وأضاء. فأخذ يضحك بينا كانت أصابعه تعبث بالأوراق المالية عبثها بشيء تافه لا خير فيه.

إن الكولونيل ليرفض رفضاً باتا أن يأخذ منه المال ويودعه الخزانة دون أن يفطن إلى الأمر أحد.

يا للخراب! يا للدمار! لقد خرب ودمر. . . كل ذلك من جراء غلطة واحدة. ألا ليته تريث إلى الصباح، أو إلى أن أتاه المال من عمه.

ونظر إلى الساعة فألفاها تشير إلى التاسعة.

سيستلم الكولونيل باكستر الرسالة حالا. . . إنه يقرأها الآن، وربما يكون قد أخطر البوليس. . وغرق في مقعده ثم تمتم.

- السجن!!!. . .

واعتدل في جلسته بغتة ثم أردف.

- سيأتي البوليس بين لحظة وأخرى. . . أجل، سيأتي فوراً. ألم ينبئ الكولونيل بالسبب الذي حدا به إلى الانسلاخ من هذا العالم والتخلص من الحياة؟

وعادت وتراءت له أشباح السجن والعار والدمار.

وضحك مرة أخرى ثم جلس على حافة المكتب وأفرغ في جوفه كأسين مترعتين من الشراب

ثم امتدت يده تبحث عن المسدس.

- كل ذلك من أجل غلطة. . . غلطة واحدة ألا ليتني تريثت قليلا قبل أن ابعث بهذه الرسالة اللعينة.

ثم رفع السلاح إلى رأسه المندى بالعرق البارد في عزم وإصرار.

وعلى عتبة الباب الخارجي راح الخادم يتفرس ويديم النظر في رسالة سلمها إياه موزع البريد، وكانت تحمل - فضلا عن عنوان الكولونيل باكستر - ثلاثة أحرف تومئ إلى أن اسم الرسالة مكتوب على الوجه الآخر من الظرف.

وزمجر موزع البريد يقول

إنه لا يحمل أسم البلد المرسل إليه، وقد أعدناه لنفس العنوان. كثير من الناس يقع في مثل هذه الغلطة. . . يا إلهي! ما هذا؟! (وهذا) هذه كانت طلقة نارية دوت في سكون المنزل العميق أعقبها سقوط جسم على الأرض.

م ع م