مجلة الرسالة/العدد 998/الأدب واللغة من الكائنات الحية
→ شوقيتان لم تنشرا في الديوان | مجلة الرسالة - العدد 998 الأدب واللغة من الكائنات الحية [[مؤلف:|]] |
ديوان مجد الإسلام ← |
بتاريخ: 18 - 08 - 1952 |
للأديب محمد عثمان الصمدي
- 2 -
كان هذا الشعور العربي باللغة ومفرداتها بل الأدب أيضا. ومن أجل هذا نرى أن اللغة قد نشأت بطريقة وجدانية. ومن أجل هذا أيضاً اختلفت ألوان البلاغات في القديم والحديث. وظل كذلك هذا الشعور في العصر الجاهلي إلى زمن كبير من صدر الإسلام حتى أصبحت اللغة لغة حياة جديدة ففقدت كثيراً من مدلولاتها على الزمن من جهة، ومن جهة أخرى زحزح الاستعمال في شؤون الحياة الجديدة كثيرا من مفرداتها عما كانت عليه في العصر الأول. وبذلك خسرت تلك الشحنة العاطفية التي أشرنا إليها من قبل. ولكنها ربحت غير قليل من الصقل والمرونة والمواتاة.
كان إذن عصر بني أمية عصر شباب للغة كما كان عصر شباب الأدب، الفطرة فيه قوية لم يبعد بها الزمن من عهود البلاغة المطبوعة. والسلائق غنائية بسيطة لم تتركب بعد بساطة الحياة التي كانت تمارس في ذلك الزمان. هذا والأخلاق بوجه عام لم تتميع بعد بتأثير الحضارة، وما تتيحه للناس من خفض ولين ووثارة. وإنما كانت الأخلاق تمتاز بشيء من القوة والصرامة وقلة الفضول. والأثر الأدبي تبعا لذلك يبدو ومطبوعا قد خلا من كل تكلف وتعمل، وإن احتمل فيه قائله ضروبا من العنت والمشقة والعناء. وسيظل ذلك العصر كما كان منهلا ينهل منه أبناء العربية صورا من الكلام البليغ في كل زمان ومكان، ما نطق بالعربية لسان.
ولكنه لم يكد يدنو من أواخره حتى بدت في الأدب طلائع البديع كما تتبين ذلك من بعض عبارات للجاحظ في البيان والتبيين. وقد كان من الطبيعي أن تتطور طرق البيان بعد أن لانت العرائك وأصبح تلمس الجمال المصنوع من مطالب الحياة.
وثمة شيء آخر، وهو أن الحياة العقلية لذلك العهد وإن بلبلت الخواطر والأذهان لم تكن قادرة على أن تنفخ من روحها في موضوعية الشعر شيئاً له خطر. وكل ما استطاعت أن توحي به هو فنية الصورة الشكلية أو فلسفتها دون الموضوع. ومن هنا جاء البديع وانتقل الأدب لذلك من طور إلى طور في تدرج طبيعي ملحوظ.
ثم يمضي في هذا الطور حتى ينتهي إلى كهولته في العصر العباسي الأول. وهو يستقبل عهد الجديد حاملا إليه ما حصل الشباب، وفيضا غير كبير مما كان عليه من أريحية وحمية وحماسة، وإنه ليمضي في عهده هذا مستوعبا لما حوله من مختلف ألوان العيش، منتفعا منا يحيط به من الثقافات والمعارف. مستجيبا لما يحف به من حضارة وترف ونعيم. ومع هذا فقد هبطت درجة حرارته. وناله كثير من الفتور والإعياء. وأصبحت صور الأداء قوالب محفوظة تصلح لكل ما يملأ منها الفراغ. وأمحت فيه أو كادت تلك السلائق الغنائية المستجببة المشبوبة. أو قل صارت رواسب عقلية فحسب. ولكن الغناء أصل من أصوله ولا معدي للشعر عنه بحال. فليستعض عنه بتلك الغنائية التي تجئ نتيجة لتلاؤم الجمل والعبارات والألفاظ. ولهذا فهو مجرد فن فقط، يظفر به من يعانيه بشيء من الدربة والممارسة، وبالبصر بمنازع الكلام. وهو في عمومه ككل شيء تلده المدنية يروقك منه الصقل والتنسيق ولكنه قلما ينبض فيه روح، وإن لم يخل من الألمعية والنفاذ أحيانا. ولقد استتبع خلوه من الروح خلوه من الموضوع؛ وبالتالي فقد الوحدة التي تربط بين عناصر الأثر الفني المحتفل به. وبذلك فهو معرض للحياة بكل ألوانها ما اختلف منها وما ائتلف. ولا ريب في أنه احتفظ بأكثر مما ينبغي من تقليد للقديم، ومن ترسم له لخطاه ولئن اتخذ مادته مما حوله من حياة، فهو قد اتخذ أيضاً أدوات التصوير لها، والتعبير عنها من حياة البادية دون الحياة المعاصرة له، تلك التي كان ينبغي له ألا يعدوها في شيء سواء في ذلك مادته أو وسائل الإفصاح عنها والأداء. وليس من العجب في رأينا - وإن لم يكن من الحسن - أن يرجع إلى الحياة البادية فيتخذها موضوعا؛ أو يتخذ منها أداة للبيان. فهو كما قلنا، وكما قلنا، وكما نريد أن نقول، كائن حي. وأي عجب في أن يرجع الكائن الحي إلى ذكرياته وفي وسعه الرجوع إليها. تلك التي قد تتيح له العزاء والسلوى. أو تحقق له المثل الأعلى فيما هو منه بسبيل. ثم هل انقطعت تلك الوشائج التي تربط بين حاضره وماضيه. ومن المحقق أنها لم تنقطع. بل هي أوثق وأقوى مما كان يجب أن يكون. وشيء آخر يجب أن نلفت إليه النظر في هذا المقام. وهو: ما هي الصلة بين الأديب والأدب. وعندي أنها صلة الموصل الكهربائي بالتيار. أو هي صلة الشعلة بحاملها يتسلمها ثم يذكيها ويعدو بها ليدعها آخر الشوط إلى من يضع بها صنيعه وهكذا. ثم ما هو الأدب؟ أليس الأدب في حقيقته بعض دوافع الحيوية في النفس. ولئن صح هذا فإن سلسلة حيوات الأدباء الذين تعاقبوا في لغة ما تؤلف امتداداً لحياة الأدب على الزمان. ومن ثم فهو كائن حي. وهو كذلك في تطور وتجد. لأنه أثر من آثار تلك الحيوات التي لا بست الزمان والمكان. وهذان لا يستقران على حال. ولهذا فقد كان الأدب في تطور وتجدد في كهولته التي نتحدث عنها إلى جانب عناصر التقليد التي انحدرت إليه من ماضيه القديم ولا تزال حية فيه
كان هذا شأنه، تجدد في مسايرة الحياة المعاصرة له. وتحجر في وسائل الأداء والتعبير. وكما تحجرت فيه صورة الأداء، كذلك تحجرت اللغة في أنفس الناطقين أيضاً. وأصبحت مفرداتها لا تدل على المعنى اللغوي منها فحسب. واندثر ما كان فيها من شحنة وجدانية، بل لقد سار النظر إلى العبارات وإلى فهمها فهماً إجماليا. ونظن الفقرة الأخيرة هذه في حاجة إلى توضيح فلنضرب لها مثلا. قال بعض الشعراء من قصيدة يحي مؤتمر جغرافيا.
يا موكب العلم قف في أرض منف به ... يناج مهداً ويذكر للصبا شانا
كان المستمع إلى هذا البيت لا يعنيه منه إلا معناه على وجه الإجمال. وهو أن العلم نشأ أول ما نشأ في مصر القديمة. دون أن يلتفت إلى النداء إلى موكب العلم. ولا إلى الأمر بوقوفه أرض منفيس تلك المدينة المصرية القديمة. ولا إلى مناجاته لمهده الأول. ولا إلى ما كان له من ذكرى شأنه في صباه، وحسب القارئ أو المستمع المعنى المجمل الذي أشرنا إليه.
للكلام بقية
محمد عثمان الصمدي