الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 997/الحاجة إلى الجذور

مجلة الرسالة/العدد 997/الحاجة إلى الجذور

بتاريخ: 11 - 08 - 1952


للدكتور عمر حليق

- 2 -

لتراث الماضي في عنق الجيل المعاصر مسؤولية قدسية. فإذا انهدم الماضي فإن عودته ضرب من المحال. وإن أعظم الجرائم قسوة أن يهدم الناس ما ورثوه عن أسلافهم من تراث. فما علينا إلا أن نجعل همنا الأكبر الاحتفاظ بالقليل الذي تبقى لنا من تراث الماضي.

ليس في هذه الصرخة من البلاغة والحكمة إلا ما يزكيها من تحليل دقيق وفكر عميق يطفح به هذا الكتاب النفيس الذي قدمنا له في المقال السابق.

ولعل بين القراء طائفة نقرأ في ثنايا هذه الصرخة (رجعية) لا ترضى عنها رغبتهم في بناء المجتمع الجديد على أنقاض الماضي وجموده.

ولكن الحاجة إلى الجذور ليست نزعة عاطفية مبعثها الرجعية والجمود وما يمت إليها من ألوان المحافظة والتزمت. إنما هي غريزة روحية تكمن في نفوسنا جميعا. فحين تستذكر ما يعتري الجيل من بلبلة فكرية وانفعالات نفسية حادة لا يسعك إلا أن توافق المؤلفة على أن رجل العصر إنسان اقتلعت جذوره لأنه قطع الصلة بالذخيرة الروحية التي هي جزء من تراث الماضي ومن أصوله الخالدة.

ففي الثورة على الماضي دعوة إلى القطيعة الروحية بين الخالق والمخلوق، بين الجذور والأغصان. وهذه القطيعة من أين العناصر التي تزيد من بلبلة الفكر وتشتت الجهد وكآبة النفس التي تشيع بين الواعين من أفراد هذا الجيل.

فرجل العصر حين يقتصر في تسلحه لمواجهة مسؤولياته ومشاكله الخاصة والعامة على المعاول الحديثة المستنبطة من فنون السياسة والاقتصاد والإصلاح الاجتماعي خالية من الذخيرة الروحية التي تكمن في تراث الماضي - وحين يتخذ من هذه المعلول وحدها أسلحة يواجه بها تسيار الحوادث وتيارات الفكر وانفعال المشاعر والاحساسات - لا مفر له من أن يفكر بالمجتمع والناس حين يمر بنكسة قاسية أو خلاذن كبير. فهذه المعاول مجردة من الذخيرة الروحية لا تستطيع أن تبعث في رجل العصر الإيحاء والطمأنيني الصادقة حين تخفق (هذه العوامل) في تلبية حاجته عندما تدهمه بعض حقائق الحياة القاسية مما لا تقوى على ترويضها فنون الاقتصاد والسياسة والخدمات الاجتماعية. فهذه المعاول مجردة من العنصر الديني والروحي العميق ليست سوى آلات ميكانيكية لا تتأثر لانفعال المرء ولا تستطيع أن تعبر عن حمايتها له وعفها عليه حين يعتريه في صراعه مع الحياة وقيامه بواجبات الجيل ومسؤولياته. الفتور والفتنة والكآبة. فهذا النوع من الإيحاء والطمأنينه والعطف والحماية مقصور على الصلة الروحية التي تربط المرء في جميع الأجيال بهذه العناية الإلهية الرحيمة الرءوفة السمحة التي تعيد إلى النفس الثقة وتبعث في قرارتها القوة والعزم فتدفع عنها بالإيمان والاختبار الروحي الصادق شر الفتنة ومساوئ الفتور وبلية الكآبة وأمراض القلق وعلل الشك.

ومن ثم يجد الذين اقتصروا في تسلحهم لمواجهة مسؤوليات الجيل ومشاكله على فنون الاقتصاد والسياسة والاجتماع واستمدوا من فلسفتها ذخيرتهم الروحية - يجدون أنفسهم في حيرة شديدة. . فإذا تبين لهم أن الشيوعية لا يمكن أن تطبق إلا في ظل النظام المطلق فتصبح قاسية في حكمها على الطبيعة البشرية اتجهوا إلى الاشتراكية أو الديمقراطية كما تفسر في أوروبا والعالم الجديد لعلهم يجدونها أكثر سماحة في توجيه السلوك الإنساني في أقرب المسالك لتحقيق ما يتطلع إليه أهل الجيل من عدالة ومساواة.

ولكن طبيعة السلوك الإنساني وتسيار الحوادث أكثر تعقداً وأشد قساوة من أن تلين لهذه النظريات. وما أكثر ما يقف الذين اختاروا هذه المعاول (المادية) واجمين قلقين حين يعتري مسلكهم في التفكير والعمل نكسات تدفعهم في ساعات التجرد والتأمل أن يكفروا بهذه المعاول أو أن ينفروا من إحداها ليلتجئوا إلى أخرى؛ وهكذا دواليك.

ويجب أن لا يساء الفهم في هذا التحليل. فليس القصد أبداً إنكار النفع في هذه المعاول - هذه المبادئ والنظريات اشتراكية أم ديمقراطية أو غير ذلك من الأنظمة المعاصرة فهي أيضا جزء من تراث الماضي وأسلحة لابد للجيل من أن يلجأ إليها ليواجه مسؤولياته ويحقق مطالبه. إنما القصد بيان الدور المهم الذي يمارسه التراث الروحي (وهو الجزء الأهم من تراث الماضي) في سلوك الناس ومبلغ الإيحاء والقوة الدافعة التي توفرها الذخيرة الروحية للذين يتسلحون بفنون العلم والنظم الحديثة ومعاولها لبناء المجتمع الجديد.

وإنك لا تستطيع إلا أن تعجب لهذه البلاغة التي عبرت بها مؤلفتنا الشابة عن هذه الصلة بين فنون العلم ونظمه الحديثة وبين القوة الروحية الكامنة في تراث الماضي. فهي تقول بأنها لا ترغب في شيء أشد من رغبتها في أن تتعمق في عشق المجتمع وكل ما في الكون من جمال وقبح. فهي لا ترغب في أن يعيش الجيل في برج تحيط به سحب الروح وينغمر في تراث الماضي، فهي تشارك الناس صراعهم في الحياة اليومية (وفترة اشتراكها في حركة المقاومة السرية الفرنسية للاحتلال النازي شاهد على ذلك) ولكنها شديدة الرغبة كذلك في أن ترتفع بنفسها وبأهل الجيل عن هذه (العزلة النفسية) القاسية التي يمرون بها كلما عجزت فلسفة العلم ومعاول النظم الحديثة عن أن تحل مشاكلهم وتمهد لهم طمأنينة النفس واستقرار الروح.

وهذا الارتفاع لا يكون إلا بتوطيد الصلة بين الجيل الجديد وبين العناية الإلهية والذخيرة الروحية العميقة التي خلدها تراث الماضي.

فهي تستهل مؤلفها في فصل عن (الحاجة إلى الروح) وهو مثال طيب للمنطق الفرنسي حين يتعمد أن يضع قاعدة فكرية يؤمن بها ويدعو الناس كذلك إلى الإيمان بها.

فالحاجة إلى الروح تستند إلى افتراضين:

أولهما: أن الله موجود وكل شيء في الكون والسلوك الإنسان يثبت وجوده، فلا العلم ولا النظم الفكرية قادرة على أن تنفي هذا الوجود وحاجة الناس إلى إدراكه واستيحاء رشده العلي وهداه. وأن الله تعالى بصفته جوهر الكون هو الجذر الأوحد لتراث الماضي والعنصر الرئيسي في ذخيرته الروحية.

وثانيهما: أن فشل العلم الحديث ومعاول النظم الاقتصادية والسياسية في الاعتراف بحاجتها على هدى الله قد أوجد هذه المساوئ وهذا التفكك والتشويش والقلق الذي يهيمن على أفكار أهل الجيل وسلوكهم.

وقد بلغ من حماس هذه المؤلفة الفرنسية لتعزيز الحياة الروحية في هذا العالم القلق أن دعت في كتابها إلى سن أقسى التشريعات ضد الذين يتعمدون تشويش الحياة الروحية من المجتمع من الطامعين في السيادة السياسية والسيطرة الاقتصادية، وفي الكتاب والفنانين الطامحين إلى المجد الفني مع شل الدين والقيم الروحية (الذين يبثون في عقول الناس وأفئدتهم من الصور الفنية المشوهة ما ينحط إلى مستوى البدائية فيعكر على القيم الأخلاقية صلاحها وبدفع القيم الروحية إلى الانحطاط.

والمؤلفة في دعوتها هذه تضرب يمينا وشمالا. فتهاجم (أندريه جية) الكاتب الفرنسي الشهير لهجومه على بعض القيم الأخلاقية، وتنتقد (جاك ما ريتان) الفيلسوف الكاثوليكي العتيد لتزمته في تفسير صلة القيم الروحية بمسؤوليات الجيل ومشاكله.

وهي لا توقر رجال الصحافة في حملتها هذه، فتقترح لهم العقوبة الصارمة إذا ثبت عليهم جرم تزوير الأنباء وتحريف الوقائع والاتجاهات لحاجة في نفس يعقوب.

و (سيمون وايل) في ثورتها على (الجراثيم التي تعيث فسادا في الذخيرة الروحية) مدفوعة برغبة ملحة في أن تثير في أفراد المجتمع الحماس فيمن يأنس في نفسه القدرة على أن يعين أهل هذا الجيل على مواجهة مسؤولياته بقلب آمن وفكر سليم وفتح خزائن التراث الروحي والإلهام الديني لهم ودفع شر الذين يغلقون الأبواب فيزيدون دنيا هذا الجيل حلكة وظلاما.

ففي كتاب آخر لها عنوانه (في انتظار الله) تقول كاتبتنا إن الذين تحيق بهم الكآبة والتعاسة ليس لهم في هذا الكون حاجة أشد من أن يجدوا في الناس من يوليهم لفتة مخلصة وعناية صادقة. فلا يكتفي أن تصمت إذا ألمت بجارك مصيبة وتتركه لشأنه. إن حسن الجوار يتطلب أكثر من الصمت وترك الجار وشأنه. إنه يفرض عليك أن تنشط للاتصال بجارك في المجتمع لتضع بين يديه ما في طبيعتك البشرية من أنس وبشر. وفي مكان آخر من هذا الكتاب تؤكد بأن (سكوتك عن ضلال الآخرين وصمتك إزاء محنتهم وكآبتهم ومشاكلهم هو في الواقع ضرب من الحقد عليهم والسخرية بهم، فالصمت والحالة هذه لون من الشلل النفسي وعنوان على تفاهة العيش وحيوانية السلوك)

وبعد فهذا استعراض متواضع لكتاب نفيس. والكتب القيمة على نوعين: كتاب يعالج في كل فصل فكرة أو فكرتين، وآخر في كل فقرة من فقراته حكمة ورأي سديد. وكتاب (الحاجة إلى الجذور) من النوع الأخير. فهذا الاستعراض الموجز لا ينصف ولا يوفيه حقه.

ولكنها على كل حال محاولة أحببت أن أعراضها للقارئ دلالة على أن حاجة جيلنا إلى الجذور حد وواجب، وليس سرف عقلية أو رجعية فكرية ينفر منها بعض المثقفين الذين يعتقدون مخطئين بأن البضاعة الفكرية المستوردة من حاضر الثقافة الغربية هي في كليتها نتاج (علماني) صلته بالحياة والذخيرة الروحية مبتورة لا وصل لها.

فأمثال (سيمون وايل) من الداعين إلى صيانة تراث الماضي وعناصره الروحية كثيرون في حاضر الفكر الغربي.

وجيلنا في العالم العربي سعيد الحظ بأن يجد نفسه في بيئة لا يزال فيها للقيم الروحية معاقل وحماة. فما عليه إلا أن يعير تراث الماضي قسطا وافيا من اجتهاده، ويعزز بالذخيرة الروحية ما اختاره من معاول العلم وفنون النظم الفكرية الجديدة ليتسلح بها جميعا لمواجهة هذه المسؤوليات الجسام التي تتحداه.

نيويورك

عمر حليق