مجلة الرسالة/العدد 996/من أثار السيدة زبيدة
→ هل المسيحية في ازدهار؟ | مجلة الرسالة - العدد 996 من أثار السيدة زبيدة [[مؤلف:|]] |
درس مطالعة. . ← |
بتاريخ: 04 - 08 - 1952 |
للأستاذ المغربي
قال محمد بن علي العبدي للخليفة القاهر وقد سأله يوما أن يحدثه عن السيدة زبيدة: كان من فعل زبيدة وحسن سيرتها في الجد والهزل ما بارزت فيه على غيرها.
فأما الجد والآثار الجميلة التي لها في المملكة فهي حفرها العين المنسوبة أليها في الحجاز. وتمهدها الطريق لمائها في كل خفض ورفع وسهل ووعر من مسافة أثنى عشر ميل، حتى بلغت بها مكة. وأنفقت عليها ألف ألف وسبعمائة دينار ولها كثير من أمثال هذا العمل العمراني.
هذا في الجد. وأما في الأمور التي تتباها بها الملوك في أعمالهم، وينعمون بها في أيامهم، وتزين بها سيرهم وأخبارهم. فهو أنها:
أول من أتخذ الآلة (أي أدوات البيت وأمتعته) من الذهب والفضة المكلة بالجوهر. وصنع لها الصناع الرفيع من الوشى حتى كلف الثوب نحو خمسين ألف دينار.
وهي أول من أخذ (الشاكلية) من الخدم والجواري يركبون الدواب ويغدون ويرحون برسائلها وحوائجها
وأول من أتخذ القباب على الهوادج من فضة وآبنوس وهندل، لها كلايب من الذهب والفضة، وهي ملبسة بالوشى والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. واتخذت النعال المرصع بالجوهر. واصطنعت الشمع من العنبر. وقلدها أغنياء الناس في ذلك جميعا.
ولما أفضت الخلافة إلى أبنها (الأمين) قدم الخدم وآثارهم ورفع منازلهم ككوثر وغيره من خدمه، فلما رأت أمه شغفه بهؤلاء الغلمان المماليك اتخذت الجواري الحسنان المقودات وعممت رؤسهن، وجعلت لهن الطرز والأصداغ والاقفيا (لعلة يعنى الشعور تجمع على القفى بشكل خاص مؤنق) وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق (وهي من ألبسة شباب الجند وغلمان العسكر) وأرسلتهن وهن بهذا الزي إلى أبنها (الأمين) فراقت شكلهن. وأبرزهن في مجلسه أمام الخاصة والعامة وشاع أمر هذا الزي في الناس فجعلوا يتخذون الجواري المطمومات (أي المقصوصات الشعور من طم الشعر إذا جزة أو عقصة) ويلبسونهن ملابس الغلمان: من أقبية ومناطق وسموهن (الغلاميات).
وقد اكثر وراء ذلك الزمن من وصف هؤلاء الغلاميات وفي طليعتهم أبو نؤاس
ويظهر أن اتخاذ هؤلاء الجواري الزي المذكور لم يكن بواسطة اللبوس من الثياب وطم الشعر فقط بل يتعدى إلى تصفيف الشعر كما يفعل الغلمان والى تخطيط شوارب من المسك والغالية والعبير على الشفة العليا تقليدا للشوارب الطبيعة. وقد أشار إلى ذلك أبو نؤاس بقوله:
حور طلعن مؤنثا ... ت الدل في زي الذكور
أصداغهن معقربا ... ت والشوارب من عبير
والعبير أخلاط من طيب تداف بالزعفران، فالجارية كانت تلبس لبوس الغلام وتخط على مواضع الشوارب خطا من العبير وفي لونه شقرة فيبدو كشارب الغلام أو ل ما يبدو وهو بعد أشقر أو أصفر، أما مواضع الصدغ من الجارية فلا يكون عليه شعر السالف مسترسلا أو سبلا كسوالف الجواري وإنما هن يقصصن ذلك الشعر ويلونه على شكل العقرب، أو لعلهن يكوين شعر الصدغ كما تكوى الشعور اليوم بحدائد خاصة. فالغلمان كانوا يومئذ يتخذون من شعر أصداغهن كهيئة العقرب. والجواري المتشبهات بهم كن يفعلن ذلك، فإذا نظرت لوجه الواحدة منهن أول ما يقع نظرك على أصداغ غلام وشوارب غلام ومن هنا كثر في لغة الغزل قول الشعراء معقرب الصدغ وعقرب الأصداغ ولا يكون ذلك على ما يظهر في الغزل بالغلمان الذين لهم على أصداغهم شعر ملوي ومثني على نفسه بحيث يمثل للرأي عقرب أسود يلسع. أما الجواري فليس لعن عقارب أصداغ، وإنما لهن أفاعي وحيات من ذوائبهن تتلوى على ظهورهن.
فلما سمع القاهر منى هذا الوصف تهلل ونادى بأعلى صوته اسقني يا غلام على وصف (الغلاميات) فبادر إليه جوار قدهن واحد توهمتهن غلمانا بالقراطق والأقبية: والطرز والأفقية ومناطق الذهب والفضة فأخذ الكأس بيده وجعلت أتأمل صفاء جوهر الكأس ولآلاء ما فيه، وحسن أولئك الجواري الغلاميات، ولمعان الحربة التي بجانبه. ثم التفت القاهر إلي وقال:
قد سمعت كلامك وكأني مشاهد للقوم حسبما وصفت وسرني ما ذكرت وفصلت ثم أمر لي بجائزة أخذتها على الفور وانصرفت
هذا ما رواه عن (محمد بن علي العبدي) المتخصص في علم الملوك كما شهد له بذلك المؤرخ المسعودي، وقد علمنا من مسامرته للخليفة (القاهر وما أفاض به من وصف (الغلاميات) واسترساله في هذا الوصف إجابة لرغبته الملحة علمنا منه أن هذا الخليفة لم يكن على ما يحبه له منصب الخلافة من عفة وصلاح وحسن سمت ووقار، اللهم ألا إذا كان هذا من قبيل الدعاية التي أذن بها المأمون، فقد روى أن بعض جلسائه سأله:
هل تأذن لنا يا أمير المؤمنين بالداعية، فأجاب:
وهل يطيب العيش ألا بها؟
(المغربي)