مجلة الرسالة/العدد 995/نقطة البدء
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 995 نقطة البدء [[مؤلف:|]] |
من المعارك الأدب السياسي ← |
بتاريخ: 28 - 07 - 1952 |
للأستاذ سيد القطب
لقيني الأستاذ الأديب الشاعر محمد فهمي وقد قرأ مقالي الأخير في الرسالة بعنوان: (إلى النائمين في العالم الإسلامي) فقال في شيء غير قليل من الحدة والضيق: لمن تكتبون هذا الكلام؟ وما قيمة توجيهه إلى شعوب كاملة من الأميين الذين لا يقرءون ما تكتبون؛ والقلة القلية التي تقرأ لا تملك أن تصل بكتلة الشعوب، لأنها شعوب جاهلة لا تدري شيئا مما حولها، ولا تستطيع شيء حتى لو درت، لأن الحياة في هذا العصر تريد شعوباً متعلمة وإلا فالموت والذل للأميين. . .
واستمعت إلى ثورته. . إن فيها كثير من الحق. وإن كان لهذا الحق بقية هي التي أردت أن أعرضها للناقد الثائر، لولا أنه لم يمهلني. لقد ارتفع صوته بالسخط، وأنا لا أريد أن أسترسل في مناقشة الساخطين الثائرين!
نعم. نحن في حاجة إلى توجيه حملات ضخمة لنشر التعليم في العالم الإسلامي كله نشراً سريعاً في خطوات جازمة حازمة، لا تسير بخطوات السلحفاة، نحن في حاجة إلى توجيه هذه الحملات لا إلى اليمن مثلاً حيث يحارب التعليم كما تحارب المخدرات، أو أشد وأعنف، لأن المخدرات هناك لا تقاوم، ونبات (القات) المخدر يزرع في كل مكان، ولا تفكر الدولة في مقاومته كما تفكر في مقاومة التعليم، ولا تطارده كما تطارد المتعلمين!
ولا إلى الحجاز ونجد حيث لا تبلغ ميزانية التعليم كلها ربع ميزانية فرد؛ ولا ينفق عليه عشر ما ينفق على السيارات والكماليات والعطور.
ولا إلى بلاد الشمال الإفريقي حيث يقف الاستعمار سداً في وجه الثقافة، حتى لتعد الكتب والمجلات محظورات، تهرب داخل طرود سرية، خيفة أن تثير شبهات الجمارك والبريد!
نحن في حاجة إلى توجيه تلك الحملات لا لمثل هذه الأصقاع في العالم الإسلامي، بل إلى مصر التي تعد أكثر بلاد العالم الإسلامي تقدماً من هذه الناحية، إذا استثنينا لبنان، ونسبة التعليم فيها أكثر ارتفاعاً.
نعم في حاجة أن نوجه تلك الحملات إلى مصر التي تعطي وكلاء الوزارات والمديرين العامين بدل سيارات، يتراوح شهرياً بين ثلاثين وأربعين جنيهاً ثم تخفض ميزانية التعليم إلى الثلث بحجة التقشف! مصر التي تبعثر معظم ما تملكه من العملة الصعبة في شراء السيارات الفاخرة ثم لا تجد ما تشتري به مصانع أو آلات زراعية ميكانيكية أو آلات صناعية، أو حتى أدوات صحية، لأن ما لديها من العملة الصعبة محدودة! مصر التي يتعطل ثلاثة أرباع سكانها عن العمل، لأن مرافق العمل فيها محدودة ولا تملك توسيع مرافق العمل هذه، لأن ميزانيتها تحوي ملايين الجنيهات لشراء أثاث فاخر، وشراء يخوت فاخرة، وحضور ولائم ومؤتمرات ونزهات للمحظوظين!
لقد قال لي محدثي الثائر: دعوا الاستعمار لا تحاربوه الآن. نحن لا يهمنا أن يكون في أرضنا مليون من الجيوش الاستعمارية. إذا كان لدينا عشرة ملايين فقط من المواطنين المتعلمين. إن ألمانيا بالجيوش الروسية والأمريكية والإنكليزية والفرنسية، ولكن الجميع يترضونها، لأن الشعب الألماني شعب متعلم، لا يمكن أن تحكمه جيوش المستعمرين. .
وقال: دعوا الكفاح الاجتماعي لتعديل الأوضاع الاقتصادية - وحتى الدستورية - فهذه الأوضاع التي تشكون منها ستعدل نفسها بنفسها يوم يستحيل الشعب المصري أو أي شعب عربي أو إسلامي إلى شعب متعلم. .
كنت أريد أن أفهم محدثي أن هذا كله صحيح، ولكن هنالك أشياء أخرى يجب أن تكون في الاعتبار. لولا أنه لم يترك لي فرصة للكلام؟
نعم. إن الاستعمار لا يملك أن يعيش في بلد متعلم. . نعم إن الحرمان لا يمكن أن يدوم في شعب متعلم. . نعم إن الطغيان لا يمكن أن يقوم في وطن متعلم. . نعم. كل هذا صحيح؛ ولكن بقي أن نعرف: من هو الشعب المتعلم؟ ومن هو الفرد المتعلم؟
إنني أومن بقوة المعرفة. أومن بقوة الثقافة. ولكني أومن أكثر بقوة التربية. . .
إنني أنظر في تاريخ الاستعمار، فلا أكاد أجد له إسنادا إلا من المتعلمين. . كل الرجال الذين قدموا للاستعمار خدمات ضخمة. الذين مهدوا للاستعمار ومكنوا له. الذين كشفوا له عورات البلاد ومقاتلها. الذين تولوا عنه تحطيم معنويات الوطن وقواه الكامنة. الذين جعلوا أنفسهم ستاراً لمساوئ الاستعمار ومخازيه. . كلهم. . كلهم كانوا من المتعلمين!
كذلك كان الذين مهدوا للطغيان وأعانوه استمرءوا سلطان الجبابرة وهم يؤدون ضريبة الذل والعبودية الذين استغلوا النفوذ للإثراء على حساب الشعب. الذين أفسدوا ضمير الشعب بالمحسوبية والرشوة والسرقة والغش. الذين خانوا الوطن والأمانة والخلق والضمير. . كلهم كانوا كذلك من المتعلمين!
نعم. إنه لو كانت الشعوب أو كثرتها من المتعلمين ما أمكن للسماسرة أن يسلموا البضاعة بهذا اليسر وهذه السهولة. هذا صحيح. ولكنه صحيح كذلك أن (الصنف) المتعلم الذي تخرجه المدارس في بلادنا اليوم، ليس هو الذي يقف في وجه التيار، وليس هو الذي يستعصي على السماسرة، بدليل أن كثرته يجرفها تيار العبودية والذل والفساد، دون أن ترفع رأسها، ودون أن تدافع عن كرامتها، بل عن إنسانيتها. . إن أنشودة (أكل العيش) هي النشيد القومي للجميع! وأكل العيش ممكن في ظلال الكرامة لو أرادها الجميع.
إن التعليم الذي نزاوله في مصر، ومعظم البلاد الإسلامية، تعليم فاشل، بل تعليم قاتل. إنه تعليم بلا تربية، بل تعليم يكافح التربية. إن المدارس والجامعات تخرج لهذه الأوطان فتاتاً آدمياً وحطاماً بشرياً. تخرج له عبيداً. نشيدهم القومي الخالد هو أنشودة (أكل العيش)!
لست أنكر على الشباب المتعلم أن يطلب رزقه، فالحياة لا بد أن تعاش. والمال عصب الحياة. بل لست ألوم هذا الشباب المتعلم، فلو وجد هذا الشباب أجيالاً من الأساتذة الصالحين، وتقاليد من النظم الصالحة، لكان أفضل شباب الأرض. ولكني أقرر الحقيقة المؤلمة، حقيقة أن معاهد التعليم في مصر كلها وفي معظم البلاد الإسلامية الأخرى. . لا تخرج رجالاً أحراراً بقدر ما تخرج عبيدا أرقاء. ولا تخرج شخصيات متماسكة بقدر ما تخرج فتاتاً آدمياً وحطاما بشرياً. . . إنها معاهد خاوية من الروح. . وهذا مفرق الطريق.
إن نظم التعليم وخططه ومناهجه وكتبه. . وأخشى أن أقول أساتذته. . لا يمكن أن تخرج رجالا أحراراً مفكرين مستنيرين. إلا الشواذ الذين يكافحون الجهاز التعليمي كله ويخرجون من براثنه سالمين.
ولقد كان ذلك قائما قبل تلك الفوضى الأخيرة، التي سميت (مجانية التعليم). إن التعليم كان يجب أن يكون بالمجان. وكل بلاد العالم المتحضر التعليم العام فيها مجان. ولكن المجانية شيء والفوضى شيء آخر. والذي حدث والذي تحقق هو الفوضى. أما المجانية فليس فيها قولان فقط، بل عدة أقاويل!
لقد كان الآباء يدفعون عشرة جنيهات للمدرسة الابتدائية أو عشرين جنيهاً للمدرسة الثانوية؛ فتقوم عنهم بتعليم أبنائهم، ذلك التعليم الخاوي من المثل الخاوي من الروح. . فأصبحوا اليوم مكلفين - من استطاع ذلك منهم - أن يدفعوا للدروس الخصوصية عشرين أو ثلاثين أو خمسين جنيهاً ليحصلوا لأبنائهم على النجاح في الامتحانات، لا عن طريق التعليم الخاوي من المثل الخاوي من الروح. بل عن طريق اطلاعهم على أسئلة الامتحان وتيسير الغش فيه!
إنها الكارثة. الكارثة المضاعفة التي تربي على ما كنا فيه
إن التعليم الذي نزاوله، والذي كنا نزاوله قبل حكاية المجانية الزائفة؛ ليس هو الذي يؤدي إلى كفاح الاستعمار، وكفاح الطغيان، وتعديل الأوضاع الاجتماعية المخلة بكرامة الإنسان. .
إن التعليم لكي يؤدي مهمته هذه يحتاج إلى تعديله من أساسه. . ومما يؤلم النفس إن هذا التعديل لا يحتاج إلى مال غير الذي ننفقه. وقد لا يحتاج إلى رجال غير الذين يزاولون اليوم مهمة التعليم. ولكنه يحتاج فقط إلى إيمان بهذا التعديل الشامل، وإلى عقليات قليلة ناضجة تشرف على التنفيذ. .
أم لعلني أمام عقدة العقد، وأنا أحسبها من الهين اليسير؟!
ألم أحاول مرة أن أغير نظام دراسة اللغة العربية ليقام على أساس سليم عام 1943 ففشلت. وكان الأمر يومها متروكاً إلى سعادة المستشار الفني الدكتور طه حسين؟!
ألم أحاول مرة أن أغير نظام دراسة التاريخ ليقام على أساس سليم عام 1947 ففشلت وكان الأمر يومها متروكاً إلى معالي الوزير المعارف الدكتور عبد الرازق السنهوري؟!
ألم أحاول عشرين مرة - بعد عودتي من البعثة إلى أمريكا - أن أنشئ لوزارة المعارف أداة فنية صحيحة، تقيم نظم التعليم ومناهجه على أساس سليم، ففشلت في هذه المرات كلها فشلاً ذريعاً؛ لأن المراد في هذه المرة كان إصلاحاً في الصميم؟!
لقد أفلح الاستعمار في تطعيم عقلية وزارة المعارف بالميكروب الثابت. . إنه يبدو دائماً في صورة كبار الموظفين!
نعم يجب أن ينتشر التعليم؛ ولكن أي تعليم؟ يجب أن يقوم هذا التعليم على أسس ثقافية سليمة، وعلى أسس تربوية سليمة. نعم وينبغي أن تكون له مثل، وأن تكون به روح.
وإلى أن يقيض الله لوزارة المعارف رجالا يؤمنون بهذا ويقدرون في الوقت ذاته على مقاومة الميكروبات الاستعمارية الكامنة في وزارة المعارف، في صورة كبار الموظفين!
إلى أن يقيض الله لوزارة المعارف أولئك الرجال، فليس أمامنا لمكافحة سموم الأجهزة التعليمية الحاضرة إلا المحاضن الخاصة، التي تتلقف الشباب الضائع، والحطام المفتت، فتعيد صياغته في قوالب جديدة سليمة، وفي جو روحي نظيف. لترد هذا الشباب الضائع الحائر رجالا كراماً على أنفسهم، كراماً على أوطانهم، كراما على ربهم. . .
وهذا ما يحاوله. . الإخوان المسلمون. .
سيد قطب