مجلة الرسالة/العدد 995/نظرات خاطفة
→ أبو هلال العسكري | مجلة الرسالة - العدد 995 نظرات خاطفة [[مؤلف:|]] |
الإسلام وحياتنا العامة ← |
بتاريخ: 28 - 07 - 1952 |
شاعر السودان
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
وهذا شاعر آخر من السودان، القطر الذي فتنت بنبل كرم أهله، وسموا أخلاقهم، وعروبتهم الأصلية، القطر العربي الأفريقي المصري الذي ظلت قيود الاستعمار البغيض تعض ساقية سنوات طوالا، وسوطه يلهب بالظهور، ويدمي الرقاب، وهو ثابت كالطود الأشم يكافح ويناضل في سبيل استقلاله وحريته، والمحافظة على لغته الأصلية، لغة القرآن الكريم، دون أن يلين آو يستكين، وبين حين وآخر يلتفت نحو منبع النور والثقافة والحرية ليهتف على لسان شبابه المتوثب:
أملي في الزمان مصر فحيا ... الله مستودع الثقافة مصرا
نصر الله وجهها فهي ما تزداد ... ألا بعداً علي وعسرا
إنما مصر والشقيق الأخ السود ... ان كانا الخالق النيل صدرا
لا رغبنا ولكن دهراً ... ناوأتنا صروفه كان دهرا
في هذا القطر المترامي الأطراف والجوانب، والشاسع الحدود، الذي يعيش فيه أهلوه واكثر شبابه غرباء الروح والفكر، يظهر بين فترة وأخرى فنان يعيش لأجل فنه يرى بعينه آلام شعبه، فيحرق نفسه بخوار لينير لهم السبيل القويمة لعله يوصلهم إلى محجة الخير والسعادة والكمال، ومن هؤلاء الأفذاذ الذين أنجبتهم هذه الأمة الكريمة العربية المحتد والأصل شاعر عربي النزعة مصري الهوى بدوي النفس لشعره جميع الخصائص والميزات التي يتصف بها الشعر (الكلاسيكي) الأصيل، من جزالة في الأسلوب، وإشراق في الديباجة، وجمال في المبنى والمعنى وهو الأستاذ محمد سعيد العباسي
ترجمة حياته:
كتب الشاعر تاريخه بقلمه فقال:
(أنا محمد سعيد العباسي بن محمد شريف بن نور الدائم بن أحمد الطيب العباسي منشئ الطريقة السمانية بمصر والسودان، ولدت بعز أديب ولد نور الدائم بالنيل الأبيض 33 م رمضان 1298 هجرية، ولما انتقل بي والدي في حوادث المهدية إلى الشيخ الطيب بمديرية الخرطوم شمالا وبلغت من العمر سبع سنين أدخلني مكتبا (خلوة) لقراءة القرآن عند عمي الزاهد الورع الشيخ زين العابدين، ثم تنقلت في مكاتب أخرى تبلغ العشرين عدا، وكان والدي يأمرني أثناء قراءة القرآن بحفظ متن الآجرومية صورة لي بنفسه مع متن الكافي في علم العروض والقوافي، ويعد استرجاع السودان ودخول الجيش المصري طلب (كتشنر) من والدي إلحاقي بالمدرسة الحربية المصرية فدخلتها يوم 28 مارس 1899 وبعد سنتين استعفيت لأني رأيت أن لا أمل لي في الترقية وإن كنت أول الناجحين في الامتحان) ثم يسترسل المترجم فيذكر أساتذته الذين ثائر بهم فيقول: (إن أولهم كان أباه الذي حثه على حفظ أشعار الفحول القدامى ثم أستاذة الجليل المرحوم الشيخ عثمان زناتي الذي كان في طليعة الشعراء والأدباء في زمانه ومن رثائه له يستبان لنا ذلك حيث يقول:
فيا رحمة الله حلى بمصر ... ضريح الزناتي عثمانية
غذاني بآدابه يافعا ... وقد شاد بي دون أترابية
ويا شبيه الحمد إن القريض ... اعجز طوقي وأعيانية
أعرني بيانك اسمع به الأ ... صم، وانطق به الراغية
وهذا كل ما يعلمنا عنه الشاعر من سيرته التي كتبها بقلمه ولكننا لو رجعنا إلى مقدمة الكتاب التي كتبها الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك نراه يوضح المميزات الخاصة بشعر العباسي وتأثره بالحياة المضطربة التي عاشها في السودان والحوادث السياسية التي تعرض لها والتي صحبته في أواخر القرن المنصرم، قال:
(فالسيد العباسي إذا صدح في شعره أحسست في موسيقاه أصداء أناشيد الشريف الرضى إذ تتردد في شعره حرارة السرة السادة الذين يحسون مسئوليتهم في المجتمع، وتجمع معها نغمة أخرى من كرامة السادة الذين يحسون قصر اليد عما يريدون، وإذا كان شعر السيد يمثل لنا ديباجية موسيقى السيد الكريم فإن فيه ألواناً أخرى تذكرنا بأرواح يملؤها الطموح وتتقد فيها حرارة القلب القوى الذكي إلى فن الشاعر الذي يغوص إلى اعمق المعاني ويصورها في ابرع اللوحات. ثم هو في ديباجته فذ لا يكاد يجد. الناقد عديلا ألا في عباقرة الشعراء من قدماء ومحدثين وإذا أردنا نحن أو أردنا ناقد آخر أن يكشف للقارئ عن تلك التي أشار أليها الأستاذ أبو حديد فهل يستطيع، أما أنا فأقول بالإيجاد، ومن قرأ له مثل هذه الأبيات:
إلى كم أمنى النفس مالا تناله ... يجوب الفيافي وادراع الفدافد
وقد رقد السمار دوني فهل فتى ... يعير أخا البأساء أجفان رافد
فيا نفس أن رمت الوصول إلى العلا ... ردى قسطل الهيجا وغمرتها ردى
أما ويمين الله وهي أليه ... تقال فتغنى عن يمين وشاهد
سأصفح عن هذا الزمان وماجني ... متى ظفرت كفاي منه بماجد
وإن ألقه بعت الحياة رخيصة ... وآثرته باثنين: سيفي وساعدي
وقوله:
ما أعجب الأيام كم دفعت بنا ... في ذي الحياة لشدة ومضيق
أنا في زمان عشت فيه بمعشر ... يجزي الجميل لديهم بعقوق
طرحو المهند للعصاو استبدلوا ... بالأمس تغريدي لهم ينعق
مادمت سباقا فليس بضائري ... أبدا مقال مدفع مسبوق
لاشك في أن الروح التي كانت تعتلج في أجساد الشعراء السادة الفحول من شعراء العرب وخصوصا الفرسان هي نفسها التي كانت تضطرم بين جنبي شاعرنا العباسي إبان نظمه للأبيات الآنفة الذكر. ولا غرو فالعباسي كان من أرباب السيف والقلم وقد خاب في مضمار السيف فتركه ليبرع في الشعر أسوة بشاعر النيل حافظ إبراهيم. . على أن حافظا كان رحمه الله فقير محتاجا فكان يحس في أعماق نفسه بالمجاعة فأراد أن يكون شاعر القصر عساه يتمتع بمباهج الحياة في ظل القصور الفارهة الناعمة. . ولما خاب أمله اتجه إلى الشعب ليسكب ثورة نفسه وألم خيبته في الشعر الذي كان يعبر به عن آمال نفسه 0 أما العباسي فقد كان مكتفيا وكانت المادة متوفرة لديه فلجأ إلى الشعب يخاطبه بشكل آخر، شكل السيد الآمر، والزعيم المضطهد، لذلك جاءت في شعره أقباس من طموح الزعماء، وآلام من ثورة الأحرار الذين رغم انصرافهم إلى السياسة وأمور الدنيا لم ينسوا أخرتهم ودينهم لتأثير الناحية الدينية عليهم منذ نشأتهم.
البقية في العدد القادم عبد القادر رشيد الناصري