الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 995/دماء الشهداء

مجلة الرسالة/العدد 995/دماء الشهداء

بتاريخ: 28 - 07 - 1952


عروس الجنة

للأستاذ عمر عودة الخطيب

- 1 -

(في تاريخنا الزاهر دماء زكية خالدة خطت آية المجد الكبرى

ورسمت حدود عالم إسلامي واسع)

ع

جلس (أبو عامر بن صيفي) ومن حوله فئة من شباب (الأوس) قد غلظت أكبادهم، وقست قلوبهم، ورسمت المعارك التي خوضوها مع أعدائهم آثارها في وجوههم الكالحة المربدة. جلسوا مطرقين يسودهم صمت ثائر قلق. . . وكانت عيونه ترمق زعيمهم (أبا عامر) بنظرات ملؤها الإكبار والإجلال، ولكنهم لفرط مهابتهم له، وخضوعهم لسطوته، لم يجدوا من أنفسهم الجرأة في النظر أليه، والتبسط في الحديث معه، بيد انهم يعلمون أن من واجبهم أن تكون أيديهم دائما على مقابض سيوفهم ليسلوها من أغمادها إذا ما بدرت من زعيمهم أي إشارة لهم.

وكانت المدينة - إذا ذاك - تضج بالتكبير، ويتعالى في جنابتها هتاف يشق عنان السماء من هذه المواكب الفرحة التي زحفت إلى ظاهر المدنية وتسلقت أعلى النخيل، ترمق الأفق البعيد وترنوا إلى قافلة النور والإيمان. . . التي خرجت من مكة مهاجرة في سبيل الله. وتناهت إلى أسماع أبي عامر وأتباعه في مجلسهم ذاك، أصوات ناعمة رقيقة كأنها تسبيح الملائكة في الملأ الأعلى. فوقف (أبو عامر) يستطلع الأمر نبأ هذه الأصوات ووقف من حوله فتيانه ينظرون، فرأوا صبايا يثرب بأيدهم الدفوف، يسرون في موكب حافل جذلات غردات. . . وهن يرتلن نشيدهن الساحر:

طلع البد علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع

وجلس أبو عامر وقد زادته هذه المواكب الطرية حنقا وحقدا، ونظر إلى اتباعه وفي صدوره مرجل يغلي (نار تشتعل. . وقال: (لقد جاء محمد إذا) وصمت قليلاً شأن من يفكر في أمر خطير ثم قال (واللات والعزى لن نتركه يجد في يثرب الراحة والاستقرار. . .) وأمن اتباعه في كلامه، وسلوا سيوفهم ورفعوها في الهواء، إيذانا بإعلان الحرب على محمد. . وانفرط عقدهم، وانصرفوا إلى بيوتهم. . وقد بيتوا أمرا.

(2)

دخل (حنظلة بن أبي عامر) وكانه شاب ريق الشباب، جاري العود، غض الأهاب، فألقى أباه غارق في تأمله، يصعد بين فترة وأخرى زفرات حرى تنم عما يعتلج في قلب صاحبها من هم وكمد. . وكانت اساريره تفضح ما في نفسه من حقد وثورة. . فوقف حنظلة غير بعيد منه وألقى عليه تحية المساء، فلم يشعر به ولم يلتف أليه. . ثم ضرب بقبضته على فخذه وصاح كالمحموم (كلا! كلا! لن تكون أرض يثرب لمحمد موطنا سهلاً!!) ورفع رأسه فرأى أبنه حنظلة واقفا، فنظر أليه نظرات صارمة كأنها جمرات الجحيم ثم قال:

- أهذا أنت يا حنظلة! اين كنت وقد انقض السامر وغاب القمر!

- كنت في دار أبي أيوب الأنصاري أستقبل محمد وأحييه. لطالما تاقت نفسي أليه، وحنت روحي إلى لقائه. . كنت قبل أن أراه كسالك البيداء. . تحرقه شمسها، ويلفحه غبارها، ويغمره ظلامها، وتعييه رمالها. . فلما أبصرته رأيت النور الإلهي بشراً سويا؛ تحف به الملائكة الله، وترعاه عناية السماء. . وحين مددت يدي أليه وصافحني - روحي فداء له - ذهلت عن نفسي، ورأيتني طائر ترفرف بجناحيه في رياض الخلد. . فأويت إلى ظل محمد. . ونسيت متاعب الصحراء سمع أبو عامر كلام أبنه؛ فقام كمن يتخبطه الشيطان من المس ثم قال:

- ويل لك يا حنظلة! أو قد صبأت! أكفرت بآلهتنا؟ هل سحرك محمد فنسيتني وعصيتني؟ كيف ألقى بعد اليوم فتيان الأوس وقد جاء لمي العار؟!

- لقد آمنت بمحمد (ص) منذ بعثه الله وكفرت بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تغنى من الحق شيئاً. . . لقد طهرتني رسالة السماء من الجاهلية. . وأخرجني محمد من الظلمات إلى النور. . وسكب في روحي أيمانا يشع بالخير والنقاء. . وعلمني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. . وإن المسلم في الدنيا خليفة الله بالأرض. . ينشر رسالته ويعلي كلمته. . وأنا أدعوك يا أبت إلى نبذ عبادة الأصنام، والإيمان بالله الواحد القهار. . بارئنا وقيوم السماء والأرض. وسكت أبو عامر قليلا ثم اصطكت أسنانه، وتلاحقت زفراته وقال:

- ماذا آري! ماذا اسمع؟ رحماك أيتها الآلهة! أغرب عن وجهي يا حنظلة. . فلا أراك بعد اليوم، وليس لي منذ الساعة بيثرب مقام.

ثم لبس رداءه وحمل سيفه، وامتطى راحلته، وصفق الباب وراءه صفقة عنيفة وأنطلق

(3)

ومرت سنتان ونصف. . حتى كانت تلك الليلة التي استوى فيها القمر بدرا، وملأ الكون نورا. وقد أنصرف حنظلة من المسجد فرحا يرقص قلبه طربا، وبعد أن بارك رسول الله زواجه بفتاه من الأنصار. . سار في أزقة المدينة، يحيط به أقربائه من الفتيان والبشر يملأ وجوههم؛ والسعادة ترفرف عليهم. . سارو يزفون حنظلة إلى فتاته في عرس لم تشهد المدينة له مثيلا. . فكان الفتيان يهتفون، والنساء يزغردن، وحلت الفرحة كل بيت. . لأن حنظلة حبيب إلى كل قلب، لما حباه الله من رقة في الشمائل، وكرم في المعشر، ونبل في الخلق. . إذا كانت الأصنام قد حرمته في مثل هذا اليوم حنان الأب وفرحته، فقد حباه الإسلام حنان كل أب في المدينة وعطف كل أخ. . فلا عليه أن يهنأ ويسعد وقد غدا الإسلام له أبا وأم. زف حنظلة إلى عروسه وكانت فتاة صنعتها رسالة محمد، فأقبلت عليه تتعثر في أثوابها، فحف أليها يستقبلها، فأفتر ثغرها الحلو عن ابتسامة عذبة أسرت قلبه، وملكت عليه لبه؛ لأنها ابتسامتها الأولى لرجل 0 فما عرفتها المدينة ألا فتاة عفة نقية، كالزنبقة المغلقة تنشر الشذى من خلف أوراقها البيضاء الندية. ونام حنظلة ليلته هانئا ناعم البال. . ورأى نفسه مع بعض إخوانه في روضة جميلة ضاحكة. . موشاة بالزهر، مضمخة بالعطر، تجري من تحتها الأنهار. . وتخطر في ورودها الحسان، وهن يوقعن أعذب الألحان. . وأفاق من غفوته وقص على عروسه حلمه الجميل. فابتسمت له وقالت: سيتحقق حلمك يا حبيبي. . وكادت يده تلامس يدها حتى سمع منادي رسول الله ينادي بالخروج إلى العدو في أحد؛ فنظر أليها ونظرت أليه، ثم وضع ثيابه عليه وحمل سيفه وودعها. فانحدرت من مقلتيها دمعتان. . ولم تفارقها ابتسامتها.

(4)

خرج من صفوف المشركين فارس على جواد مطهم، وبيده سيف ثقيل يهزه هزات عنيفة، وينادي بصوت جهير. . كأنما يريد أن يجتاز به السهوب، ويزلزل القلوب. . ليصل إلى يثرب. . بلدته فارقها منذ أمد بعيد، بعد أن قطع على نفسه عهد أشهد عليه اللات والعزى، إلا يترك محمداً يجد في يثرب الراحة والاستقرار نادى في المعركة) (يا معشر الأوس! أنا أبو عامر) فإذا بأصوات المؤمنين القوية المرعدة تصك مسمعه بقوة وعنف: (لا مرحبا بك) وسمع حنظلة صوت أبيه. . ذلك المشرك الذي يحارب الله ورسوله، ويكيد الإسلام؛ فلم يسمعه صوت أب وإنما سمعه صوت مشرك يتحدى المسلمين فأخذته عزة الإسلام فهب يستأذن رسول الله في قتل أبيه فنهاه رسول الله عن ذلك فرجع كئيبا ينظر.

ولما أنكشف المشركون رأى حنظلة أبا سفيان قائد جيش المشركين. . يسير مزهوا يميل برأسه تهيا وكبرا. فأنقض عليه وضرب بسيفه قوائم فرسه فوقع على الأرض يصيح، وحنظلة يريد ذبحه، ولم يكد يرفع السيف ليهوى به على هامة أبي سفيان، حتى أدركه (الأسود بن شعوب) فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ولكنه وثب كالأسد ومشى في الرمح وقد أثبته، فعالجه الأسود بضربة ثانية فخر صريعا.

وقبل أن يغمض عينيه. . تذكر عروسه وهي تبتسم له وتقول: سيتحقق حلمك يا حبيبي. . ورآها وقد انحدرت من مقلتيها دمعتان. . ولم تفارقها ابتسامة. . ورأى رسول الله يقبل نحوه. . فتعلق بالحياة وهم أن ينهض لاستقبال رسول الله ولكنه وقع على الأرض. . وقبل أن تفيض روحه سمع رسول الله ﷺ يقول لأترابه. . بصوت تقطعه الحسرات. . (إن صاحبكم هذا تغلسه الملائكة)

جبلة - سوريا

عمر عودة الخطيب