الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 995/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 995/الكتب

بتاريخ: 28 - 07 - 1952


في حياة الفن

أم كلثوم

تأليف الأستاذة نعمات أحمد فؤاد

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

الغناء روح النفس، وروح القلب، يزيل الشجو بالشدو، ويبعد الآلام بالأنغام، وإذا تواءم الصوت المعبر، واللحن المصور، كان التحليق والسمو. ولعل أجل المواهب ما تعاطف (المشاركة الوجدانية) وما تؤالف النزعات الإنسانية، فالشعر، والغناء، والموسيقى، يكمل بعضها بعضاً في موكب الفن الرفيع، فالموهوبون في هذه الألوان ينغمون المشاعر، ويشاركون الأفئدة في اتجاهها الوجداني. والتعبير (فن) قبل أن يكون أداء. وقد أودع الخالق في الحواس القدرة على التذوق؛ فالأذان موصلة التناغيم في تأثر وانعطاف وإشباع، وهي صادقة الحكم ما دامت تتفاعل معها مثيرات الوجدان، لذلك عظم شأن التغني وارتفع قدر اللحن. أليست اللغة في أول أمرها أصواتاً؟ أليس التعبير عن الإحساس كان مقاطع ساذجة تدل على الغرض؟

بلى، فالصوت أصل أصيل في قوة التأثير والتأثر، و (الأوتار) الواهبة جمال الصوت ثروة إلهية أودعها المبدع الأعظم لتكون نعمة من نعمه الجليلة! وإن النعمة الممنوحة للشرق المكدود ممثلة في صوت (أم كلثوم) الذي يسري عن النفوس أوجاعها، ويسري في الحنايا سريان الكهرباء؛ فيؤثر تأثير السحر. . . لقد تسمعت إلى الكبد الحري التي كانت ترسل في التياع (يا آسى الحي هل فتشت في كبدي) وكنت في استهلال صبوبي أجنح بخيالي الصغير إلى عالم روحي بحت، وعشت في هذا اللحن أنهنه الأنة في صدري؛ فترسل الزفرة، وتريق العبرة، وأحسست في أعماقي أن الشادية خالدة، لأن تعبيرها (فني)، لا ترسل الكلمة مرتجلة اكتفاء بالصوت العذب، والتغريد الآسر، فكأنها تعرب ما يطرب؛ وتراعي مخارج الحروف الدقيقة مراعاة فيها العجب العجاب. وهذا هو الفرق بينها وبين سواها وهو عينه ما دعا الأديبة (نعمات أحمد فؤاد) أن تعرض لحياة (أم كلثوم) في دقيق، أنيق، شائق، رائع.

لقد تميز أسلوب هذا الكتاب بالأصالة التعبيرية الفنية؛ فليس ثمت حشو، ولا إملال ولا صنعة. بل توافق، وتساوق، واتساق في أناقة شعرية ترف بين السطور فتلمع إلى الذوق الكتاب والكاتبة!

عرضت الأديبة حياة المفتنة المبدعة عرضاً في صدق وإخلاص وصفاء، ولهجت بوفاء (أم كلثوم) في غير موضع مما يدل على نقاء النفس، وطيب السيرة، وألمعت إلى (تحفظها) واستحيائها وانطوائها؛ ثم انطلاقها، ومسايرتها، وانفعالها في تحفظ وتوقر وأناة - وقد استغرق الحديث عن هذه النواحي نصف الكتاب ولا غرو فهو تأريخ فني يستدعى الإفاضة، والاسترسال والإيضاح.

هذا النزوع الفني من الأديبة دال على تأصل في الفهم وانفعال بالفن ومظاهره، لكنها أهدت الكتاب إلى (قيثارة الله) وهذه الإضافة لا تقع في نفسي موقع القبول، وكان في مقدور الكاتبة أن تهديه إلى (منحة الله) أو (هبة الله) أو ما أشبه التسمية التي تؤدي القصد من دون تحرج ولبس. ولا يقال إن للفن تعبيره الذي لا يتقيد بقيود، فهو متصل بالروح المجرد، لأن الأديبة قالت في موضوع آخر معبرة عن رأي (أم كلثوم) في حقيقة الفن (والفنان) فاهمة تعابير (الخيام) أنه: (إذا استشف فاعل المنكر ما وراء الأشياء، وشرب الخمر شاربها بعقيدة أنها تخلصه من عالم المادة وتساعده على النفاذ والمضي إلى ما وراءها؛ فهو ليس بآثم بنظر الفن) ثم تقول في موضوع آخر ص 130: (الفنان كالصوفي لا يتحرج من الأشياء تحرجاً ظاهراً كتحرج الفقيه؛ بل الخيرية والشرية عنده تتوقف على النية) هذا كلام وقفت عنده لأنه تخريج بعد عن القصد مما يتجه إليه المذهب الصوفي في أرقى مظاهره؛ فالمتصوف يتجرد عن المادة ليصل إلى الذات، وما جاء مشكلا يرد إلى الحقائق المجردة، أما (النية) فقدر مشترك لا يمكن الحكم عليه حكماً ذاتياً، وإباحة الفنان المعصية باعتماده على (حسن النية) لا يخرجه عن الإثم، فالملابسة أقوى دليل على العزم، والعزم مظهر النية ومدلولها، وهذا الاتجاه في فهم التصوف يتلاقى مع قول بعض المغرقين: (اعص الله لتعرف كيف تبكي وتعبده)!

على أن ذكر (الخمر) في الكلام الصوفي ليس القصد منه مادتها؛ بل الغرض (الغفلة عن تذكر الذات العلية)؛ ومجرد التغافل يعد إثماً لدى الخواص وخواصهم من الواصلين. . ولذلك يقول (الخيام):

أسكرني (الإثم) ولكنني ... صحوت بالآمال في رحمتك

والتعبير بقوله (صحوت) يرمز إلى مدلول التطابق في (أسكرني) المعطى معنى الغفلة لا الاحتساء!!

هذه ناحية دقيقة كنا نود أن تعرض لها الأديبة عرضاً فيه إلمام وتحر للحقيقة! ولا نشك في الإيمان العميق في قلب (أم كلثوم) إلى درجة تساميها بما تغني، وترفعها عن سوقية الأغاني وماديتها!

أما (الإيمان الواسع الأفق يتسامى عن الظهور بالتزمت والتحرج) ص 132 فلا نقر الأديبة عليه، لأن الإيمان فيه تصديق متصل بعمل، ولا نعرف مدى التسامي به إذا لم يرتفع عن الريبة ويتحصن بالتحرج!

وبعد؛ فإن هذا الكتاب تحفة فنية، تدل على استعداد فطري في صفاء الأسلوب بحسن ديباجته، وروعة أدائه، ونقاء عباراته، ولعل دراسة أغاني (أم كلثوم) هي اللامعة إلى المدى تمتع الأديبة بالذوق الرفيع!

أحمد عبد اللطيف بدر