مجلة الرسالة/العدد 994/طبيعة الحج في الإسلام
→ اتجاه الأدب الحديث إلى الطبيعة | مجلة الرسالة - العدد 994 طبيعة الحج في الإسلام [[مؤلف:|]] |
دراسة وتحليل ← |
بتاريخ: 21 - 07 - 1952 |
للأستاذ محمد فياض
(مهداه إلى الأستاذ الكبير سيد قطب)
الحج في إسلاميته الخالصة، ركن عبادي حين يتصل بالله في مناسكه وشعائره، وأقواله وأفعاله؛ وأساس اجتماعي حين يتجه بالمجموعة الإسلامية، في مؤتمره السنوي العام، إلى التنظيم والتعارف، والى توحيد القوى الفردية والجماعية، والتوجيه بها إلى شطر قبلة واحدة: عن صاحبها صدر الخلق ووجدت الحياة، واليه تتجه حياتنا كلها، بما فيها من نشاط واتجاه وأهداف.
وبهذه الصور الإسلامية للحج، تتحد وتتأصر، ضمن ما تتحدد به وتتأصر في الإسلام علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد وعلاقة كليهما بالله الذي منحهما الوجود والحياة. علاقة لا يختلف فيها باطن مع مظهر، ولا كيف مع مقدار، ومن أجل هذه العلاقات، تقوم دعائم الحج في الإسلام، منسقة منسجمة: في استعراض عام، حيث يشهد الله مالك الكون، وفي وحدة عامة تصل السماء بالأرض، والإنسانية بالكون، والعباد بالله:
والحجاز من وجهة النظر إليه، كرقعة تؤدي على اثر شعائر الحج، ما موقف الإسلام منه؟ أنه ميدان الاستعراض العام، وقاعة المؤتمر السنوي، ومحراب التوجه الوجداني ومدرسة التربية الاجتماعية. انه الأرض التي انبثق منها روح الإسلام الأول وبقيت على أرضه (الكعبة) قبله للإنسانية الراشدة، رمزية محسوسة بين العباد والرب، ومنارة معنوية للإسلام في الأرض. انه معسكر التدريب الذي يعود من رائدة، وفي قلبه حرارة وانفعال، وأمامه قلة من المشاعر والأحاسيس، بها يملك شحنات من التجاوب: على نهجها يسير، وعلى أضوائها يهتدي، في فيافي الحياة، المضللة المعقدة المختلطة المتشابكة حين يعود؛ أنه كل ذلك وأكثر منه! فكرة الإسلام عنه؟ لا: بل ما القواعد الكلية التي تركتها فكرة الإسلام، لتحدد طبيعة الحج، وترتكن عليها أهدافه؟ بل ما الوسائل التي تقر هذه الطبيعة، وتلك القواعد، وتحفز لها وجودها وكيانها، حيا منتجاً، محقق الأهداف، يلم الناس ويؤمنون بجدواه؟
تبدأ النظرة الإسلامية إلى الحج أول ما تبدأ، بتقرير القاعدة الكلية الأولى، في النق الرمزية المحسوسة التي يتوقف على اتصال الناس بالله، ووحدة الاتجاه الإنساني، فتقرر هذه القاعدة أن البيت الحرام هو الملك المختار لله في الأرض، والمقصود لتوحيد الاتجاه: لا شبر فيه ولا فتر لمخلوق، ولا سلطان لأحد عليه سوى سلطان الله وأحكامه، لأنه حلقة الاتصال بين الناس والله. ومن الصالح الإنساني أن يكون كذلك، مادام قدر له ذلك الشرف الإلهي الخاص (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيلأن طهرا بيتي للطائفتين والعاكفين والركع والسجود): بهذه الإضافة بين الياء والبيت؛ تقررت هذه الملكية، وهذه القاعدة.
وحين تتأكد في عقولنا هذه الأولى، فإن هناك قاعدة كلية ثانية تقرر أن البيت، أو المسجد الحرام، بل الحرم الأرضي الإلهي كله آمن بطبيعة الخلق التي أوجده الله عليها، آمن بطبيعة التشريع الإلهي للحج، آمن لا يجب أن يخشى فيه مسلم شيئاً، أو يخاف كائنا سوى الله، آمن يلجأ إليه أيضا من يضطهد في دينه من سائر البقاع، أو من يظلم في نفسه أو عرضه أو ماله أو اهله، ولو شاء؛ بل لقد أمن ذلك الحرم المقدس في أعرق عهود الجاهلية، أو شدها فتنا ووحشية، بل لقد أمنت حتى الحيوانات والطيور في ذلك الحرم الإلهي من اعتداء الناس، (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)، (ومن دخله كان أمناً)، (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم)، (لا تقتلوا الصيد وانتم حرم)، (وحرم عليكم صيد البر مادمتم حراما).
وإذا ما قرت في الأذهانهاتان القاعدتان، فنحن في حل، لنأخذ بالقاعدة الكلية الثالثة التي تحدد علاقة المسلمين بالمسجد الحرام، وتكشف عن سر وجوده، فتنص على أن هذا البيت، قد جعله الله ليكون بيت للجميع من المسلمين، يرجعون إليه رجوع الزائر القاصد لا المالك، لتستقر في أذهانهم وفي قلوبهم، وتسيطر على أرواحهم ونفوسهم اتجاهات الإسلام، وعلاقاته وأهدافه، ثم ليعقلوا جيدا، معنى الوحدة الإسلامية، ومعنى الاتجاه إلى البيت كقبلة، وكرمز معنوي محسوس (وإذا جعلنا البيت مثابة للناس) (أن أول بيت وضع للناس الذي ببكة).
وحين تقرر هذه الأخرى في عقائدنا، ضمن ما نحسبه من اتجاهاتنا وأهدافنا، فأن هناك قاعدة كلية رابعة بها تقرر المساواة التامة بين سائر الأفراد والجماعات، أحمرهم وأصفرهم وأبيضهم وأسودهم، ساميهم وآريهم، لا فرق، لا فرق بين فقير وغني وحتى بين عبقري وعادي. . ما دمت تجعهم كلمة الإسلام. ولكن آية مساواة؟ أنها المساواة الكلية المطلقة لا مساواة الصلاة الجزئية المحدودة، أنها مساواة الوحدة العامة، مساواة مندوبي العالم لمن شاء أن يكون مندوباً لقومه وجماعته ونفسه، دون أفضلية أو اختيار، أنها مساواة التجمع حول يمين الله في التوجه والاستهداء، واستشفاف النفس، لمعاني العلاقات الفردية والجماعية والإلهية، ومن مظاهر الحج وشعائره بما فيها من مظاهر وجموع، كل نفس بما تقدر، وعلى حد ما تستطيع بذله من إفهام ونظرات. أنها أيضا المساواة التي لا تفضل دولة على دولة ولا أسرة على أسرة ولا لونا على لون، ولا فردا على فرد، بالقرب أو بالبعد (أن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا ًوهدى للعالمين) (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد).
وبعد أن يفهم الناس هذه القواعد الأربع عن الحرم، وعن مليكته، وعن حكمة وجوده؛ وبعد أن تستقر في الأذهان، وتطمئن إليها الوجدانات والعواطف. . بعد ذلك كله تلوح في أفق فكر الإسلام القاعدة الخامسة التي من أجلها وجدت القواعد الأربعة السالفة، حتى لا يكون وجودها عبثاً ضائع الهدف بدون هذه القواعد الأربع الكلية. تلوح هذه القاعدة كالسقف مستندة على أربعة أركان لتقرر أن الناس جميعا مفروض عليهم واحد واحدا الحج إلى قبلته التي يتوجه إليها، حجة محسوسة ملموسة، منتقلة متحركة؛ مرة في عمرة - فمن شاء أن يستزيد فهذا موكل لحريته الذاتية - ما دام قد اعتنق شرعة الإسلام. الناس جميعا، بلا تفريق ولا تمييز ولا تفضيل ولا اختيار بين واحد وواحد، وجماعة وجماعة، في اللون أو المكان، والقرب أو البعد، في الزمان أو المكان؛ الناس جميعا مفروض عليهم الحج، واحدا ولحدا، ما دام مسلما، وما دام قادرا على أحداثها في عالم الواقع، قادر على تحمل نفقات الحج وتبعاته. (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وإلا، فـ (لا يكلف الله نفسها إلا وسعها).
ومن هذه القواعد الكلية تتبين طبيعة الحج في الإسلام، وتتركز تلك الطبيعة هناك، في الحرام الإلهي المقدس، حيث لا تكلف على الحاج، ولا شواغل سوى عبادة الله. بالأيمان والصلوات، والقربات والحج؛ وسوى الأستغراق في الاتصال بينه وبين الله؛ وسوى التسامي بالروح والأشواق، والانفعالات والوجدانات، المتطلعة إلى السماء؛ وسوى التطهر جهد الطاقة من النزعات الجسدية والمادية اللاصقة بالأرض. هناك في ذلك الفردوس الروضي في عالم من التحرر الوجداني؛ تتركز طبيعة الحج في الإسلام، في وحدة الاتجاه الفردي والجماعي. إلى الله صاحب القبلة والبيت، والمسجد الحرام؛ وفي وحدة المساواة الكلية المطلقة، المتجردة بين سائر أفراد المسلمين. من أي لون، ومن أي شعب، وعلى أي درجة من الوعي والاستعداد والعلم.
وعلى هاتين الوحدتين تتحدد وتتأصر علاقة الفرد بالجماعة وبالعكس، وعلاقة (2) كليهما بالله ضمن ما تتحدد به وتتأصر في قواعد الإسلام؛ ولكن هذا التحديد وذلك التأصر؛ يبدو في طبيعة الحج عمليا، على أرحب ما يقدمه ركن إسلامي، وعلى اكمل ما يشمله من أفراد، بل أن الركن الوحيد الذي يجمع مسلمي العالم في مندوبيهم، في ساحة واحدة، ليلقنهم درسا واحد، هو المقصود من الحج، هو الوحدة، وحدة الاتجاه، ووحدة المساواة. وبهذا وحدة تقوم وحدة العالم الإسلامي، منسقة الافراد، منسجمة الشعوب والجماعات، محفوظة من الأحاث، والتقلبات، والخلوف، متجهة في وحدة، وفي مساواة إلى الله صاحب الكون، وواهب الحياة.
ولكن هل تعيش تلك القواعد الكلية وحدها؟ هل تحفظ طبيعة الحج، حية منتجة، محققة الأهداف، دون وسائل وأسباب، تحفظ عليها كيانها المقصود؟ اللهم لا، أنها وحدها لا تعيش.
ومرة أخرى؛ تتقدم الفكرة الإسلامية، بالوسائل التي تقر فريضة الحج، ثابتة لا يعتبرها تفكك أو تخلخل؛ تتقدم بما يحفظ على طبيعة الحج، حية، منتجة محققة الأهداف؛ تتقدم بما بقي هذه الفريضة وتلك القواعد وهذه الطبيعة، شرور الفساد والنقص والاضطراب؛ تتقدم الفكرة بنفسها، ثم بوسائلها ثانية، لتهدم مظاهر الفساد ومنابع الظلم التي يخشى منها عادة على فريضة الحج وقواعده وطبيعته؛ وهذه المصادر، وتلك المنابع؛ تكمن عادة، في الاستبداد من فرد ظالم، أو جماعة ضالة، أو فرد متمرد؛ وتكمن في استغلال الاقتصادي، المقصور على أفراد أو أفراد، وتكمن في أخطار التاريخ وتقلبات الزمن، من دولة قريبة أو بعيدة، أو من مبدأ مناهض يغاير طبيعة الإسلام، في كثير أو قليل؛ وتكمن أخيرا في التعطيل بواحد من هذه الثلاثة، أو بعضها، أو كلها مجتمعة، لمظهر من مظاهر الحج، أو جزء من كيانه، أو تقليد من تقاليده أو سبيل من سبيله، أو تسيرمن تسيراته.
تتقدم الفكرة بنفسها أولا، ثم بوسائلها ثانية، على طريقتها المتميزة، في أي حقل من حقولها، في مخاطبة، العقل أو العاطفة، والضمير أو خارجه، والفرد أو جماعته، والسلوك أو العمل، بالتوجيه تارة، والتشريع أخرى، وقد تزاوج بينهما، ومن مصدرين متجاوزين: الكتاب والسنة. .
. . . فتتقدم الفكرة بنفسها، وتقيم ما يشبه القاعدة، أو قل قاعدة مساعدة، أو وسيلة كلية جامعة؛ لتقاوم بطريقتها المتميزة التعطيل أيا كان مصدره؛ فتقرر أن المعطل، كافر، كافر ينص القرآن) أن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام. .؛ بل أنها لتعتبره إلى جوار ما بهذه الآية من صراحة ومخاطبة بالتوجيه والتشريع - ملحدا (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب اليم) وبنفس ما بسابقتها من صراحةومخاطبة قد صيغت هي الأخرى، مع زائدة ثالثة، هي في تلك المشاعية المطلقة، في تنكير كلمة الظلم فيها، تلك المشاعية التي دفعت بعض المفسدين ليقولوا المعصية في الحرام سيئة مضاعفة. مع أن الحقيقة أن هناك حد السنة، يفسر نوع الظلم في الحرم بأنه استغلال، كما سيأتي بعد سطور. وان كنا نرى أن هذا التشريع المفسر لا يمنع مطلقا من شمول الظلم في الآية لسائر مصادر التعطيل عن المسجد الحرام، خاصة وفي الآية هذه الشاعية، المتكئة في تحديدها على آية ثالثة (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها أسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ألا خائفين، لهم في الدنيا خزي) هكذا بلفظة المنع وتعبير فني (سعى في خرابها).
ثم تتقدم الفكرة الإسلامية بوسائلها ثانية،. . . لتقيم الحواجز والسدود فتقدم وسيلة أولى، مساعدة للوسيلة الكلية الجامعة وتقوم عليها الوسائل اللاحقة، بها تقرر الفكرة وتفرض على الناس، وجوب تطهير بيت الله (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) في غير موضع من القرآن. . ويدعي أن الأمر بالتطهير ليس مقصورا على المأموزين وحدهما ولا موقوفا عليهما دون غيرهما من الناس، وبدهي أيضا أن التطهير في مثل هذا المقام لا يقصد منه سوى إزالة جميع مصادر التطهير في الحرم كانت، أو في ما يؤدي إليه (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق) وتأتي الفكرة بالوسيلة الثانية لتقر الحرم في أمانة وعلى طبيعته بعيداً عن المعطلات. . عن طريق التوجيه تارة التوجيه الحار المجرد الذي يتسلل إلى ما وراء منافذ الشعور، فتقرر أن الحرام حرام، بحرمة من الله لا من إنسان (أن مكة حرام، حرمها الله ولم يحرمها الناس) ثم عن طريق التشيع العملي أخرى، بأربعة أسباب:
السبب الأول: أن أرض مكة وهي قطب الرحى، ومركز الدائرة في الحج، أرض مشاعة الملكية المسلمين جميعا لأنها ملك الله، مباحة لكل قاصد وكل مقيم، لا ملك فيها لإنسان بعينه فلا بيع ولا أيجار. روى الدار قطنى عن علقم بن فضلة (توفى رسول الله، وما تدعي رباع مكة إلا السوائب، من أحتاج سكن، ومن استغنى أسكن) وفي رواية (ولا تباع) وروى عن ابن عمر (أن الله حرم مكة فحرم بيع رباعها وأكل ثمنها) (من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا) (مكة مناخ لاتباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها). . كما أن عمر بن الخطاب نهى أن يغلق بمكة باب دون الحاج، فأنهم ينزلون كل موضع رأوه فارغا كماأن عمر بن عبد العزيز عهد إلى أمير مكة أن لا يدع أهل مكة يأخذون إلى بيوت مكة أجرأً، فانه لا يحل لهم، فكانوا يأخذون ذلك خفية ومساترة.
السبب الثاني: تحريم الأستغلال، من الأحتكار، وما يشبه الاحتكار. . من تجارة السوق السوداء والتلاعب بالسوق التجاري. . . (احتكار الطعام في الحرم؛ الحاد فيه) يقول القطربى: والغموم يأتي على هذا كله.
السبب الثالث: تركة الجاهلية الضخمة التي أبقى عليها الإسلام وورثها، في ذلك التقليد الرائع المشهور في نظام السقايا والرفادة، والأولى معناها أسقاء الحجيج كلهم، الماء العذب. . (مجانا بدون مقابل. أما الثانية فإطعام من لم يكن له سعة في العيش أو لا زاد معه من الحجاج. . مجاناً أيضا وبدون إدانة؛ هذا النظام التيسيري بجانب مكافحة مصادر التعطيل قد عمل بها الرسول، وعمل بها الخلفاء الراشدون. ثم انقطع أو كاد. حين تفشت الخلوف ولا ندرى. . متى؟
ثم، تتقدم الفكرة بالوسيلة، لتقاوم أخطار التقلبات التاريخية، من دولة قريبة أو بعيدة. وتمنع تيارات المبادئ المناهضة، المغايرة للإسلام في قليل أو كثير، سماوية مضت، أو أرضية حدثت، فيوصي الرسول في لحظاته الأخيرة وصية تقي فريضة الحج، وشرور هذه الأخطار وتلك التيارات، بل أنها لتكاد تحدد أيضاً مكانة الحجاز جميعه، من العالم الإسلامي والعوالم المناهضة: (لا يترك بجزيرة العرب دينان) (أخرجوا يهود أهل الحجاز، ونصارى نجران، من جزيرة العرب) (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)؛ كل هذه الأوامر قد كانت امتداداً لعزم الرسول (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع فيها إلا مسلماً) ولكن: يبدوا أن الرسول لم يجد الفرصة السانحة لتنفيذ تلبك الخطة الحكيمة، ويبدوا أيضاً أن أبا بكر كان مشغولاً في حروب الردة، وتنظيم الجزيرة، وتثبيت أقدام المسلمين بها، فلم تتح له فرصة التنفيذ هو الآخر حتى فعلها عمر ثم هبت الخلوف، ولا ندري متى؟
وبقيت وسيلة أخيرة، لتقاوم الاستبداد، من حاكم ظالم، أو جماعة ضالة، أو فرد متمرد. كمصدر من مصادر التعطيل، لم اعثر لها على نص خاص وأعتقد قبل الترجيح أن السبب في ذلك، هو تكفل كليات الفكرة الإسلامية مباشرة، بمقاومة هذا المصدر، في نظام الحكم، وفي تشريع الفئة الباغية، والمحاربون الله ورسوله والساعون في الأرض بالفساد.
وبهذه الوسائل الكلية والفرعية، والتوجيهية والتشريعية، والمقرة الواقية: لفريضة الحج وقواعده؛ تحفظ طبيعته حية، منتجة، محققة الأهداف. ذات كيان يلمسه الناس ويؤمنون بجدواه ولكن هذه الوسائل، يتوقف تنفيذها على كل مسلم، على وجدانه وعقله، وعلى يقينه وعمله، وعلى خضوعه للأمر الإلهي بالتطهير فالوسيلة الأولى، فإذا حدث وتدهورت طبيعة الحج بانهيار أساس من أساسه، أو وسيلة من وسائله، فسببه ليست الفكرةولا وسائلها؛ إنما هو عدم الاستجابة بالفهم واليقين والسلوك والعمل. إنما هو انهيار الوسيلة الأولىالمساعدة؛ إنما هو التقاعد والتقاعس، حباً في الحياة ولو ذليلة مهيضة الجناح مسلوبة القيم. . إنما هو النقص في الدين، آو الخروج عن الإسلام.
محمد فياض