مجلة الرسالة/العدد 994/التصوف على (البلاج)
→ علماء! | مجلة الرسالة - العدد 994 التصوف على (البلاج) [[مؤلف:|]] |
عود على بدء ← |
بتاريخ: 21 - 07 - 1952 |
للأستاذ أنور الجندي
من أعجب المفارقات أن يذكرني (البلاج) بالتصوف بل لعل غاية العجب أن أكتب هذا الفصل أمام إحدى (كباين) ستا نلي باي. .
وليست هذه المرة الأولى فيما أعتقد، التي تدعو المفارقات فيها مثل هذه الدعوى. .
إننا لاشك نمر بمحنة عنيفة، وتبدأ أطرافها الأولى هنا على البحر وتنتهي هناك في معترك الحرية واستخلاص الحقوق، وإقامة المجتمع الصالح. .
وليس بالإمكان أن يجتمع الخير والإثم معا، ولا أن يشترك الحق والباطل، ولا يمكن أن نواجه المستقبل إلا بنفوس مفطومة من الشهوات وأوضار اللذات. . فإذا لم نستطيع أن نصوغ هذه النفوس، كنا أعجز عن أن نحقق لوطننا أو لبلادنا ما تبتغيه من مجد.
ولا عبرة بما يقوله البعض، من أن النفس الإنسانية تستطيع أن تجمع بين الجهاد واللذة، آو أن بعض المكافحين والمناضلين كانوا في حياتهم الخاصة على غير الصورة المثالية التي كانوا يدعون إليها. .
أن (البلاج) الآن مدرسة ضخمة من مدارس الرخاوة والميوعة والانطلاق، يلتقي فيها الآباء والأمهات والشبان والفتيات والأطفال دروساً على جانب كبير من الخطورة، إنها أبعد أثراً في مستقبل هذا الوطن من مدرسة السينما، أو أقل إنها التطبيق العملي لتلك الصورة المتحركة.
إنني أشك كثيرا في قدرة الشباب الذي اعتاد أن يقضي بضعة شهور من العام في محيط ينضح بالإغراء، وأشترك إلى حد كبير في تلك المناورات التي تقوم على الشاطئ والأمواج وفي الكابينات، أشك كثيرا في أنه يستطيع الصمود يوما لمعركة فاضلة في سبيل الحرية آو الإصلاح. .
وهذه الفتاة وهي النصف الثاني من الأمة، هي الجزء البعيد الأثر في رعاية الزوج وتنشئة الابن، كيف يمكن أن يعتمد عليها، وهي على هذه الصورة من الاندفاع في العباب العنيف.
أنا أومن كل الأيمان بحق الجسم في الرياضة والهواء والماء ولكن ليس على هذه الصورة المزعجة القاسية، التي لا يمكن أن تتحملها نفسية الشباب المراهق، دون أن تدفعه دفعا إ اتجاه قد يكون بعيد الأثر في حاضره ومستقبله. .
في الإمكان أن يتاح للأسر وللشباب وللفتيات أن يحققوا جميعاً غايتهم من الاستفادة من الهواء والماء، بطريقة آو بأخرى أما على هذه الصورة، فليس الأمر أمر صحة أو راحة أو إجازة، فان الحياة فوق البلاج ليست باليسيرة على النفوس التي تعيشها، وليست مؤدية بأي حال إلى ذلك السلام آو الاستجمام المنشود. .
وإنما هذه (سوق) يقام، فيه كل أنواع الصراع والصياح والضجيج، وفيه قسوة النزاع النفسي الداخلي، وأسباب الإغراء، ووسائل المتاع الجسدي، واستفزاز الشهوات وتدافقها واندفاعها.
أن الحياة في القاهرة طوال العام ليست إلا مقدمات إلى نتائج لهذه الفترة التي يقضيها الفتى أو الفتاة على البلاج. أنها فترة التحضير والأحلام بالأجساد العارية، والجلسات المائية والنظرات الباسمة، أو هي النتائج القاسية للحظات التي استحكم الشيطان، أو تطامنت فيها الغريزة. .
أن (الحرية) التي يتمتع بها الناس على البلاج (ضريبة قاسية تدفع من الأجساد ومن النفوس ومن الأرواح، تدفع من حساب هذا الوطن، ولا يستفيد بها إلا خصومه، فهي تؤخر نهضته أعواماً، بل أجيالاً. . وهي لا تفسد نفوس الجيل الحاضر فحسب، بل تترك جرائم المرض في أجساد أخرى مازالت يافعة نضرة، فإذا استوت كانت اعجز من أن تقاوم التيار آو تواجه الحقائق. . فإذا ما اصطدمت في (معركة) خرت كليلة واهية.
أن الأمم التي أطلقت لنفسها العنان في ميدان اللهو كانت قد تحررت أولا ونضجت، واستحصدت شخصيتها. . فكان بعد ذلك أن تلهو. . أما (نحن) الذين ما زلنا نكافح ونجاهد ونصارع في سبيل الوجود الذاتي، وفي سبيل تحرير أوطاننا، وإقامة دعائم مجتمع كامل، فإننا في حاجة إلى سواعد قوية مفتولة، ونفسيات قد بلغت غاية السمو والكرامة والعزة، نفوس قد فطمت عن الشهوات، وترفعت عن الصغائر، وتسامت عن النزوات، فحفظت كيانها الروحي والنفسي والعقلي قويا عالياً. . ولاشك أن مدرسة (البلاج) تتعارض مع هذا النوع من الشباب تعارضاً كاملا، بلى أنها من أسباب القضاء عليه. . أنها تمده بالمادة السامة التي تحطم البقية الباقية. . فلا تدعه يسطع يوماً، أو يقف موقفاً حاسماً آو يصمد في جولة حامية.
ولعل هذه المعاني هي التي جعلتني أفكر في (التصوف). . التصوف المستنير الذي عرفه عمر وعلي والحسن البصري والجنيد. .
هذا الذي يرتبط فيه الزهد في مغريات الدنيا بالقدرة على مواجه الحقائق. .
فليس شك أن الرجل (الجنتيل) الذي لا يستطيع أن يجهز بكلمة الحق، هو في الأغلب رجل غلبت علية المطامع الدنيوية، فهو يجامل ويتملق ويسمع ما يكره، ويخفي آراءه الخاصة، حتى لا تنشأ خصومة مع فلان آو فلان، ممن قد تضطره الحياة يوماً إلى أن يلجأ إليه. . وبهذا يظل إمعة، ومصدر هذا أن متاع الحياة قد وقذه، فماتت في نفسه روح الجرأة والشجاعة الأدبية.
أما الصوفي الزاهد الذي استهان بالدنيا واحتقرها، فهو أجرأ الناس في قول كلمة الحق، ونقد ما يراه.
ولذلك عرف المتصوفة بالجرأة على الزعماء والأمراء والحكام يجبهونهم بكلمة الحق، ويقولنا سافرة جريئة ولا يبالون. . لان الحياة هانت فلم يعد يخيفهم الحرمان منها، ولأنهم قد استخفوا بزخارفها، وانمحت من قلوبهم مطامعها، فأصبحوا يرددون مع الصوفي القديم (أن قتلي شهادة، وسجني خلوة، وتغريبي سياحة).
والتاريخ يذكر شعيبا والفضيل بن عياض وعطاء وأبي حازم وبن السماك وعمارة بن حمزة والأوزاعي، بأنهم كانوا زهادا صوفية، وقفوا مواقف الجراءة في تذكير الخلفاء بعيوبهم وأخطائهم، ورفضوا ما يقدم لهم من أعطيات أو هدايا، وكان الخلفاء من سليمان إلى المنصور إلى الرشيد إلى المهدي يسمعون نصحهم بقلوب واجفة، ونفوس متأهبة لقبول النصح.
وعندما وضع الغزالي أصول التصوف، نصح الصوفية باعتزال الأمراء والحكام والانصراف عن موائدهم، حتى يكون لديهم الشجاعة ما يكفيهم لأداء رسالتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ونحن في حاجة إلى مواجه التصوف، حتى نوازن ذلك الخطر (البلاجي) وقديما كان التصوف يغزو ميادين الحياة عندما يجنح الناس إلى الترف والغنى، وينصرفون إلى الأمصار ويكونون الثروات، فكان بذلك عامل (سد الفراغ) كما يقول المتحدثون.
ويرمى التصوف في صميمه إلى القناعة ونفض اليد من البر بق وشغل القلب عن المتاع، والانصراف عن زخرف المال والنضال إلى ما هو أسمى منه. .
والتصويف في غايته يدعو إلى القصد من متاع الدنيا، رجاء متاع الآخرة، والانصراف عن كثير من حلال المتاع خوف الوقوع في حرامه، ويهدف إلى حرمان النفس مما تتطلع إليه مما في أيدي الناس.
وكان هؤلاء الصوفية أنفسهم يحملون السيف إبان الغزو، فإذا انتهى الجهاد بالسيف عادوا إلى جهاد النفس وإخلاص النية لله.
وليس شك أن انصراف النفس الإنسانية في بعض العهود عن التصوف هو الذي أرخى العنان لهجمات التتار والصليبيين، وكان عاملاً فعالا من عوامل الهزيمة، إذا واجهت هذه القوات التي كانت تحمل فكرة معينة، جيلا مريضا رخوا قد أضرت به الرغبات وقتلت قوته وصلابته، فلم يستطيع أن يقف أمام الجحافل المغيرة أو يردها، فلما برز مرة أخرى الرجال الذين أشربوا روح الصوفية الحقة أمثال الشهيد نور الدين زكي وغيرهم أمكن مقاومة العتاة وسحقهم، واستعادة مجد البلاد.
هي الصوفية الناصعة الصافية التي كانت تعتصم باحتقار المغانم والأموال والجاه، في سبيل الله، وترى رجالها فوق سروج الخيل، وأطباق الماء وأعماق الصحراء.
أن نظام الفروسية في ذاتها الذي اقتبسه الأوربية نظام صوفي، ونظام الصفوة القائم على الكرم والسخاء والشجاعة والمروءة نظام صوفي، وهي تهدف في جملتها إلى أن يجرد الفرد نفسه للأمة، فيعيش للجماعة ويعيش للفكرة، ويعيش للمثل الأعلى. ولا شك أن روح الصوفية الخالصة هي التي دفعت أبي حنيفة عن أن يقبل القضاء، وهي التي أدت إلى أن يجلد مالك ويعذب احمد بن حنبل.
فلست اقصد بالتصوف، ذلك الزاهد والاعتدال والاعتكاف، فليس هذا من الإسلام في شيء. أننا نمر بمرحلة (الضرورة) من تاريخ الوطن، وهي تقتضينا أن نكون جنوداً قد أعدو أنفسهم لاحتمال أعباء ضخم طويل المدى، من شأن هذا الكفاح أن نعد له أنفسنا بالتربية الروحية، التربية التي تستدعي صلابة وقوة الاحتمال والقدرة مواجهة الخطوب.
ولن يتيسر هذا للشباب الذي يئد شبابه ورجولته ووقته ويصرفها على غير وجهها.
نريد ذلك التصويف الذي تحس النفس فيه بالقوة آو غزوات الأغراء، والاستعلاء أما اللذات والشهوات التصويف الذي يدفعنا في الحياة كراما، نعمل ونجاهد ونواد الخطوب، فنصبر لها ونقاومها، ولا نهزم أمامه ولا ننهار
إستانلي باي
أنور الجندي