مجلة الرسالة/العدد 993/شوقيتان لم تنشرا في الديوان
→ دراسة وتحليل | مجلة الرسالة - العدد 993 شوقيتان لم تنشرا في الديوان [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 14 - 07 - 1952 |
للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري
- 2 -
اطلع القراء في العدد السابق من الرسالة الغراء على درة من درر شوقي التي تجمع إلى أخواتها في دواوينه الأربعة المطبوعة ولم تضم إلى شعره المتداول بين أيدي القراء في جميع البلدان الناطقة بالضاد، وكنت وعدتهم في ذيل مقالي السالف أن أقدم لهم في هذا العدد شوقيه أخرى من تلك الشوقيات الفذة التي لم نتفتح عنها غير قريحة أبي علي، وهذه القصيدة الجديدة عثرت عليها في مجلة أدبية قديمة يرجع تاريخ صدورها إلى سنة 1928 أيضاً. أما اسم المجلة فلا أعرفه لأن أكثر صفحاتها الأولى والأخيرة كانت ممزقة، وأما كيف عثرت عليها فتفصيل الخبر أنني كنت في يوم من الأيام في سوق الوراقين ببغداد أنقب بين الصحف القديمة التي تعرض للبيع بالأكوام فلفت نظري صديق إلى مجلة ممزقة كانت بين يديه وهو يشير إلى بعض بحوثها فلما أخذتها منه وتصفحتها عثرت فيها على قصيدة أميرنا مدرجة. وكم كان سروري عظيماً عندما راجعت دواوينه فلم أعثر لها على ذكر! فقلت في نفسي هذه هدية قيمة لا يستحقها إلا مجلة الأدب الرفيع والشعر الخالد حيث تقدمها إلى ابناء العروبة
والقصيدة كما يراها القراء لا تختلف في كثير أو قليل عن شعر شوقي من جميع النواحي، فالديباجة ديباجه، ولأسلوب أسلوبه، والنفس واحد، والصور والتركيب والتعابير والموسيقى اللفظية واللفتة الشعرية البارعة كلها له، وهي فوق كل هذا قصيدة عالية مشرقة بالرغم من أنها من بحر الرمل، ذلك البحر الذي لا يجيد فيه من حيث متانة تركيب الأبيات إلا القادر من فحول الشعراء. ولا أذكر أنني - على كثرة قراءتي للشعر - وقفت إلى شاعر نظم قصيدة من بحر الرمل وأجاد فيها أو أظهرها بديباجة متينة اللهم إلا شوقي، لأن هذا البحر على الرغم من سهولة النظم فيه لابد أن تأتي القصيدة فيه ركيكة مهلهلة الأبيات كما يحدث عند الكثير من الشعراء. لذلك يتجنب الفحول النظم فيه على العكس من البحور الأخرى كالكامل والوافر والبسيط حيث تأتي الأبيات قوية التركيب متينة الأبيات كأنها البنيان المرصوص. وأذكر أنني في بدء نظمي الشعر كنت لا أقوله إلا على بحر الرمل لسهولته، ولكنني تركته بعد ذلك ولم أعد ألجأ إلى النظم فيه إلا ما ندر؛ حتى الموشحات الغنائية التي أكثر من النظم فيها أترك الرمل وألتزم مجزوءه - نظرا للإيقاع الموسيقى الذي فيه والجرس الراقص، أما شوقي فهو حتى في هذا البحر يبدع ويجيد - خذ مثلا قوله
ارفعي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين
واتركي فضل زماميه لنا ... نتناوب نحن والروح الأمين
ألا يرى معي القارئ القوة والمتانة التي تتخلل الأبيات على سهولتها وعذب موسيقها؟ أيستطيع أحد مهما بلغ من المقدرة البيانية والبلاغية ومطاوعة اللغة والقوافي له أن يضع لفظة بدل أخرى!! أشك في ذلك لأن الفحول من الشعراء عندما ينظمون حتى على هذا الوزن لا يتركون فيما يقدمونه مغمزا لناقد فيه! وهكذا الحال عند شوقي على خلاف غيره من الشعراء عصره
قد يطول بنا القول إذا نحن قارنا بينه وبين غيره لأن المفاضلة والموازنه تحتاج إلى إيراد أمثلة تخرجنا عن الموضوع الذي نطرقه الآن، لذلك نترك ذلك الحديث إلى مجال آخر وعسى أن يكون ذلك في القريب
قلت في بدء الكلام أن القراء نشقوا في العدد الماضي عطر باقة من الأزهار أبي علي ويسرني الآن أن أتحفهم بإضمامة أخرى قطفها لهم من روضته وهي كما يرون نغمة ككل شعره العطر الندى، تزول جدة الدهور ولا تزول جدتها، فإن كان الورد لا تتفتح إكماله إلا في الربيع ولا يعبق نشره إلا في أيار، فإن شعر شوقي فواح الأريج في كل الفصول. فلنستاف إذا شذاه الموار
الشوقية الثانية
وهذه العصماء الثانية قالها شوقي في جمعية الشبان المسلمين حيث ألقيت في حفلتها التي أقيمت بدار الأوبرا الملكية في 14 شوال من عام 1347هـ - 1928م
لم يضع صاحب المجلة عنواناً للقصيدة ولم يذكر المناسبة التي قيلت فيها ولكن القارئ يدرك من فحواها أنها نظمت لأجل جمع الإعانة لدار الأيتام التي قامت ببنائها الجمعية المذكورة على حد قوله:
يا شباباً حنفاء ضمهم ... منزل ليس بمذموم النزيل يصرف الشبان عن ورد القذى ... وينجيهم من المرعى الوبيل
أو قوله
رب عرس مر للبر بما ... ماج بالخير وبالسمح المنيل
ضحك الأيتام في ليلته ... ومشى يستروح البرء العليل
والتقى البائس والنعمى به ... وسعى المأوى لأبناء السبيل
ومن أحق بالرعاية من اليتامى وأبناء السبيل؟ ومن غيره شوقي من الشراء عصره يستطيع أن يلهب أكباد الأثرياء حماسة ويضرب على المواطن الحساسة من شعورهم فيجودوا لهذا المشروع النبيل بالمال عن طيب خاطر؟
إذن لنستمع إلى صناجة القرن العشرين وهو يوقع على أوتار قيثارته أغاريد الخير والحق والحنان، في أسلوبه الموسيقى المشرق ونغماته العذاب إذ قال في. . .
مهرجان اليتيم
حبذا الساحة والظل الظليل ... وثناء في فم الدار جميل
لم تزل تجزى به تحت الثرى ... لجة المعروف والنيل الجزيل
صنع (إسماعيل) جلت يده ... كل بنيان على الباني دليل
أتراها سدة من بابه ... فتحت للخير جميلا بعد جيل
ملعب الأيام، إلا أنه ... ليس حظ الجد منه بالقليل
شهد الناس به (عائدة) ... وشجي الأجيال من (فردي) هديل
وائتلفنا في ذراها دولة ... ركنها السؤدد، والمجد الأثيل
أيعنت عصرا طويلا وأتت ... دون أن تستأنف العصر الطويل
كم ضفرنا الغار في محرابها ... وعقداه لسابق أصيل
كم يدور ودعت يوم النوى ... وشموس شيعت لا يوم الرحيل
رب عرس مر للبر بما ... ماج بالخير وبالسمح المنيل
ضحك الأيتام في ليلته ... ومشى يستروح البرء العليل
والتقى البائس والنعمى به ... وسعى المأوى لأبناء السبيل
ومن الأرض جذيب وند ... ومن الدور جواد وبخيل يا شبابا حنفاء ضمهم ... منزل ليس بمذموم النزيل
يصرف الشبان عن ود القذى ... وينجيهم من المرعى الوبيل
اذهبوا فيه وجيئوا أخوة ... بعضهم خذن لبعض وخليل
لا يضرنكم قلته ... كل مولود وان جل ضئيل
أرجفت في أمركم طائفة ... تبغ الظن عن الإنصاف ميل
اجعلوا الصبر لهم حيلتكم ... قلت الحيلة في قال وقيل
أيريدون بكم أن تجمعوا ... رقة الدين إلى الخلق الهزيل
خلت الأرض من الهدى ومن ... مرشد للنشء بالهدى كفيل
فترى الأسرة فوضى وترى ... نشئاً عن سنة البر يميل
لا تكونوا السيل جهما خشنا ... كلما عب، وكونوا السلسبيل
رب عين سمحة خاشعة ... روت العشب، ولم تنس النخيل
لا تماروا الناس فيما اعتقدوا ... كل نفس بكتاب وسبيل
وإذا جئتم إلى ناديكم ... فاطرحوا خلفكم العبء الثقيل
هذه ليلتكم في (الأوبرا) ... ليلة القدر من الشهر النبيل
مهرجان طوف (الهادي) به ... ومشى بين يديه (جبرائيل)
وتجلت أوجه زينها ... غرر من لمحة الخير تسيل
فكأن الليل بالفجر انجلى ... أو كأن الدار في ظل الأصيل
أيها الأجواد لا تجزيكمو ... لذة الخير من الخير بديل
رجل الأمة يرجى عنده ... لجليل العمل، العون الجليل
أن داراً حطتموها بالندى ... أخذت عهد الندى أن لا تميل
إلى هنا تنتهي القصيدة ويبدو فيها شوقي مرشدا ينصح شباب الجيل بعدم الطعن في العقائد لأن الطائفية من شأنها التفرقة، والأمة لا تستطيع الوثوب إلى الأمام ومما شاة ركب النهضة إلا بالاتحاد، وأن الأمة التي لا تستطيع أن تذهب أبنائها وتجد لهم سبل العيش والثقافة ما هي إلا أمة مقضي عليها لا محالة وخصوصا إذا جمع أبناؤها (رقة الدين إلى الخلق الهزيل) لأن (الأمم هي الأخلاق) والله دره حين يقول: وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا
فشوقي إذن هنا مصلح اجتماعي يلبس مسوح الوعاظ ليقدم نصائحه، وهكذا يجب أن يكون الشاعر الإنساني حيث يؤدي رسالته على الوجه الأكمل
عبد القادر رشيد الناصري