الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 993/القصص

مجلة الرسالة/العدد 993/القصص

بتاريخ: 14 - 07 - 1952


الخادم

للكاتب العظيم سيمونوف

عاد جيرازيم إلى موسكو حين كان يتعذر الحصول على عمل فيها، وذلك قبل عيد الميلاد بأيام قلائل. وفي هذه الفترة كان كل عامل يتمسك بعمله مهما كان حقيرا، طمعا في الحصول على هدية من مخدومه. وهكذا قضى الشاب الفلاح ثلاثة أسابيع دائبا في البحث عن مهنة ولكنه لم يوفق.

وكان يعيش مع أقاربه وأصدقائه الذين نزحوا مع قريته. ولم يكن في فقر مدقع، ولكنه يغتم لرؤية شاب قوي مثله يحيا بغير عمل.

وقد عاش جيرازيم في موسكو منذ حداثته. وعندما كان طفلا كان يشتغل بغسل الأواني في معمل من معامل البيرة، ثم اشتغل بعد ذلك خادما في أحدا المنازل. وفي السنتين الأخيرتين كان يعاون أحد التجار، ولولا أنه دعي إلى قريته لسبب يتعلق بالخدمة العسكرية لبقى حيث كان إلى الآن. ولسبب ما لم يقبل جيرازيم جنديا. ولما لم يكن معتادا حياة الريف فقد بدت القرية لعينيه في حلة من الكآبة، وصمم على الرجوع إلى موسكو مهما كانت النتائج.

وكل دقيقة تمر كانت تزيد ملله من جوب الطرقات في فراغ وبطالة. ولم يترك جيرازيم أي سبيل للعمل إلا طرقها. ولقد ضايق جميع معارفه بإلحافه، وأحيانا كان يتصدى للمارة ويسألهم إذا كانوا يعرفون سبيلا إلى عمل خال

ولم يعد يحتمل جيرازيم أن يكون عالة على الناس. وقد اصبح وجوده يغيظ بعض مضيفيه. وتعرض بعض الخدم الذين كان ينزل عليهم لتأنيب مخدوميهم إياه بسببه. لقد كان في حيرة تامة لا يدري ماذا يفعل. وأحيانا كان يجوب في الطرقات النهار كله دون أن يتناول طعاما

وفي أحد الأيام ذهب جيرازيم إلى صديق له من أبناء قريته، يعيش على حدود موسكو. وكان هذا الصديق حوذيا عند رجل يدعى شاروف، وقد مضى عليه أعوام كثيرة في خدمة شاروف وقد أفلح في أن يستحوذ على محبة سيده فأصبح يأمنه على كل شيء ويبدي له دلائل الرضا. ولعل لسانه الفتيق هو الذي كسب له ثقة سيده فقد كان يشي بكل الخدم، وكان شاروف يقدره من اجل ذلك.

وتقدم جيرازيم وحياه، واستقبل الحوذي صديقه استقبالا مناسبا وقدم إليه شايا وبعض الطعام ثم سأله عما يفعله فأجابه:

- في أسوأ الأحوال يا يجور. أني أعيش بدون عمل منذ أسابيع ألم نسأل مخدومك القديم أن يستعيدك إليه؟

- لقد سألته

- أو لم يقبل؟

- هناك من حل محله

آه. . . هذا هو السبب. تلك هي خطتكم أيها الشبان. تخدمون رؤسائكم حيثما اتفق، فإذا تركتم مهنتكم تكونون قد سددتم طريق الرجوع إليها بالأوحال. إلا يجب أن تقوموا بواجباتكم بحيث تنالون التقدير الحسن، فإذا رجعتم إلى مخدوميكم لا يهملونكم - بل يخرجون من حل محلكم. . .

- وكيف يكون ذلك؟ إنك لا تجد مخدومين على هذه الشاكلة في هذه الأيام كما إننا لسنا بملائكة!

- وما فائدة الكلام؟! إني أريد أن أحدثك عن نفسي: إذا حدث أني تركت عملي لسبب من الأسباب ورجعت إلى منزلي، فالسيد شاروف يقبلني عندما أرجع ويكون سعيدا بقبولي وجلس جبرازيم. لقد لاحظ أن صديقه يباهي بنفسه ورأى أن يسايره فقال:

- إني أعرف ذلك ولكن من العسير وجود رجل مثلك يا يجور. ولم لو تكن من أجود الخدم ما أبقاك سيدك في خدمته أثني عشر عاما

فابتسم يجور لأنه كان يحب المدح وقال:

- ذلك هو الواقع. لو انك اتبعت نظامي في الحياة والعمل ما وجدت نفسك عاطلا شهرا بعد شهر

ونادى شاروف حوذيه فخرج وهو يقول

- أنتظر برهة. . سأرجع حالا

- حسن جدا عاد يجور وأخبر صديقه أن عليه في خلال نصف ساعة أن يعد العربة ويسرج الخيل ويستعد لحمل سيده إلى المدينة. وأشعل يجور بيته وأخذ يذرع أرض الغرفة ثم وقف فجأة أمام جيرازيم وقال:

- أستمع يا بني، إذا رغبت أن احدث السيد شاروف عنك فلا بأس؟

- وهل هو في حاجة إلى خادم؟

- لدينا خادم غير كفء تقدم به العمر ومن المتعذر عليه القيام بالخدمة. ومن حسن الحظ أن هذه الضاحية غير مأهولة - كما أن رجال البوليس لا يدققون كثيرا، وإلا لما استطاع الخادم الشيخ أن يحتفظ بالمكان على حالة من النظافة ترضيهم

- آه. . لو أمكنك، حدثه على يا يجور - أني سأدعو لك طول حياتي. . لم اعد أحتمل العيش بدون عمل.

- حسن. سأحدثه عنك. تعالى غدا. والآن يحسن أن تأخذ هذه الدريهمات

- شكرا يا يجور. هل ستحدثه عني؟ قم بهذا الجميل من أجلي.

- حسن سأحاول!

وانصرف جيرازيم وأعد يجور العربة وارتدى ملابسه الخاصة بمهنته وقاد العربة إلى الباب الرئيسي للمنزل حيث ركب شاروف ثم آب إلى منزله. ولاحظ يجور أن سيده على شيء من البشاشة فبدأ حديثه معه

- هل لي أن أسألك معروفا؟

- وماذا تطلب؟

- شاب من قريتي، شاب طيب. . . ليس لديه عمل

- حسن!

- ألا تلحقه بخدمتك؟

- ألحقه على أن يقوم بأي خدمة تطلب منه

- وماذا يعمل بوليكار؟

- وما فائدة بوليكار؟؟ لقد حان أوان فصله

- ليس من العدل فصله. لقد خدمنا سنوات. فلا أستطيع طرده بدون سبب - ولنفرض أنه اشتغل بخدمتك سنوات، أنه لم يخدمك بغير أجر. لقد كان يتناول مرتبا، ومن المؤكد أنه ادخر بعض المال لسني شيخوخته

- أدخر؟ كيف يمكنه ذلك، أنه ليس وحيدا في الدنيا: لديه زوجة يعولها وهذه مضطرة أن تأكل وتشرب أيضاً

- إن زوجته تكسب أيضا. إنها أجيرة باليومية. ولم تعير بوليكار وزوجته اهتماما؟ حقا أنه خادم فقير، ولكن لم تبعثر أموالك؟ أنه لا يؤدي عمله كما يجب. وعندما تحين نومته في حراسة المنزل يترك مكان الحراسة اكثر من عشر مرات أثناء الليل. لم يعد يحتمل البرد وقد يكدرك البوليس بسببه يوما. قد يهبط المفتش علينا يوما، وعندئذ لن يسرك أن تكون مسؤولا عن نتائج إهمال بوليكار

- ومع ذلك ففصله قسوة واستهتار. لقد خدمنا خمسة عشر عاما، وبعد هذه المدة نعامله هذه المعاملة الفظة في شيخوخته. إنها لخطيئة.

- خطيئة؟ هل يصيبه منك ضرر؟ أنه لن يموت جوعا بل سيذهب إلى ملجأ الفقراء. وهذا أجدى عليه. هناك يقضى شيخوخته في سلام

وأخذ شاروف يفكر في المشكلة ثم قال.

- حسن. دع صديقك يحضر غدا. وسأرى ما يمكنني أن افعل له

- أرجوا يا مولاي أن تلحقه بخدمتك. كم أنا حزين له!

يا له من شاب خيرا ومع ذلك فهو عاطل منذ أمد طويل. أنه سيؤدي واجبه على أكمل وجه وسيخدمك بإخلاص: لقد ترك عمله الأول بسبب الخدمة العسكرية ولولا ذلك ما تركه مخدومه الأول

عاد جيرازيم في المساء التالي وسأل صديقه:

هل أمكنك أن تقوم بشيء في سبيلي؟

- نعم. . . . على ما اعتقد: دعنا نتناول بعض الشاي أولا وبعد ذلك نذهب لمقابلة سيدي

ولم يكن جيرازيم بالراغب في شرب الشاي: لقد كان متشوقا إلى معرفة ما قر عليه أمره ولكن مقتضيات الواجب واللياقة نحو صديقه أجبرته أن يشرب قدحين من الشاي، أخذه بعدها صديقه إلى رب الدار.

وسأل شاروف جيرازيم عن مكان مسكنه وعن مخدوميه السابقين ثم أخبره بعد ذلك باستعداده لقبوله خادما عاما يؤدي كل ما يطلب منه وأن يأتي صباح اليوم التالي ليبتدئ عمله. وأذهل جيرازيم هذا المفاجئ وكان فرحه عظيما حتى أن قدميه لم تقويا على حمله، وبعد برهة رجع جيرازيم إلى غرفة الحوذي.

وقال له الحوذي: (حسن يا بني يجب أن تعنى بأن تؤدي واجبك على الوجه الأكمل حتى لا أضطر يوما إلى الخجل بسببك، أنت تعرف من هم السادة إذا قصرت مرة تعقبوك دائما بالبحث عن أغلاطك ولن يدعوك في سلام أبدا.

- كن مطمئنا يا يجور

وانصرف جيرازيم وعبر في طريقه فناء المنزل، وكانت غرفة بوليكار تطل على هذا الفناء وكان ينبعث منها نور ضئيل يضئ طريق جيرازيم الذي شعر بالشوق إلى رؤية الغرفة التي ستخصص له، ولكن زجاج النافذة كان مغطى بالصقيع بحيث يتعذر رؤية أي شيء خلاله. وسمع جيرازيم أصواتا تنبعث من الغرفة فوقف يتستمع. سمع صوتا نسائيا يقول (ماذا نفعل الان؟) فأجاب رجل - وكان بوليكار لاشك:

- لست ادري. . لست ادري نطوف الشوارع مستجدين

- هذا كل ما بقي لنا. وما من حيلة أخرى. بالله لنا، نحن الفقراء! أي حياة تعسة نحياها؟ نكد ونكدح من الصباح الباكر حتى الليل يوما بعد يوم وعاما بعد عام، وعندما تتقدم بنا السن تتضور جوعا.

- ماذا نفعل؟ إن سيدنا ليس من طبقتنا ولا جدوى في الذهاب والتحدث إليه. أنه لا يهتم إلا بمصلحته.

- كل السادة على مثل هذه الحالة. انهم لا يهتمون إلا بأنفسهم، لا يخطر ببالهم أننا نعمل بشرف وإخلاص مدى سنوات، نفى زهرة قوانا في القيام بخدمتهم ثم يخشون أن يبقونا عاما آخر، حتى ولو كانت لدينا للقيام بواجباتهم. فإذا عجزنا تماما وجب علينا أن ننصرف من تلقاء أنفسنا.

- إن شاروف لا يلام بقدر ما يلام حوذيه الذي يود الحصول على مهنة لصديقه.

- نعم. . . . يا له من ثعبان! أنه يعرف كيف يشقشق بلسانه. . . . وأنت يا يجور أيها الحيوان القذر اللسان. . . . انتظر، سأنتقم منك، إني سأذهب إلى السيد وأخبره كيف كان هذا الوغد يغشه وكيف يسرق التبن والعلف. وسأقنع السيد أن هذا الوغد يكذب في كل ما ينقله عنا

- لا لا: أيتها المرأة لا ترتكبي خطيئة.

أية خطيئة؟ أو ليس حقا ما اقوله؟ أنني أعرف صدق ما سأتحدث به وسأفضي بكل شيء للسيد. ولم لا؟ ماذا نفعل الآن؟ أين نذهب؟ لقد حطمنا، وانفجرت المرأة باكية متأوهة سمع جبرازيم الحديث كله وكأن خنجر نفذ في أوصاله.

لقد تحقق أي بلاء كان يجره إلى هذين الشيخين وشعر أن قلبه يتمزق وقف حيث كان زمنا طويلا محزونا غارقا في الفكر، ثم دار على عقبيه وذهب ثانية إلى غرفة الحوذي الذي سأله عندما رآه.

- هل نسيت شيئا

وأجاب جيرازيم متلعثما: لا. . . لقد أتيت. . . أستمع إلي. . .

أود أن أشكرك كثيرا على حسن استقبالك أياي، وكل ما عانيته من أجلي. . ولكني لا أقبل العمل هنا.

- ماذا؟ ماذا تعني؟

لا شيء. لا أرغب في العمل هنا، سأبحث عن عمل آخر. وانتابت يجور حدة غضب وقال:

- هل تعني أن تجعلني مجنونا في رأي سيدي؟ هل تعنى ذلك أيها الأبله؟ لقد أتيت تتضرع في وداعة وترجو المساعدة.

والآن ترفض العمل. أيها الوغد لقد أخزيتني!

وصعد الدم إلى الوجه جيرازيم وخفض عينيه ولكنه لم ينبس ببنت شفة.

وأدار يجور ظهره في احتقار وكف عن الكلام وعندئذ ألتقط جيرازيم قبعته بهدوء وترك غرفة الحوذي وعبر الفناء مسرعا ثم اجتاز باب المنزل وابتعد عن الدار مهرولا

وكان يشعر بالسعادة والفرح. . .

ن. ع. م