الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 991/دراسة وتحليل

مجلة الرسالة/العدد 991/دراسة وتحليل

بتاريخ: 30 - 06 - 1952


الجواهري شاعر العراق

للأستاذ محمد رجب البيومي

- 1 -

منذ عام نزل الشاعر العرقي الكبير الأستاذ محمد مهدي الجواهري ضيفا كريما على مصر، وقدمته الصحف المصرية إلى قرائها تقديما ينبئ عن مكانته الأدبية الممتازة في عالم الشعر، وكنت أقابل كثيرا من الأدباء والمثقفين في ربوع وادي النيل، فأجدهم لا يروون شيئا من قصائد الشاعر العراقي، ويتطلعون في لهفة وشوق إلى أثر من آثاره فلا يجدون، إذ أن الصحف المصرية لم تنشر له قبل ذلك ما يصله بالقراء والمتأدبين. وأذكر أني فتشت في كثير من مجلاتنا الأدبية فلم أعثر على شيء يذكر، إذا استثنيت ثلاث قصائد نشرت في آماد بعيدة متفرقة بأبولو والرسالة والكاتب المصري. وزاد الطين بلة أن الكاتب الفاضل الأستاذ عبد الخالق طف نشر بمجلة الثقافة الغراء (يونيه سنة 1951) مقالين كبيرين عن الشاعر العراقي، فأعطى القراء بمصر عنه فكرة غير تامة، إذ اعتمد في بحثه على ديوان الشاعر الصادر في أوائل سنة 1935 مع أن الجواهري لم يبرز في مضمار الإبداع إلا بما قاله بعد صدور هذا الديوان من قصائد عامرة ممتازة تحتل مكانها اللائق في الأدب والتاريخ. وكأن الكاتب قد أحس بتقصيره فوعد القراء أن يطالعهم ببحث جديد عن الشاعر في عهده الأخير، ومضى أكثر من عام دون أن يفي الأديب بما وعد؛ فرأيت لزاما على أن أقدم الشاعر للقراء من جديد.

وقد طرق الجواهري أبواب الشعر فنظم في الغزل والرثاء والوصف والسياسة والاجتماع، غير أنه تبوأ مكانته الأدبية بقصائده السياسية التي عبرت تعبيرا صادقا عن مشاعر العرب في شتى بقاع العربية. والحق أن الشعر السياسي قد أرتفع على يده إلى قمة عالية أعادت إليه سابق مجده في مطلع هذا القرن، حين كان حافظ ونسيم والمصري والكاشف ومحرم وعبد المطلب في مصر والزهاوي والرصافي والكاظمي في العراق، يهزون المشاعر هزا عنيفا بما يبدعونه في هذا المضمار، فلم تكن ثمر حادثة كبيرة أو صغيرة إلا رأيت له صدى قويا يبعثه الشعر السياسي في النفوس، وقد نضطر إلى إيجاد فارق هام بين ما قاله شعراء العراق في الميدان السياسي وما قاله شعراء مصر، فأولئك كانوا قادة جماهير، وموجهي نفوس، بقصائدهم الحماسية، وهؤلاء كانوا صدى لما يتجاوب في الميدان السياسي فحسب، فهم ينظرون إلى اتجاه الشعب وميوله ثم يعبرون عن مشاعره، دون أن يسبقوه بإيقاظ وتوجيه، وقد بقي هذا الفارق إلى يومنا هذا، فلديك فرق شاسع بين ما يقوله الجواهري في قصائده السياسية، وبين ما نطالعه لشعرائنا المصريين في الأفق السياسي على قلته وندرته، بل أخشى أن أقول أن الشعر السياسي قد مات موتا على يد هؤلاء الهائمين في آفاق الخيال، ومتاهات الذهول. ولولا كارثة فلسطين وحوادث القنال الدامية لما سمعت لهم شيئا يذكر على الإطلاق. وسيجد القارئ لشاعرنا العراقي سبقا ظاهرا حين يستعرض خرائده الجياد، ونحن نجمل هنا الحديث عنه في أغراض محدودة، كيلا تتشعب بنا الدراسة إلى منادح شاسعة لا نستطيع أن نحيط بعوالمها الرحبة الفسيحة، ونبدأ بالحديث عن فلسطين الشهيدة! فمأساتها الفاجعة أحرى بكل تقديم.

لا جدال في أن فلسطين قد هزت عواطف العرب هزا عنيفا، فترقرقت دموعهم حارة ملتهبة، واتقدت جذوات الحزن والحسرة في جوانحهم المشتعلة وقام الشعراء في شتى الحواضر العربية بتخليد المأساة واستنهاض الهمم، وقد طالعت أكثر ما قيل في هذا الكارثة الدامية، فوجدت ما ينبئ عن صدق الشعور، ولوعة الإحساس، في طراز باهت لا يخرج عما قيل منذ قرون في مأساة الأندلس، وكأن الشعر قد رجع بأصحابه إلى الوراء فلم يتقدم خطوة واحدة، عما كان عليه منذ ضياع هذا الفردوس البهيج، فقصارى كل شاعر أن يسترجع ويولول دون أن يشرح البواعث الأصلية للنكبة، ويحلل الكوامن المقنعة من وراء الحجب والأستار، وقد ربأ الجواهري بأدبه أن يقف عند الصراخ والعويل، فاندفع ينقب عن الصلال الخبيثة التي نهشت هذا العظم الرميم، ونفثت سمها القاتل في الجسم الهامد فخر صريعا لا حراك به. ورد النكبة إلى ثلاث عوامل بارزة كانت السبب والحقيقي في وقوع المأساة، وأقوى هذه العوامل إنجلترا الغادرة! فقد لبست ثياب الدهاء فأظهرت الوقوف على الحياد حاشدة وراءها جيشا عنيفا من الحقد والنفاق والابتسام! مغلفة أسرارها الخبيثة عن الأغرار من القادة والزعماء، وقد وجدت أمامها - لسوء الحظ - فريقا يهيم بحبها في كل واد، وينزل على إرادتها في كل مطلب، يهادن إذ تطلب الهدنة، ويحارب حين تدفع به إلى الخراب والوبال، وقد مد له في الذهب اللامع، فملأ خزائنه، وضاعت فلسطين شهيدة على يده، وهذه حقيقة مرة يفصح عنها الشاعر في شجاعة ويقظة إذ يصيح

حماة الدار لولا سم غاو ... أساغ شرابه فرط التمادي

ولوغ في دم الخل المصافي ... فقل ما شئت في الجنف المصادي

ولباس على ختل وغدر ... ثياب الواقفين على الحياد

وخب لا يريك متى يواتي ... فتأمن شره ومتى يعادي

تطلع إذ تطلع في رخى ... وتقرع حين تقرع في جماد

ولولا نازلون على هواه ... سكارى في المحبة والوداد

نسوا إلا نفوسهم وهاموا ... غراماً حيث هام بكل واد

أجرهمو على ذهب فجروا ... فلسطين على شوك القتاد

وقادوها له كبش افتداء ... صنيع الهاربين من التفادي

لكنتم طب علتها، وكانت ... بكم تحدى على يد خير حاد

فإذا ترك إنجلترا الداهية وأذنابها الضعفاء، لجأ إلى العامل الثاني، فتسائل عن سر من أسرار النكبة في رأيه، وجهر بالحقيقة سافرة حين أعلن أن هذه المنكوبة لم تضع بددا بحيلة ساحر، أو غضبة قدر لا مرد له، ولكن لأنها - وأخواتها - مسترقة مستذلة قد خيم فوقها الثالوث الأشأم، فلم يبرحها الجهل والفقر والمرض، لحظة من اللحظات، وقد منيت جميعها بفريق من الطغاة، قضوا على المواهب العالية، وحاصروا العقائد المبادئ، ووضعوا الأبرياء في الأصفاد والأغلال، وقام في كل قطر شقيق حجاج طاغ يزيف إرادته، وزياد باطش يعصف بحميته، بينما يملأ يديه من الذهب السائل، ويرسل شهواته مطلقة الأعنة، فلا تذر من شيء عليه، ويفتح أبواب السجون لشهداء الرأي والوطنية والاستقلال، حتى خمدت النخوة العربية، وغرق الشرقي العربي في لجج الاستعباد والهوان. . ذلك ما يفصح عنه إذ يقول:

حماة الدار ما النكسات سر ... ولا شيء تلفف في بجاد

ولا لغز يحار العقل فيه ... فيجعل ما سداس من أحاد ولكن مثلما وضحت ذكاء ... ونور حاضر منها وباد

فما ذهبت فلسطين بسحر ... ولا كتب الفناء بلا مداد

وما كانت فلسطين لتبقى ... وجيرتها يصاح بها بداد

وست جهاتها أخذت بجموع ... وجهل واحتقار واضطهاد

شعوب تسترق فما يبقي ... على أثر لها ذل الصفاد

تساط بها المواهب والمزايا ... وتحتجز العقائد والمبادئ

وتطلع بين آونة وأخرى ... (بحجاج) يزيف أو (زياد)

فيذوي الخوف منها كل خاف ... ويصمي الجور منها كل باد

وتنتهب البلاد ومن بنيها ... يؤوب الناهبون إلى سناد

وتنطلق المطامع كاشرات ... تهدد ما تلاقى بازدراد

وتنطبق السجون مزمجرات ... على شبه وظن واجتهاد

والعامل الثالث في رأي الشاعر هو ما لدى اليهود من منعة وعتاد، فقد جذبوا الرأي العالمي والصحافة العربية بما توفر لديهم من حذق وإخلاص، وقد تربوا تربية صالحة قوية، فحذقوا العلوم والصناعات، وساهمت المرأة لديهم في البيت والمصنع والمعبد والقتال، فليس فيهم من فقير يستجدي الأكف، ولا ملقى بقارعة الطريق تحمله أمه في الكور بجهد جهيد، ولا زعيم خائن يغضب المال والجاه على حساب الضحايا والأبرياء، ولا مماسيخ مشوهون قد حطمهم السغب والكلال!! هؤلاء جميعا لا يوجد أحد منهم لدى الأعداء، مع أننا لا نجد غيرهم في جيوشنا الواهنة المتخاذلة!! فكيف تتعادل الكفتان!؟ ويتحقق المحال، هذا ما يصرح به الشاعر إذ يقول:

جيل تصرم مذ أبدى نواجذه ... وعد لبلفور في تهديدها قطعا

والساهرون عليه، كل منتخب ... بيني ويهدم أن أعطى وإن منعا

تهوى العروس على أقدامهم ضرعا ... وتحتمي سادة الدنيا بهم تبعا

مررت بالقوم (شذاذ) فما وقعت ... عيني على متمن غيره ضرعا

ولا بملقى وأهليه بقارعة=ولا بحاملة في الكور من رضعا

ولا بمن يحرس الناطور أرجلهم ... مهروءة سهلت للكلب منتزعا وعند سلعته تصغي البنون لنا ... نغلي - ونرخصها في الأزمة - السلعا

وجدتها عندهم زهوا منورة ... البيت والبحر والأسواق والبيعا

بينا تراقص بالأنغام صاحبها ... إذا بها توسع الألغام مزدعا

ونحن ما نحن! قطعان بمذأبة ... تساقطت في يدي رعيانها قطعا

في كل يوم زعيم لم نجد خبرا ... عنه ولم ندر كيف اختير واخترعا

أعطاهمو ربهم فيما أعد لهم ... من الولائم صفوا فوقها المتعا

كأسين، كأسا لهم بالشهد مترعة ... وللجماهير كأس سمها نقعا

قتالة، خوف ألا تستاغ لهم ... أوصاهمو أن يسقوهم بها جرعا

وينطلق الشاعر في الحديث عن هؤلاء المتزعمين! وكيف زودهم الاستعمار بوصاياه الخارقة، فصبوا على الشعوب كؤوس الصاب مترعة بالسم الناقع، وقد أدركوا بعض الحذق، فلم يصبوا الكأس مرة واحدة، فتقضي على الشعوب القضاء السريع، بل ساقطوا الجرع السامة نقطة نقطة، لتأخذ وقتا طويلا في التنويم والتخدير، بينما أعدت لهم كأس مترعة بالرحيق السلسال فتنهلوا منها وعلوا كما يشاءون، وليس الزعماء جميعا طراز واحدا، ففيهم من خلصت نبته وكان قصاراه أن تدمع عينه ثم يمسح دموعها بمنديله الرقيق!! وهو على إخلاصه لا يرضى الشاعر! إذ يريد المتحفز الوثوب الكاشر الصائل، وأنت تعجب له حين يدعو في مطلع قصيدته إلى اليأس، فيخلق له الحسنات المتتابعة، فهو ذو حد يقف لديه الأمل الحالم، وهو مصحر الأرجاء لا يمد الظل على اللصوص والأوشاب!! ولكن أي يأس ذاك؟! أنه اليأس من الوعود الكاذبة، والآمال المزعومة، أنه اليأس الذي طوح بالباستيل فاقتلعه من أغواره، وقذف بطارق إلى النصر بعد أن حطم سفينه، ووقف من وراء البحر، وأمام العدو، فكان لابد من النصر في تلك الحنادس الحالكات.

وإن من حسنات اليأس أن له ... حدا إذا كل حد غيره قطعا

وأنه مصحر الأرجاء، لا كنفا ... لمن يلص ولا ظلا لمن رتعا

اليأس أطعم بالأشلاء مقصلة ... عدلا وطوح بالباستيل فاقتلعا

وطارق منه أعطى النصر كوكبه ... نزرا وعدى إلى الأسبان فاندفعا ورغم الظلمة الداجية التي تكتنف الشاعر في حديثه عن المأساة، ورغم شعوره بالعلل الأصلية للنكبة، وإلمامه بالأوضاع الشائنة التي جلبت هذه الكارثة المروعة، رغم ذلك كله يتعلل بالنصر القريب - بعد أن يئس من الوعود البارقة - ويمد خيوط الأمل للشباب المتوثب، ويدعو إلى الممات في سبيل الحياة المرتقبة؛ ويفسح الصدور للرصاص، ويحذر من الخوف والخور والقنوط، كما ينتقل بريشته الملهمة إلى طبيعة فلسطين، فيصور الفجر المترقرق فوق الروابي الخضر كوشاح فضي لامع، ويحمل إلى القارئ أنفاس المروج العاطرة، ويسمعه ألحان الوحي في مهابطه المقدسة؛ وغناء داود مع الطيور في أورشليم الحالمة؛ ثم يدعو الشباب الفلسطيني المكافح إلى الاعتماد على نفسه؛ فالشعوب العربية لا تجيد غير العويل والبكاء؛ فهي تدق من الأسى راحا براح؛ ويدا بيد؛ ثم تقف عند ذاك!! فإن تجاوزته فإلى الخطب الرنانة والقصائد المسهبة؛ ولن تجد أوجع من الحقيقة المريرة يعلنها الشاعر صريحة سافرة فيقول عن قومه في يأس واكتئاب

أأم القدس والتاريخ دام ... ويومك مثل أمسك في الكفاح

فلا تتخبطي، فالليل داج ... وإن لم يبق بد من صباح

ولا تعني بنا إنا بكاة ... نمدك بالعويل وبالصياح

ولا تعني بنا، فالفعل جو ... مغيم عندنا والقول صاح

ولن تجدي كأيانا نصيرا ... يدق من الأسى راحا براح

ولا قوما يردون الدواهي ... وقد خرست بألسنة فصاح

يتبع

محمد رجب البيومي