مجلة الرسالة/العدد 990/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 990 القصص [[مؤلف:|]] |
Праведный судья بتاريخ: 23 - 06 - 1952 |
القاضي السعيد
للفيلسوف الروسي تولستوي
قام المليك ثملا من الرقص الفاتن على أنغام المزامير يرنو إلى جمال الراقصات الباسم. . ويصغي إلى أحاديث الندامى ترن في مسامعه مرجعة أنباء الساحر الرهيب، ذي القوة الخارقة والسحر العجيب، وأقاصيص ذلك القاضي السعيد الفياضة بالغرائب، المملوءة بالأعاجيب!
وأيقظه نسيم السحر المرتعش، فنادى غلامه وقال: سمعت في العشية من صحبتك أن في أقصى المملكة قاضياً واسع الحيلة، عظيم الذكاء، يعرف الكاذب إذا رآه من الصادق، وله في ذلك نكات حلوة وطرائف طلية. . ولقد هفت نفسي إلى رؤيته فهيأ يا غلام جوادي، وأحضر لي زادي، وائت لي بلباس لا يعرفني به أحد من رعيتي، كي أذهب فأرى صدقه من تدجيله.
وبعد ساعة. . انطلق الملك يسري. . بين شعف الجبال وأحضانها، وهو يحث السير ويغذه؛ حتى إذا ما وصل إلى بلد القاضي - وقد ارتفعت الشمس وقاظ النهار - لقيه رجل قد قطعت ساقاه وتهشم وجهه وجحظت عيناه، فاقترب منه، وهو يتكئ على عصوين أسندهما إلى إبطيه. . وأخذ يقبل أقدامه ويطلب إحسانه. فتصدق الملك عليه؛ وهمز حصانه وسار على مهل.
وفرح البائس إذ ضحكت له المنى ولكنه لحق بالمليك وأمسك بأثوابه لا يدعها، فغضب الملك وثار وقال له:
- ما شانك أيها الرجل، وماذا تريد؟ طلبت فأعطيناك. وشكوت فرحمناك. .!
قال الرجل بصوت يشيع فيه الحزن واللوعة:
أوصلني يا سيدي إلى ساحة المدينة، فأنا يائس عاجز وأخاف أن تطأني الجمال بأقدامها إذ تمشي مشيها الوئيد. . أوصلني إليها يا سيدي والله يجزيك أحسن الجزاء.
ورق قلب الملك وأشفق عليه. فحمله بين يديه وأردفه. ثم انطلقا حتى أتيا ساحة المدينة الكبرى. قال الملك آنذاك: - ها هي ذي ساحة المدينة أيها الرجل، فاهبط آمنا!
قال الرجل:
- وي! هذا حصاني فلم تريد اغتصابه مني؟ أهذا جزاء من يعطف عليك ويشفق؟ يا للوقاحة! ويل لك من العذاب الذي سيصيبك! هيا هيا دع الحصان وامض إلى سبيلك. وإن لم تفعل فخير لك ولي أن نذهب إلى القاضي السعيد فنسأله، وهناك يظهر الحق ويزهق الباطل!
وشده الملك وعجب من هذا المحتال البائس. ثم ثار وغضب، وأرغى وأزبد، والتف حوله أهل المدينة، فساقوهما إلى القاضي ليحكم بينهما.
وأتيا القاضي يجران وراءهما الناس، وقد جاءوا ليستمعوا إلى حكمه. واستوى القاضي على كرسي مزين بالذهب المتوهج، وبدأ ينادي المتخاصمين فرداً فرداً
وجيء بعالم أصلع الرأس، كث اللحية، حماري الأذنين وإلى جانبه قروي رث الهيئة، ممزق الأثواب، على وجهه إمارات الغباوة، كانا يختصمان على امرأة حسناء على وجهها سحر وطلاوة. . هذا يدعي أنها خليلته، وذاك يقول إنها حليلته. .
واستغرق القاضي في صمت عميق. . . ثم قال:
- دعا حسناءكما عندي وتعاليا إلي غدا
وتقدم جزار إلى جانب بدال. وكان الجزار يرتدي ثوبا مليئا دماً، وكان البدال يرتدي لباسا زين ببقع الزيت الحية.
قال الجزار:
- لقد اشتريت من هذا الرجل يا مولاي زيتاً ثم عمدت إلى قميصي فأخبأته تحت جيبه. ولكنه هجم علي، وانتزعه مني، فجئنا إليك يا مولاي، أنا أمسك بيدي دراهمي وهو يمسك بتلابيبي لئلا أفر، ولكن الدراهم لي، وما هو إلا سارق أثيم!
قال البدال:
- كذب ما قاله يا سيدي وبهتان. . لقد جاء إلي ليبتاع من زيتي، فملأت له وعاءه، فلما أراد الانصراف طلب مني أن أبدل له قطعة ذهبية بقطع فضية، فرحت أعطيه الدراهم. . . ولكنه فر بها يا مولاي، فلحقت به. . . وأحضرته إليك. .
واستغرق القاضي في صمت عميق. ثم قال:
دعا الدراهم عندي وتعاليا إلي غداً. . .!
ونودي الملك والسائل. قال الملك:
- أنا تاجر يا سيدي، وهذا لقيني وأنا في طرف المدينة فرثيت له وأشفقت عليه، ثم أعطيته ما يخفف من ألمه ويزيد في فرحه. . فلما انطلقت إلى ما أنا ماض من أجله، لحق بي وطلب أن أوصله الساحة الكبرى. فأردفته. فلما كنا في الساحة الكبرى، طلبت إليه أن يتركني فأبى، وقال هذا حصاني جئت تنتزعه مني. فالتف حولنا الناس وساقونا إليك. هذه قصتي يا مولاي فاحكم بما تريد!. .
قال السائل:
- يا للكذب يا مولاي! لئن كذب وافترى، فما أنا إلا صادق أمين. . كنت أجتاز المدينة ومعي الحصان فرأيته في بعض الطريق. . . فطلب مني أن أوصله إلى الساحة الكبرى فقد أنهكه السير الطويل. فلما أتيت به الساحة قال هذا حصاني. . .
فاحكم يا مولاي أيدك الله وأطال بقاءك!
وفكر القاضي وقدر. . . ثم قال:
- سأعرف الكاذب من الصادق. . دعا الحصان لدي وارجعا إلي غداً
وتفرق الناس، ومضى كل إلى سبيله، وذهب الملك يفكر في هذا القاضي الذي سماه الناس (السعيد)
أقبل الليل، فجلس الملك يفكر في أمر ذلك البائس المسكين ويتذكره، فملأ صوته المضطرب سمعه وفؤاده، وهو يتساءل عن جزائه وكيف يكون. فلما أضناه التفكير أسلم نفسه للكرى. فنام نوماً عميقاً، رأى فيه من الأطياف ما لا يحصر، ومن الأشباح المرعبة ما لا يحد، وضحك النهار فاستيقظ الملك. . وأخذ يرتدي أثوابه، ثم مضى إلى المدينة ليطوف في أسواقها فلما أجاز ساحة الحي وجد غريمه يتدحرج نحو دار القاضي.
وكان الناس يأتون زرافات زرافات، فقد أعجبوا بالقاضي فغدت نفوسهم في شوق ملح لكل ما يقول. وجاء المتخاصمون فتقدم العالم والقروي. فنظر القاضي إليهما وقال:
- أيها العالم! إنها زوجتك فخذها وامض بها إلى دارك. . . أما أنت أيها القروي، فجزاؤك خمسون جلدة تنالها في الساحة الكبرى على ملأ من الناس!. . .
وانصرف العالم وزوجته، وأخذ القروي ليجلد
وجيء بالجزار وبائع الزيت، فقال القاضي:
- أيها الجزار! ها هي ذي دراهمك فخذها. أما أنت. . فجزاؤك خمسون جلدة تنالها في الساحة الكبرى على ملأ من الناس!. .
وأخذ الجزار دراهمه. ومضوا بالبدال ليجلدوه
وتقدم الملك والسائل. فقال القاضي للملك المتنكر:
هل تعرف حصانك جيدا؟
- نعم يا مولاي!
- وأنت أيها السائل؟
- وأنا أيضاً يا سيدي!
- اتبعاني إذن. . .
وانطلق القاضي بهما إلى الإسطبل وقد امتلأ بالجياد. فقال للملك: دلني على حصانك. . . فدله الملك، ثم أخرجه وأدخل السائل. . فدله عليه أيضا، فلما خرج القاضي قال: خذ حصانك أيها التاجر، فهو لك، أما أنت فستجلد خمسين جلدة في الساحة الكبرى
وهم القاضي بالانصراف. . . فتبعه الملك وقال له:
- أريد يا مولاي أن اعلم كيف استطعت أن تعرف أن المرأة كانت للعالم، وأن الدراهم كانت للجزار. . وأن الحصان كان لي فقد حار عقلي في فهم ذلك. .!
قال القاضي:
- أما المرأة، فقد أتيت بها إلى داري، وقلت لها ضعي في هذه المحبرة مداداً. فأخذت الدواة فنظفتها، ثم ملأتها مدادأ. فعلمت أنها تعلم ذلك من قبل، والدواة لا توجد إلا عند العالم. فحكمت أنها امرأة العالم وليست خليلة القروي. أما الدراهم فقد وضعتها في إناء مليء بالماء، وقلت لنفسي، أن كانت لبائع الزيت فلا بد أن تطفو على صفحة الماء قطرات من الزيت جاءت إليها من يديه. ولكن الماء بقى صافياً، فعلمت أن الدراهم ليست لبائع الزيت وإنما هي للجزار وصمت القاضي قليلا، فلما طال صمته قال الملك:
- والحصان يا سيدي؟
قال القاضي:
لقد قلبت الأمر بين يدي فلم أجد حيلة أنفع من أن تدلاني على الحصان، فعرفته أنت كما عرفه السائل، ولكني رأيت الحصان أدار وجهه نحوك، ورفع أذنيه عندما دنوت منه. فلما جاء السائل أرخى أذنيه ورفع إحدى رجليه يريد رفسه، فعلمت أن الحصان لك
فابتسم الملك ضاحكا، ثم تقدم من القاضي فقال له:
أيها القاضي! نعم العدل بك عيناً، لست بتاجر، ولكني الملك!
ودهش القاضي وارتجف رهبة ثم انحنى وقال:
- عفوا يا مولاي. . أنا عبدك
- قم أيها القاضي وسل. .
- إن ثنائك علي لمكافأة لي يامولاي، وانحنى ليقبل قدميه
- قم. . . قم أيها القاضي السعيد. . فلقد صدقت بك. . .
وآمنت. . . لقد صدقت وآمنت. . . ومنذ الغد ستكون لي وزيراً!
ص م