مجلة الرسالة/العدد 99/محاورات أفلاطون
→ أبو سليمان الخطابي | مجلة الرسالة - العدد 99 محاورات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
سل الجديدين ← |
بتاريخ: 27 - 05 - 1935 |
23 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
ما أبعد ما رجوت من أمل، وما أسوأ ما عدت به من فشل! فما مضيت حتى ألفيت فيلسوفي قد نبذ العقل نبذاً كما نبذ كلُّ ما سواه من أسس الاتساق، وانتكس إلى الهواء والأثير والماء وما إليها من شوارد الآراء، فكان عندي أشبه برجل أصر بادئ ذي بدء أن العقل هو علة أفعال سقراط بصفة عامة، فلما أراد أن يبيّن بالتفصيل أسباب أفعالي العديدة، أخذ يبرهن أنني أجلس ها هنا لأن جسمي مصنوع من عظام وعضلات، وأن العظام، كما كان ينتظر أن يقول، صلبة تفصل بينها أربطة، وأن العضلات مرنة وهي العظام التي يحتويها كذلك غشاء، أو محيط من اللحم والجلد. ولما كانت العظام مشدودة إلى مفاصلها لقبض العضلات وسطها، كان في استطاعتي أن أثنى أطراف بدني، وهذا علة جلوسي ها هنا في وضع منحنٍ. أنه كان سيزعم هذا، وكان سيشرح بمثل هذا كلامي إليكم، فقد كان سيفرده إلى الصوت والهواء والسمع، وكان سيذكر من هذا النوع من الأسباب عشرة آلاف سوى ما ذكر، ناسياً أن يشير إلى السبب الحقيقي وهو أن الأثينيين قد رأوا في إدانتي صواباً، فرأيت أنا بناء على ذلك أن الأفضل والأصوب هو مقامي ها هنا محتملاً ما حكم عليّ به، فأرجح الظن عندي أن عظامي وعضلاتي هذه كانت تود لو فرت إلى ميغاراً أو بوتيا - وإني لأقسم بكاتب مصر أنها كانت تود ذلك، إذا لم يكن يسيرها إلا فكرتها هي عن الأمثل، وإذا لم أكن أنا قد آثرت أن أحتمل كلُّ عقوبة تقضي بها الدولة، على اعتبار أن ذلك أفضل وأشرف مسلكاً، بدل أن أمثل دور الآبق فألوذ بالفرار. لا شك أن في هذا كله خلطاً عجيباً بين الأسباب والحالات. وقد يمكن القول حقاً أنني لا أستطيع تحقيق غاياتي بغير العظام والعضلات وسائر أجزاء الجسد، أما القول بأنني أفعل ما أفعل من أجلها، وأن فعل العقل إنما يكون على هذا النحو ولا يكون باختيار الأمثل، فذلك ضرب من القول العابث العقيم؛ وإني لأستغرب ألا يستطيع الناس أن يفرقوا بين السبب والحالة، وه ما يخطئ الدهماء فيه وفي تسميته دائماً، لأنهم يتخبطون في الظلام؛ وهكذا ترى واحداً من الناس يصطنع دوامة من الماء تشمل الكون فيثبِّت الأرض بالسماء، وترى آخر يذهب إلى أن الهواء عماد الأرض وأن الأرض في شكل الحوض الفسيح، ولا تسيغ عقولهم قط وجود أية قوة تسير بهم إذ تصرفهم نحو الأحسن وهم لا يتخيلون أن في ذلك قوة فوق القوة البشرية، إنما هم يتوقعون أن يجدوا للعالم عماداً آخر أقوى من الخير وأكثر منه دواماً وشمولاً، وهم بغير شك يرون أن قوة الخير القسرية الشاملة هي كلُّ شيء، ولكني مع ذلك أتمنى أن أكون هذا هو المبدأ الذي أتعلمه إن وجد من يعلمنيه، ولما كنت قد فشلت أن أستكشف بنفسي أو بإرشاد غيري من الناس طبيعة الأمثل، فسأعرض عليكم إذا شئتم طريقة البحث في العلة التي وجدتها تتلو الأمثل في المثالية.
أجاب: لشد ما أحب أن أصغي إلى ذلك.
فمضى سقراط: ظننت أني ما دمت قد فشلت في تأمل الوجود الحقيقي فينبغي أن أحرص على عين روحي فلا أفقدها كما قد يؤذي الناسُ عيونهم الجثمانية بشهود الشمس والنظر إليها أثناء الكسوف، ما لم يتحوطوا فلا ينظرون إلا إلى الصورة المنعكسة على الماء أو ما يشبه الماء من وسيط؛ حدث لي ذلك فخفت أن تصاب روحي بالعمى الشامل إذا أنا نظرت إلى الأشياء بعينيّ أو حاولت أن أتفهمها بوساطة الحواس، وفكرت أنه يحسن بي أن أعود إلى المُثل فأبحث فيها عن حقيقة الوجود، وأني لأعترف ينقص هذا التشبيه - لأنني بعيد جداً عن التسليم بأن من يتأمل صور الوجود بوساطة المثل يراها (معتمة خلال منظار) دون من ينظر إليها وهي في نشاطها وبين نتائجها، ومها يكن من أمر فهذه سبيلي التي سلكتها: فرضت بادئ الأمر مبدأ زعمت أنه أمتن المبادئ، ثم أخذت أثبت صحة كلُّ شيء يبدو متفقاً مع ذلك المبدأ، سواء أكان ينتمي إلى السبب أو إلى أي شيء آخر، واعتبر كلُّ ما يتنافر وإياه غير صحيح، ولكني أحب أن أوضح بالشرح ما أعني، فما أحسبكم تفهمون ما أريد.
فأجاب سيبيس: كلا، حقاً إنا لم نفهم جيداً.
قال: ليس فيما أوشك أن أنبئكم به من جديد، فهو ما ظللت أكرره أينما حللت، فيما سبق من نقاش، وفي ظروف غيره سلفت، فثمة علة قد ملكت على خواطري، أريد أن أبسط لكم طبيعتها، ولا مندوحة لي عن العودة إلى تلك الألفاظ المألوفة التي يلوكها كلُّ إنسان، فأزعم قبل كلُّ شيء أن ثم جمالاً مطلقاً وخيراً مطلقاً وكبراً مطلقاً وما إلى ذلك. سلم معي بهذا ولعلي أستطيع أن أدلك على طبيعة العلة، وأن أقيم لك الدليل على خلود الروح.
فقال سيبيس: تستطيع أن تمضي من فورك من برهانك، فلست أتردد في أن أسلم لك بهذا.
فقال: حسناً، إذن فأحب أن أعلم هل تتفق معي في الخطوة التالية، وتلك أنه لو كان هنالك شيء جميل غير الجمال المطلق لما شككت في استحالة أن يكون ذلك الشيء جميلاً إلا بمقدار مساهمته في الجمال المطلق - وأني أقرر هذا عن كلُّ شيء. أأنت موافقي على هذا الرأي في العلة؟
فقال: نعم أوافقك.
فمضى قائلاً: لست أعلم شيئاً ولا أستطيع أن أفهم شيئاً عن أي سبب آخر من تلك الأسباب الحكيمة التي يزعمونها، فإن قال لي أحد إن جمالاً ينبعث عن ازدهار اللون أو الشكل أو ما شئت من شيء من هذا القبيل، لطرحت قوله جملة، فليس لي منه إلا ربكتي، ولتشبثت بفكرة واحدة دون غيرها تشبثاً قد يكون على شيء من الحمق، ولكني من صوابها على يقين، وهي أنه لا يجعل الشيء جميلاً إلا وجود الجمال والمساهمة فيه، مهما تكن سبيل الوصول إلى ذلك، وكيفية الحصول عليه، فلست أقطع برأي في الكيفية، ولكني أقرر بقوة أن الأشياء الجميلة كلها إنما تكون جميلة بالجمال، وعندي أن ذلك وحده هو الجواب المعصوم الذي أستطيع أن أدلي به لنفسي أو لأي أحد آخر، وإني لأتشبث به، ويقيني أن لن تصيبني الهزيمة قط، وأنه في مكنتي أن أجيب، في عصمة من الزلل، على نفسي أو على أي أحد من الناس، بأن الأشياء الجميلة لا تكون جميلة إلا بالجمال. ألست توافق على ذلك؟
- نعم أوافق.
- وبالكبر وحده تصير الأشياء الكبيرة كبيرة فأكبر وأكبر، وبالصغر يصير الصغير صغيراً؟
- حقاً.
(يتبع) زكي نجيب محمود