الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 989/الأمثال في حياة اللغة

مجلة الرسالة/العدد 989/الأمثال في حياة اللغة

بتاريخ: 16 - 06 - 1952


للأستاذ حامد حفني داود

الأدب العربي بمعناه الخاص ينقسم إلى قسمين: شعر ونثر. النثر العربي صور شتى أهمها: الرسائل الأدبية بأنواعها الثلاثة: الديوانية والعامة والخاصة - ثم التأريخ الفني والقصص - ثم لحوار والمناظرات - ثم المقتضبات والتوقيعات - ثم الحكم والأمثال - ثم الملح والفكاهة

وقد آثرت في هذا المقال أن أتحدث عن (الحكم والأمثال) لما لاحظته فيها من تطور عجيب تخالف فيه فنون النثر العربي سواء في نشأتها وتأريخها

والحكمة في اللغة: القول الجليل ذو المعنى الشريف، والمثل: القول البليغ المقتضب يضرب لشرح أمر أو تفسير ظاهرة أو تأكيد معنى من المعاني. ولا تختلف الحكمة عن المثل كثيرا، وربما كان أخص ما تمتاز به أنها أقدم منه استعمالا وأشرف معنى وأعمق فكراً وأدل على المقصود وأبقى مع الزمن

أما نشأتهما فترجع إلى أحداث قديمة تتعلق بواضعي اللغة أو المتكلمين بها في أقدم عهودها؛ فأكثر الأمثال يعود بنا في نشأته وظهوره إلى العصر الجاهلي، يوم كانت اللغة في عنفوان شبابها، وكادت تنحصر في الجزيرة العربية، والعرب بعيدون عن الأعاجم تقريبا، وقبل أن يختلطوا بهم ويتفشى اللحن فيهم

ولكن من هؤلاء الذين أرسلوا هذه الأمثال؟ لا شك أن هذه الأمثال لم تنزل من السماء أو ينزل بها الوحي. ولو أننا استطعنا أن نصدق أن مفردات اللغة كانت (تلقينية توقيفية) كما يزعم الفقهاء استدلالا بقوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) فإننا نجزم أن أكثر الأمثال - إن لم يكن جميعها - (اصطلاحي)؛ لأنها - كما سنحقق - من صنيع العربي الصراح ووليدة تفاعله المستمر مع بيئته

وربما كان شعراء الجاهلية أسبق من خطبائها إلى هذا اللون من الفن النثري. وقد تعجب لذلك لأن أكثر الأمثال لون من ألوان النثر وليست من باب الشعر. ولكنك لا تلبث أن تقتنع إذا علمت أن العناصر الأدبية وهي: الفكرة والخيال والعاطفة والأسلوب. تتحقق في نفسية الشاعر قبل الناثر. ومن هنا كانت الأمثال أشبه بالشعر المنثور يرسله الشاعر قبل الناثر ولعلك تؤيد هذا الزعم الذي ذهبت إليه إذا علمت أن أكثر الأمثال العربية التي دونها لنا القدماء من مؤرخي الأدب العربي ترجع في وضعها إلى هؤلاء الشعراء الجاهليين

وقد كان شعراء الصعاليك - وهم الرعيل الأول من شعراء العصر الجاهلي - اعظم حظا وأوفر نصيبا من إخوانهم في هذا الباب. ولعل ذلك يرجع إلى استعدادهم الفطري البالغ وتفاعلهم الصريح بالبيئة العربية الصارخة التي أبدعت هذا اللون من الأدب النثري. واشتهر من بين هؤلاء جماعة كثيرون عرفوا بضربهم في فيافي الجزيرة وتصرفهم في مجاهلها. نذكر منهم على سبيل المثال: (تأبط شرا) و (أبا الطمحان القبني) و (السليك بن الملكة) و (والشنفري)

وقد كانت هذه الأمثال وليدة أحداث ووقائع اعترضت هؤلاء الشعراء في حياتهم. قيل: لما أسر أسيد بن جابر (الشنفري)، قال إخوان أسيد للشنفري: أنشدنا. فقال: (إنما النشيد على المسرة) فأرسلها مثلا. وحكوا أن (السليك: سار ليلة على رجليه رجاء أن يصيب شيئا ثم نام، وبينما هو نائم جثم عليه رجل وقال له: استأثر، فرفع السليك رأسه قائلا (الليل طويل وأنت مقمر) فذهبت مثلا حدث كل ذلك والعرب في بيئتهم، ونطقوا به منجما وفق أحداث الحياة ووقائعها، ولم يرثوه عن أجدادهم تلقينا وتوقيفا كما ورثوا مفردات اللغة وإنما تحكمت البيئة في الاصطلاح والتواضع عليه

ولم يكد يظهر الإسلام وينتشر في بقاع الأرض شرقا وغربا حتى نمت هذه الأمثال - كما نمى غيرها من آداب اللغة - إلى ألسنة المتأدبين والناطقين بالعربية من عرب وأعاجم. ولكن قافلة الأمثال لم نسلك الطريق الذي سلكته قافلة الرسائل وغيرها من صور النثر. أريد أن أقول: إن تاريخ الأمثال العربية يغاير في نشأته وتطوره تاريخ الكتابة والرسائل مغايرة تامة. ذلك لأن الأمة العربية لم تنشأ حاجتها إلى الكتابة المنظمة والرسائل المدونة التي نقرأها في كتب الأدب إلى حين تعقدت الحياة واتسعت رقعة الدولة واحتيج إلى العمال في الأقاليم لإحصاء أمور الإمبراطورية الإسلامية وتنظيم سياستها الداخلية والخارجية. أما الأمثال فإنها لم تتحدد بهذا الزمن أو تختنق في هذه الدائرة الضيقة أو تتوقف على هذه الأسباب لأنها من الحياة اليومية في الأسرة والمجتمع. وقد كانت ولا تزال في كل زمان ومكان من الرجل الساذج والعامي والجاهل ومحدود الثقافة في الوقت الذي كانت فيه ولا تزال من الكاتب الكبير والأديب المبتكر. بل ربما كانت عند الساذج والجاهل أوفر استعمالا من غيره

ومن هنا نستطيع أن نعلل كيف كانت الأمثال أسرع فنون النثر تطوراً، وكيف سلكت طريقها في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي وهي تنمو نمواً مطرداً. إنها لم تتأخر إلى هذا الحين الذي نشأت فيه الكتابة الديوانية؛ التي جودها عبد الحميد الكاتب وأستاذه سالم. بل سلكت طريقها صعداً إلى الأمام منذ مولدها على لسان العربي في بيئته الجاهلية، وتلونت بالحياة الاجتماعية في شتى أحوالها وأطوارها وصورها المختلفة في التاريخ؛ ذلك لأنهما - كما قدمت - كانت جزءا من لغة الحياة وزخرف القول الذي لابد للناس منه في كل يوم

وهنا لا نعجب إذا رأينا أن تطور الأمثال لم يقف أو يجمد في اليوم الذي وقفت فيه وجمدت حياة الكتابة الديوانية أواخر القرن السابع ولا شك أنك ترى معي أن هذا راجع إلى السبب الأول نفسه - وهو أن الأمثال من الأدب اليومي عند العامي والبليغ على السواء. فظاهر الاستعمال والتفاعل مع الحياة اليومية هي التي حفظت للأمثال رونقها وأبقت عليها حياتها

وثمة فارق آخر تتميز به الأمثال عن غيرها من فنون النثر، ذلك أن هذه الفنون الأخرى حين جمدت في أواخر القرن السابع صارت صوراً أدبية قديمة كلاسيكية لا وجود لها في واقع حياتنا اليومية، فلم يستطع أحد من الأدباء المتأخرين أن ينقلها إلى واقع الحياة، كما لم يستطع العامة أن ينقلوها إلى لغتهم الدارجة أو تأخذ مكانها من نفوسهم وحياتهم التي تتطور يوما بعد يوم. لقد عجزت هذه الفنون عن مواصلة حياتها لأنها جفت قبل أن تصل إلى أيدي العامة واستعمال سواد الناس لها، على حين تلونت الأمثال تولناً سريعاً بعاميتنا العربية وخاصة في العصرين: المملوكي والتركي. واستطاعت خلال هذه الحقبة الطويلة أن تخوض معركة العامية وأن نحرز النصر وأن تكسب جائزتي (التحرر) و (الخلود) معاً - دون أخواتها من فنون النثر. ومن ثم فرضت نفسها على الحياة كما فرضت العامية نفسها

ولعلك تعجب كثيرا حين ترى سبعة أعشار لغتنا العامية - اليوم - من هذه الأمثال. فلا تكاد تسمع أحداً ممن يتكلمون بالعامية الصرفة أو العامية المهذبة لا يستعمل هذه الأمثال بين الفينة والفينة. وهناك كثيرون من مفطوري العامة من يستطيعون أن يجعلوا حديثهم كله سلسلة عجيبة متتالية من الأمثال. ولم العجب وقد ولدت وتحورت في بيئتهم التي يعيشون فيها وورثوها عن آبائهم. فهي صنيعة وراثتهم وبيئتهم وعقليتهم وطوع ألسنتهم

وهل منا من ينكر ذلك ونحن نتحدث عن ظاهرة طبيعية واجتماعية. لغوية من مظاهر الطبع والسليقة. وإذا كنا نصدق أن من الصوفية من تحرز في كلامه المباح من أن ينطق بغير الآيات القرآنية في كل ما يسأل فيه أو يجيب عنه، وأن من الشعراء من حاول أن يجعل جميع كلامه من الشعر ولا فرق عنده بين أحاديث الأدب والأحاديث المباحة. وأن الكسائي قال: لو شئت أن أجعل جميع كلامي مما يقوله النحاة في اصطلاحاتهم لفعلت، وأن إنساناً سأله: ما حكم رجل سها في سجود السهو فأجابه باصطلاحات النحاة: (المصغر لا يصغر)

أفبعد ذلك كله نعجب - ونحن في معرض الطبع - من أن تمثل الأمثال السواد الأعظم من لغتنا العامية أو تصبح سبعة أعشار ما ينطبق به العامة في الشارع والمنزل ومكان العمل. إنها ليست سوى ظاهرة طبيعية لا عجب فيها

وإنما العجب الأكبر إن كان لابد من العجب أن تنطلق (الأمثال) وهي صورة من صور النثر الفني في هذا النماء السريع العجيب المطرد، وأن تتطور مع الحياة ويكتب لها الخلود في كل عصر كما تطورت (لغة الحديث) وكتب لها الخلود تماما. فتراهما تظهران في ثوبين من العامية الإقليمية في مصر أو غيرها من الأقطار العربية

ولعل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على ما بين (التراكيب المثلية) - إن صحت هذه النسبة - وبين لغة الحديث اليومية من قرابة جوهرية واضحة أصيلة لا نستطيع دفعها أو إنكارها

للكلام صلة

حامد حفني داود