مجلة الرسالة/العدد 988/حديث رمضان
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 988 حديث رمضان [[مؤلف:|]] |
الاستعمار البريطاني في الملايو ← |
بتاريخ: 09 - 06 - 1952 |
للأستاذ علي الطنطاوي
(أهديه إلى روح شاعر الروح، وأديب الشرق محمد إقبال)
علي
صدقوني أني لم أجد أشق على من هذا الحديث
كيف أشق بصوتي عجيج المعامل، وضجيج المصافق وصياح الملاهي والحانات؟
كيف أخاطب خطاب الروح من لا يعيش إلا للجسد، وأحدث حديث الآخرة من لا يؤمن إلا بالدنيا؟ كيف أنه جاء من التراب، وسيعود إلى التراب، من نقر الصخر، ونقل البحر، وخرق الأرض، وركب الهواء، وفجر الذرة، وأنطق الجماد، فامتلأ كبراً وغروراً، حتى نسى من خلقه، فقال: أنا ربكم الأعلى؟!
ومن جعل من الحديد والنحاس آلات لها لسان، فيه أجلى البيان، وأذنان تسمعان، ما لا تسمع الآذان، وعقل يحسب ما يعجز عن حسابه عقل الإنسان؟
نعم، إنكم تستطيعون أن تصنعوا من المادة تمثالا على صورة الحبيبة، له لونها ولينها، وله رائحتها وحرارتها، وأن تلمسوه بأيديكم، وتسمعوا معه صوتها من الراد، وتروا صورتها في الرائي، فتشغلوا حواسكم الثلاث بها، ولسانكم بمناجاتها، وعقلكم بتصورها، ولكن هل يغنيكم ذلك عن جسدها النابض بالحياة؟
هل تجدون في ذلك لذة الوصال؟
كلا. إنكم صنعتم الجسد، ولكنه كان جسداً بلا روح. وكذلك كانت حضارتكم
لقد ملكتم عالم المادة، ولكنكم خسرتم عالم الروح تقولون: ما عالم الروح؟
أما قمتم مرة في هدأة الليل، فتأملتم صفاء السماء ولمعة النجم، فأحسستم في قلوبكم بعظمة الكون؟
أما سمعتم مرة نغمة عذبة تسري في جنبات الليل سريان الصحة في الأجسام، فحلمتكم نبراتها إلى أودية الأحلام؟
أما قرأتم مرة قصة فوجدتهم لها ختمتموها أنكم فقدتم شيئا، وأحسستم في نفوسكم فراغاً، وأنكم هبطتم من الفضاء الواسع إلى أرض الواقع؟ أما تركتم مرة زحمة الناس، وضجة الحياة، ودخلتم بيتاً من بيوت الله ساكنا، فشعرتم بهوان الدنيا، وصغر الأرض، في جنب الله الملك الجبار، ووجدتم حلاوة الإيمان ولذة الاستغراق في العبادة؟
هذه لمحات من عالم الروح
وما لمعات العبقرية المبدعة إلا لمحات أخرى: يد تستطيع أن تحرك الستار، فتبدو من خلاله خطفات من مشاهد ذلك العالم تظهر في اللحن الخالد أو القصة أو القصيدة أو في هجمة ذهن جبار على الشاطئ القريب من بحار المجهول
ولكنكم حبستم نفوسكم من كثافة المادة في غار مغلق فلا ترون من بياض النهار إلا هذه الومضات تلمع من شقوق الصخر ثم تختفي
إنكم غارقون في لج المادة، فمن أين يتنفس الغريق في البحر نسمات الأسحار؟
إنكم تركضون في حلقة مفرغة، تسيرون سير السواني، تفيقون فتسرعون إلى الطعام تبتلعونه ابتلاعا، والجريدة تلتهمونها التهاماً، فإذا لبستم ثيابكم أسرعتم إلى العمل فانغمستم فيه، فإذا كان الظهر عدتم مسرعين إلى الدار فأكلتم وأسرعتم إلى الخروج، ثم عدتم مسرعين إلى المنام
ثم بدأتم من غد من حيث انتهيتم اليوم! ركض أبداَ، وإسراع دائما، ولا تعرفون إلى أين المسير!
قد غفلتم عن جمال الطبيعة من حولكم، فأنتم تقطعون أجمل مراحل الطريق، مرحلة السحر وأنتم نيام، لا تقفون على الروض تجتلون جمال الروض، ولا ترفعون أبصاركم إلى السماء، تفكرون في عظمة السماء، وغفلتم عن نفوسكم، فلا تخلون بها سعة كل يوم، تسألونها، وتتعرفون أسرارها، وتغوصون على جواهرها
حياتكم كلها مسرعة وسباق! سباق في الخير والشر، إسراع إلى الشر والخير
تسابقتم في قطع المسافات، فصرنا نطير من دمشق إلى بغداد في ثلاث ساعات، وكنا نبلغها في ثلاثة أشهر، فهل ربحنا؟ ربحنا الزمن، ولكنا خسرنا العواطف والشعور. كان الطريق يثير في نفوسنا ألف عاطفة، ويبقي فيها ألف ذكرى، نعيش بها دهراً، فصرنا نقطعه في غمظة واحدة! وتسابقتم في العلم والفن، وفي القتل والتخريب، تهدمون في ساعة، ما تبنونه في سنين، فعل الأطفال والمجرمين والمجانين!
وها أنتم هؤلاء تتسابقون، أيكم أسرع إلى إهلاك البشر، بحرب شيطانية مدمرة لا تبقي ولا تذر. فمتى يستريح هذا الركب المجنون، الراكض المسرع، الذي يقفز كأنه يدوس على ظهور العقارب، ويجري كأن شياطين الجحيم جميعا تطارده
متى يسأل نفسه: ما الغاية، وما المصير؟
متى يقف لينظر إلى أين بلغ، وإلى أين المسير؟
أين يلقى المحطة في هذا السفر الطويل الذي لا غاية له، ولا أول ولا نهاية
في رمضان!
في رمضان يا أيها القارئ
هذه هي المحطة التي أقامها الإسلام في طريق البشرية لتقف عليها وقفة كل عام، تفرع فيها من هم البطن، وهم ما تحت البطن، ليسأل كل نفسه: من أنا؟ من أين جئت وإلى أين أصير؟
من أنا؟ أنا خط طويل، أقله في النور، وسائرة في الظلام، لقد كنت قبل أن اعرف نفسي، وسأبقى بعد ما يذهب عقلي وحسي، ولو حق لي أن أنكر مصيري بعد الموت لأني لا أراه، لحق لي أن أنكر ماضي قبل الولادة لأني ما رأيته.
وما أحوج أبناء هذه الحضارة اليوم إلى مثل هذه المحطة في طريق الحياة!
ما أحوجكم إلى من يذكركم بأن في الوجود ربا، وأن بعد الدنيا آخره، وأن الله ما خلق الناس عبثا، ولا تركهم سدى.
إنكم أغنى منا مالا، وأقوى قوة، وأكثر عمرانا، وأعرف منا بأسرار المادة وسنن الكون، ولكننا أغنى منكم بكنوز الروحيات، فتعالوا خذوا منا، فإن الإنسان قد عاش بلا علم ولا مال، ولكنه لا يعيش بلا روح.
ولقد جعل الإسلام الصلوات الخمس كل يوم، لتعود الروح في هذه اللحظات، إلى عالم الروح، وجعل الصيام شهراً في العام لينطلق الإنسان من إسار المادة شهراً في العام، ويحس اللذائذ العليا، ويتصل بالله لذلك كان رمضان
فيا من لهم رمضان! لا تظنوا رمضان شهر جوع وعطش! إن رمضان شهر صفاء وحب وتأمل، وترفع عن المادة وأوضارها، وعن شهوات النفس وأوزارها، وإعراض عن مشاهد الطريق، للتفكر في غاية الطريق
ويا من ليس لهم رمضان! اجعلوا لنفسكم رمضان مثلنا، تعودون فيه إلى نفوسكم التي نسيتموها، وإلى إنسانيتكم وإلى ربكم
ويا أيها القراء من إخواننا العرب في العالم الجديد، ترجموا هذا الكلام، لإخوانكم (الأمريكان) ليعرفوا ما هو رمضان
علي الطنطاوي