مجلة الرسالة/العدد 987/حسن البنا الرجل القرآني
→ فضل المدنية العربية على المدنية الغربية | مجلة الرسالة - العدد 987 حسن البنا الرجل القرآني [[مؤلف:|]] |
(إندونيسيا ← |
بتاريخ: 02 - 06 - 1952 |
6 - حسن البنا الرجل القرآني
بقلم روبير جاكسون
للأستاذ أنور الجندي
(يروي روبير جاسكون في هذا الفصل قصة لقائه مع الشهيد
البنا)
في فبراير سنة 1946، كنت في زيارة للقاهرة. . وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت في النيويورك كرونيكل بالنص:
(زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخالمعارصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان. وقد صار الإخوان عاملا مهما في السياسة المصرية، ويقال إن جملة الإخوان 80 % من لجان العمال والطلبة الذين كانوا في طليعة الحوادث الصاخبة الأخيرة في مصر. ويقول الأستاذ البنا: إن حركة الإخوان فوق الأحزاب، وسبيلها هو العودة إلى القرآن، وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء الدنيا.
هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مبكرا. . وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم جيدا أن الشرق يطمح إلى مصلح يضم صفوفه، ويرد له كيانه، وطالما رجا الكتاب والمفكرون الغربيون اقتراب اليوم الذي يتحقق فيه هذا الأمل.
غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى، انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف. . وبطريقة شاذة!
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده. .
. . لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة، عندما.
كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة بكرى من زعماء مصر ورؤساء الأحزاب فيها.
كان هذا الرجل خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية. لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة؛ وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني.
وظل الرجل صامتا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي، قل لهم قولوا له شيئا واحدا: عل قرأت عن محمد؟ قلت نعم. قال: عل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت نعم. قال هو ما نريده.
وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير مما حاول بعض أنصار البنا أن يقولوه لي
. . لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته.
كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل على الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها، بل في الشرق كله.
وسافرت من مصر بعد أم حصلت على تقارير وافية ضافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقد قرأتها جميعا وأخذت أقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد عبد الوهاب، فوصل بي البحث إلى أن الرجل قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء. ومن أمثلة ذلكم أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين، جرى على أحدهما الأفغاني، وارتضى الأخر محمد عبده.
. . كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية. . وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين معا، وأن يأخذ بهما جميعا، كما أنه وصل إلى ما لم يصلوا إليه، وهو جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى مذهب موحد، وهدف محدد.
ثم أخذت أتتبع خطوات الرجل بعد أن عدت من أمريكا وأنا مشغول به حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا، مما انتهى إلى اعتقال أنصاره، وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه، ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته.
وبالرغم من أنني كنت أسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن، وأنه لم يزد على جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله، غير أن معركة فلسطين، ومعركة التحرير الأخيرة في القنال، قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة. . قل أن تجد لها مثيلا، إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية.
وقد تقرر أن الرجل كان بعيد الأثر في كثير من الأحداث العالمية التي وقعت في الشرق، بل إن ما وقع في إيران كان خليقاً أن يقع في كل بلدان الشرق، لو طال عمر هذا الرجل. . وكان يمكن أن يتحقق لهذه البلاد الكثير لو اتفق حسن البنا وآية الله كاشاني على أن يزيلا الخلاف بين الشيعة وأهل السنة.
لقد التقى الرجلان في الحجاز سنة 1948، ويبدو أنهما تفاهما ووصلا إلى نقطة رئيسية لولا أن عوجل حسن البنا بالاغتيال.
كل ما أستطيع أن أقوله في هذه المقدمة، أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وهي المغريات الثلاث التي سلطها المستعمر على المجاهدين، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه.
وقد أعانه على ذلك صوفيته الصادقة، وزهده الطبيعي، فقد تزوج مبكرا، وعاش فقيرا، وجعل جاهه في ثقة أولئك الذي التفوا حوله، وأمضى حياته القصيرة المريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة، وأسباب الترف الرخيص.
وكان يترقب الأحداث في صبر ويلقاها في هدوء، ويتعرض لها في اطمئنان، ويواجهها في جرأة.
لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من اضخم الأحداث في الشرق، فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشواى، ومات عام 1949، وهو عام إسرائيل.
وكان الرجل عجيبا في معاملة خصومه وأنصاره على السواء، كان لا يهاجم خصومه ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلى صفة، وكان يرى أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة.
وكان يؤمن بالخصومة الفكرية، ولا يحولها إلى خصومة شخصية، ولكنه مع ذلك لم سيلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة. .
كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي، ويصارع في مثل بيئة الحسين، فمات مثلهم شهيدا.
وإنني على أتم يقين من أن أي حركة وطنية يمكن أن تظهر في الشرق بعد ذلك يمكن إرجاعها إلى المقاييس التي وضعها هذا الرائد العملاق.
ولا يستبعد أن نؤرخ به الحوادث بعد قليل. .
لقد سمعت الكثير من خصومه، وكان هذا طبيعيا، بل كان من الضروري أن يختلف الناس في رجل استطاع أن يجمع حوله هذا الحشد الضخم من الناس بسحر حديثه وجمال منطقه، وقد انصرف هؤلاء من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية والقهوات ودور اللهو.
وكان لابد أن يصبح هذا مثار حقد بعض الناس الذين أدهشهم أن يستطيع هذا الرجل المتجرد الفقير أن يجمع إليه مثل هذا الشباب.
ومن الأمور التي لفتت نظري أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله، تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة، فقد ظل عبد الرحمن ومحمد وعبد الباسط، وهم أخوته بعيدين عن كبريات المغاصب، ولطالما كان يحاسبهم، كما كان عمر يحاسب أهله ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا.
وقد أتيح لي أن ألقي بوالده الوقور، الشيخ عبد الرحمن البنا، وسمعته يتحدث مع بعض الإخوان. أنه كان يتمنى لو أن ابنه وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفى بذلك؛ وقد رد عليه الأستاذ البنا بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق إنشاء الجماعات وتأليف الرجال
للكلام صلة
أنور الجندي