الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 986/جوته

مجلة الرسالة/العدد 986/جوته

بتاريخ: 26 - 05 - 1952


حياته وكتبه

للكاتب الألماني توماس مان

للأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

عندما دقت الساعة الثانية عشرة في الثامن والعشرين من أغسطس سنة 1749، ولد في بيت نبيل من نبلاء فرانكفورت طفل شاحب اللون تبدو عليه علائم الموت بعد شدة مضنية من أم تبلغ الثامنة عشرة. . . لم تمض بضع دقائق على ذلك حتى نادت الجدة التي كانت قابعة على الفراش. . (اليزابيث، إنه حي!).

كانت هذه الصرخة، صرخة امرأة إلى أخرى، وكان الصوت صوتاً رقيقاً فيه المرح والفرح وفيه البشرى والحبور. إن الطفل الذي اجتاز البوابة السوداء محتقناً ضعيفاً، كان مقدراً له أن يقضي حياة فيها جلالة الوجود وعظمته. مضى على ذلك ثلاث وثمانون سنة تقلبت عليه صفحات من التاريخ تحته ومنها حرب السبع سنوات، ونضال أمريكا في سبيل الاستقلال، والثورة الفرنسية، وقيام نابليون وسقوطه، وانحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وانبثاق فجر العصر البرجوازي.

هذا الشيخ الذي تعاقبت عليه كل هذه الحوادث، يقف أمام منضدته برأسه الأشيب وثباته والحلقات الغريبة من عمره المديد تضفي ظلالاً على عيونه السنجابية وتكسبها معنى خاصاً وهو يكتب آخر رسالة إلى صديقه القديم، الفقيه والسياسي (ولهلم فون همبولدت) في برلين فيقول في سياق رسالته (العبقرية هي تلك الموهبة التي تتشرب كل شيء دون أن تسيء إلى مقدراتها الأصلية. . وبالممارسة والتعلم والنجاح والتأمل والفشل - وبالتأمل أكثر فأكثر - تمتلئ أعضاء الإنسان بحريتها الغريزية إلى أن توحد المكتسب بالكامل لتنتج وحدة منسجمة تدهش العالم. المخلص غوته. .) وما كادت تمضي على وفاة جوته أيام قليلة حتى كتب فون همبولدت صاحب الشخصية الوهاجة الصريحة. . كتب معلقاً بأن هذا الإنسان أثر تأثيراً لا شعورياً وبمجرد وجوده فقط وبدون مشقة بما يحيط به وقال (إن هذا التأثر منفصل كل الانفصال عن عمله الإبداعي كمفكر وككاتب، ومرجع ذلك إلى شخصي العظيمة وعبقريته الفذة. إن شخصية كهذه هي التي تمكنت بقوتها الخاصة من جذب أنظار العالم إليها بصورة مدهشة، فكأن الطبيعة شاءت أن تظهر فيه سراً من أسرارها العجيبة). وقد عرض جوته يوماً من الأيام إلى ذلك بقوله (إن العوائل التي تستمر طويلاً في وجودها تبدع قبل انقراضها شخصاً يجمع كل ميزات أجداده بالإضافة إلى العواطف والمطامح الكامنة التي ظلت خافية عن الأنظار) ويعني هذا بمفهومنا العصري أن جوته لا يقصد من ذلك إلا نفسه. ولنا أن نتساءل وكيف حدث ذلك؟ وما يعني الاندماج في الحقيقة؟ إن جميع ذلك حدث - وما يزال يحدث - بصورة عفوية بسيطة، وكثيراً ما امتزجت عوائل وتزاوجت، وهذا التزاوج والتمازج يبدوان جليان فيما لو لاحظنا ما يحدث بين ممتهني الحرف المختلفة من كافة العوائل والطوائف والملل، ولنا في عائلة (لند هايمر) التي تصاهرت مع عائلة (تكستر)، مثال واضح لعائلة نزحت من فرانكفورت التي هي في جنوب ألمانيا، واتصلت بعائلتي غوته وتكستر، اللتين تسكنان في الشمال ما بين غابة ثورجينيا وجبال هارس. إنني أعتقد شخصياً أن عرق لند هايمر ينتسب بصلات قوية إلى الرومان - أي إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط - كما أن لها نسباً بالعروق البربرية التي امتزجت بها من زمن بعيد، وأن هذه العائلة كان لها التأثير الحاسم في تكوين طبيعة الشاعر العظيم، فقد ورث عن أمه - التي هي من هذه العائلة - والتي كانت قوية البنية، واضحة الملامح رقيقة المزاج، سمراء اللون، ورث منها - اعتماداً على الصور التي في حوزتنا - جبهته وشكل رأسه، واتجاهاته الفكرية الكلاسيكية، ورغبته في الأسلوب الجلي الواضح، وروحه المرحة، وسخريته، وجاذبيته، ونقداته، وكراهيته للطبيعة الألمانية، ومع ذلك فأن الطبيعة الألمانية كان لها تأثير غير منكور فيه يتبين ذلك من هدوئه ونقده الرائعين اللذين يمتاز بهما الألمان، أما من الناحية البايولوجية، فقد كان هذا الاتحاد العائلي مقدراً له أن ينتج هذه الظاهرة الملائكية. كان جده خياطاً يدعى فردريك جورج غوته، وكان فاشلاً في أعماله، تزوج مرتين ومات أكثر أولاده الأحد عشر في سن الطفولة إلا ثلاثة وأكبرهم كان مختل العقل، مات في سن الثالثة والأربعين مجنوناً لا رجاء فيه. أما والد الشاعر جوهان كاسبر، فقد كان العاشر لأبويه، وأصبح قاضياً يلقب بـ (المشاور الإمبراطوري) وكان هذا رجلاً شرساً مغضاباً يعيش في عزلة عن الناس، ولم يقم بواجب وظيفته مطلقاً، وأما زوجته (اليزابيث) فقد ولدت له ستة أطفال، عاد منهم أربعة إلى عالم الظلال مبكرين، وبقيت أخت (وولف كانغ)، فرناليا، وكانت تعسة كئيبة، وكان الأجدر بها أن تكون راهبة من أن تكون زوجة كما قال أخوها، ومع ذلك فقد تزوجت لكي تموت في أيام نفاسها، تلك الأيام التي كانت تنظر إليها بعين ملؤها المقت والكراهية. وهكذا عاش (وولف كانغ) وحيداً فريداً، وقد تمكن أن يعوض بحياته المديدة عن حياة الجميع، ولكن حياته الأولى كان يعوزها الصحة كما كان الحال مع الآخرين، فداهمه السل طوال حياته الجبارة، ذلك المرض الخبيث الذي كان كامناً من سنين كثيرة في أعماقه، على أن هذا المرض لم يمنعه من الدراسة ودليل ذلك التحاقه بمدرسة (لنبرغ). وقد تألم كثيراً من النزيف الذي كان يعاوده بين حين وآخر مما اضطره إلى العودة إلى بيته شاباً مهيض الجناح، فاشلاً في دروسه ليزيد في آلام والديه. ولكن ذلك لم يدم طويلاً، لأن قواه عادت إليه في (ستراسبورغ) ما بين سن العشرين والثالثة والعشرين، حيث أكمل دراسته الحقوقية وسط صعوبات هائلة، وبعد أن تراجع عن منهاجه الذي رسمه لنفسه، وأخيراً حصل على الليسانس من كلية (وتيسلر - آن - ديرلاهن).

اشتغل الشاعر مدة من الزمن في المحاكم الإمبراطورية بصورة رتيبة، وبدون أي رغبة، وهكذا نراه لم يعمل شيئاً يستحق الذكر، غير انهماكه في الحب والتألم والأحلام والكسل، وغير تركه لروحه لتنمو نمواً حراً بديعاً في عوالم الأحلام. لقد كان يجذب إلى نفسه، بأسلوبه الخاص في لباسه وعاداته وتقاليده، يجذب إليها سخرية الناس وضحكهم واستهزاءهم، إلا أن ذلك لم يكن يؤثر في جاذبيته المشعة، وشبابه النادي، وتباهيه وخيلائه، كما أن موهبته الإشعاعية التي كانت تظهر بصورة جلية، كانت تنز بالقوة الجبروتية والروح المتعالية الوحشية، على أن هذه الروح تأنست بسذاجته التي لا توصف، وطيبته الحلوة وشبابه الغض البهي. كان رائع الجمال، وصديقاً حميماً للأطفال وللناس العاديين، لا بل أنه كان صديقاً للطبيعة نفسها، وكان في نفس الوقت (يشبه العصفور في تنقلاته وتجواله) كما حدثنا بذلك الشاعر هردر (كان سيداً عالي الجناب، ولكن بأرجل ضعيفة كأرجل الديك). وقد كتب غوته يوماً عن نفسه قائلاً: (أنا لا أعرف ما هو نوع التأثير الذي يكمن في، والذي يجذب الناس إلي، إن أكثر الناس تحبني، ولا طاقة لي بمعرفة ذلك).

ولابد أن هذا التعلق كان في أوجه عند بلوغ شاعرنا السادسة والعشرين، وخصوصاً لما أصبح مؤلفاً ذائع السيط، وناظماً لقصائد بارعة الجمال، ومن هذه المؤلفات كتابه (برلنكن) و (فرتر) وقطع شعرية أخرى من قصيدة (فاوست). إن جميع ذلك جعل من دخوله إلى (وايمر) نصراً رائعاً له، حيث ضمه إلى حاشيته دوقها الصغير، وكان غرضه من ذلك زيارة للمدينة ليس إلا. إن هذه الزيارة طالت حتى شملت كل حياته. وإذن فدخوله إلى (وايمر) والتحاقه بالوظيفة فيها كان مجرد صدفة، هذه الصدفة التي خدمت خطته النفسية، والتي أسماها (القيادة من أعلى).

اتصل جوته بالأمير (كارل أوغست) في (كارلز روهه)، يتوسط اثنين من الأرستقراطيين المعجبين به. وخطب هناك (ليلي شون مان) ابنة أحد نبلاء (فرانكفورت) ولكن خطوبته هذه لم تكن مستندة على حب أو افتنان، لأن الخاطب الصغير كان تعيساً جداً في أعماق قلبه، على ما حدث له من خبال كاد يمنع نفسه النقية من أن تقوم بواجبها، فاضطره ضجره إلى الهروب، فهرب إلى سويسرا بصحبة نبيلين متحمسين له، وكان قلبه يصرخ من أعماقه (يجب علي أن أذهب إلى العالم) وكان لصوته هذا صدى عميق في كتاباته، أما الصوت الذي تجلت فيه هذه الصرخة، فقد كان صوت عمله الحبيب، حياته التي كانت في أوج جاذبيتها وكمال نضجها، هذا الصوت الذي تكلل بالجمال والجلال، والعظمة الحقة، إنه صوت فاوست الذي أريد له أن يظهر في عالمنا هذا ذي الشئون والشجون، بصورة باهرة عذبة، جميلة رائعة فخمة.

وقع كارل أوغست في حبائل الحب مرتين، الأول تعلقه بالأميرة لويزا من (دار مستاد) والثانية مع الدكتور غوته نفسه، ولما تلاقيا كان كارل أوغست متزوجاً وأميراً ذا نفوذ وسطوة، فوضع كلاً منهما - أي لويزا وغوته - تحت رعايته وكانت عاصمته الصغيرة (مانيتز) ومن حولها القرى مسرحاً للصيد والفروسية، وقد بلغ بشاعرنا السرور غايته القصوى، إذ كان يتمتع بالجاه العريض والنفوذ الواسع، وبمصادقته وحبه للمتعلقين به كان يضفي عليهم شخصيته وشرفه وعظمته، حتى أصبح ذلك كله مدعاة لكراهيته!

يتبع

بعقوبة - العراق يوسف عبد المسيح ثروة