مجلة الرسالة/العدد 986/أثر المدرسة المصرية في الثقافة
→ إسماعيل بن القاسم | مجلة الرسالة - العدد 986 أثر المدرسة المصرية في الثقافة [[مؤلف:|]] |
رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1952 |
للأستاذ ثروت أباضة
- 2 -
ويعقب عنصر معرفة الجهل حب المرء للعلم أو الفن، وهذا الحب يكون وليد البيئة أو الصدفة، فكثيراً ما نرى شعراء لم يتلقوا في المدرسة علوماً، بل إن الشعراء الأقدمين جميعاً لم يعرفوا سبيلاً إلى المدرسة، وإنما هي الملكة والثقافة الحرة. وهكذا الشأن أيضاً مع القادة الأول الخالقين للنظريات العلمية الجليلة الأثر في الحياة العصرية، وأذكر منهم أديسون واستيفنسون.
يلي ذلك الصبر والمثابرة، إذ لابد للمثقف أن يقرأ ويكثر من القراءة، بل لابد أيضاً أن يصبر الإنسان نفسه فيقرأ ما لا يسيغه ليصل إلى ما يريد، فمن الأدباء مثلاً من لا يحبون النحو ولكن لا غنى عنه لاستكمال ثقافتهم الأدبية. ومن رجال القانون من لا يحبون علم المالية العامة مثلاً أو القانون الروماني، ولكن لابد لنا مما ليس منه بد، فهم يقرأونه بل ويدرسونه ليتموا ثقافتهم القانونية، هذا هو الصبر الذي أعنيه.
أهم العناصر جميعاً هو العقلية. . هناك عقليات حديدية مهما تثقفت بقيت جامدة، فإنك لتجد كثيراً من العلماء في القانون مثلاً أو الطب لا يعرفون عن غير علمهم في الحياة شيئاً، وإذا جلست إليهم وتحدثوا في غير ما يجيدون وجدتهم إلى العوام أقرب ما يكونون، وأشبه شيء بالقلم الرصاص يراه صاحبه من ناحية واحدة لا يكتب إلا منها فإن أدرته في يدك صار خشباً.
ليس حتماً على المثقف أن يعرف كل شيء، ولكن حتم على من يريد أن يقال عنه مثقف أن يفهم، والفهم من الله هبة إذا لم يعطها لإنسان فحسبه وحسبنا معه الله ونعم الوكيل.
بعد هذا العرض السريع للثقافة والتثقيف دعونا نتوكل على الله ونذهب إلى أبواب المدارس والجامعات المصرية لنرى ما تصيب الثقافة من هذه البيوت التي يقول عنها شوقي الخالد. .
بيوت منزهة كالعتيق ... وإن لم تستر ولم تحجب
يدانى ثراها ثرى مكة ... ويقرب في الطهر من يثرب إذا ما رأيتهمو حولها ... يموجون كالنحل عند الربى
رأيت الحضارة في حصنها ... هناك وفي جندها الأغلب
هكذا تصور أمير الشعراء المدرسة. . أتراه كان في هذه الأبيات شاعراً خيالياً أم شاعراً واصفاً. رحم الله شوقي لقد رسم المثل الأعلى للمدرسة وأرادها حصن حضارة وغاب جنود. . ترى هل مدارسنا المصرية هكذا؟ هل تعمل المدرسة المصرية على تثقيف تلاميذها والارتفاع بمستواهم العلمي والأدبي؟ وهل يتجه الجهد في هذه المدارس إلى العناية بهؤلاء التلاميذ حتى يصبحوا كما قال شاعرنا الخالد جند الحضارة الأغلب وحصنها المكين.
إنه مما يؤسف له حقاً أن الجواب (لا)، إن المدارس المصرية لا تعمل على هذا، وإذا كان لابد لنا من التفاؤل فلنقل إن أغلب المدارس المصرية لا تعمل على هذا حتى الآن.
فمدارسنا المصرية مازالت تسير على النظم القديمة في التربية وهي المعروفة باسم التربية التقليدية. وحسبكم أن تعرفوا أن طريقة وست لتدريس اللغة الإنجليزية هي أحد النظم التي أدخلت إلى المدارس المصرية، وطريقة وست هذه فيما وصل إلى علمي معمول بها منذ نصف قرن أو أقل قليلاً، أي أن أحدث تجديد حصل في طريقة التدريس بوزارة المعارف كان منذ خمسة وعشرين عاماً. وبعد هذه الحقبة الطويلة من السنين تألفت لجنة قائمة الآن تحاول أن تتحرر من هذه الطريقة مبقية على أجزاء يسيرة منها.
نظام التربية التقليدية إذن هو النظام السائد في المدارس المصرية، وهذا النظام من شأنه أن يتوجه بعنايته إلى المواد الدراسية، فنرى المدارس وقد أوسعتها تبجيلاً واحتراماً، ونرى التلاميذ ركعاً لهذه المواد سجداً يؤمهم في صلاتهم البوذية رائدوهم من الأساتذة والمربين، فالمادة العلمية هي السيد الذي لا يحفل بالميول الشخصية ولا يعبأ بالاستعداد الطبيعي، وإذا كانت المدارس في أصل نشأتها قد قامت ليستفيد منها التلاميذ بالمواد إلا أن المدارس نفسها قد رأت أن تستفيد المواد بالتلاميذ، ثم استقرت على رأيها فوجدت أن الأمر هكذا أهدى وأيسر سبيلاً. فليس من الضروري عندهم أن يتفهم التلميذ المادة ويفقهها، بل حتم عليه أن يجيب إذا سئل، وحق عليه العقاب إن سكت. بل لقد جرفهم هذا المذهب إلى ما هو أدهى من ذلك وأظلم، فالتلاميذ بناء على أوامر وزارة المعارف يطالبون فقط بما يلقى إليهم بين جدران المدارس، فإذا راق لتلميذ ما أن يدرس في خارج المدرسة متزايداً في علم يميل إليه فإنه يمتنع عليه كل الامتناع أن ينطق حرفاً مما تعلمه في الخارج. وإليكم مثلاً: لي صديق ظل يكتب في نقد الشعر مدة ثلاث سنوات في كبريات المجلات الأدبية ثم نقل إلى التوجيهية، وكان ضمن المنهج المقرر عليه فصل في نقد الشعر، ولكن صديقي بما يملك الشباب من غرور استكبر أن يذاكر هذا الباب، فحين امتحن أثناء العام في النقد، نقد الشعر الذي عرض عليه بغير الألفاظ التي ينقدها به النص مستحدثاً بذوق أدبي سليم فأبى عليه أستاذه هذا، وسقط في امتحان نصف العام. قد تقولون أنه مثل فردي يستثنى من القاعدة العامة والاستثناء لا قياس عليه ولا يتوسع فيه - ولكنه يؤسفني كل الأسف أن أقرر أن هذا الذي تعدونه استثناء، هو القاعدة التي يتوسع فيها ولا يقاس إلا عليها، وبحسبنا نظرة إلى كتاب من كتب النقد التي تدرس في المدارس حتى اليوم، فإننا نجد بيتين مثلاً يعقبهما النقد الذي يطلب إلى التلميذ أن يقوله، موضوعاً تحت الأبيات، يلزمه أن يقول إن في البيت إطناباً وحشواً، وركاكة في التعبير، وضعفاً في المعنى، أو يقول: إن في البيت جزالة في التعبير، وطرافة في المعنى، والنقد فيما نعلم، ذوق وتذوق، وليس ألفاظاً ونصوصاً، ولكنه في وزارة المعارف، هو هذه الكلمات التي أسمعها لكم الآن، بحيث يأتي الامتحان في آخر العام، والممتحن ملزم أن يسأل التلميذ في نص من هذه النصوص المقررة، والتلميذ ملزم أن يجيب بهذه الألفاظ المكررة، فإن رأى في الأبيات رأياً غير رأي واضع النصوص، فهو لاشك ساقط، وأقول لاشك لا استنتاجاً، وإنما عن علم، فهكذا درس لي النقد، وهكذا درس لمن أعرفه من زملائي وأخواني، وهكذا يدرس الأدب في المدرسة، فهو علم محفوظات، لا ماء فيه ولا استرواح، يمسك الذهن فلا يطلقه ويحده، وكان من شأنه أن يفسحه.
ذكرت الأدب مثلاً لأنه الفن الوحيد الذي يستطيع المدرس أن يجعل منه شيئاً جميلاً في أذهان الطلاب، فإن كان هذا الفن يسام هذا الخسف، فما الخطب بالجغرافيا والتاريخ والكيمياء والطبيعة. . كلها علوم جامدة مستعصية، ولكن الطريقة التي تتبع في المدارس اليوم تزيدها جموداً واستعصاء، وأيسر مثال لهذا أنني اليوم لا أفهم من الكيمياء كلها إلا أن الماء يتكون أكسوجين وأيدروجين فيه 1، 2 أيهما الواحد وأيهما الاثنان، نسيت. أما باقي المنهج الذي درسناه وهو ما يملأ كتاباً يقع في خمسمائة صفحة من القطع الكبيرة فأنا لا أعرف منه شيئاً، وأقول لا أعرف لا لا أذكر، ومع هذا فقد امتحنت في الكيمياء ونجحت لأنني - وأعترف - حفظتها على غير فهم، فما سلمت ورقة الإجابة إلى المراقب حتى سلمت معها كل ما كنت أحفظه. قد يكون غباء ما ألم به إزاء الكيمياء، غير أني أجد الكثيرين من الأذكياء يشاطرونني هذا الجهل.
العلوم أشياء جامدة ينفخ فيها المدرس من روحه فيهب فيها الحياة، ولا يهب الحياة إلا خالق، ولا يصل إلى مرتبة الخلق إلا من تكاملت مقوماته وتوثقت ثقافته، ولا يمكن لهذه المواهب أن تكتمل، ولا لهذه الثقافة أن تتوثق إلا لشخص اطمأنت له جوانب الحياة وارتاح في مجال حياته، وهدأ تفكيره فيما يرتزق منه. أما إذا أكبت عليه المطالب الدنيوية وعلا صراخ أطفاله في أذنيه وانسعرت من حوله الأيدي المطالبة، وانثنت عنه الأيادي الواهبة، فلا أمل لنا فيه وقد كان المدرس إلى عهد قريب لا ينال من العناية المادية ما يشجعه على المضي في أداء الرسالة الضخمة الملقاة على عاتقه، فإن كان قد أهمل أو تراخى فلا جناح عليه، وإذا كان قد قدر لواحد من هؤلاء المدرسين أن يتغلب على هذه المصاعب المادية بروح له سامية أو بمورد آخر يدر عليه شيئاً، إذا كان قد قدر له هذا فهو لابد قد اصطدم وما يزال يصطدم بشاهقة أخرى تمنعه أن يخرج بتلاميذه عما أمرت وزارة المعارف دون التلاميذ، وشروط الإرضاء سهلة ميسورة، فما عليه إذا أراد أن يرضي المفتش إلا أن يتبع أوامر الوزارة في إلقاء درسه بعد أن يجمل كراسة تحضيره، فإن نفذ هذا أصابه من الخير ما تتقاصر دونه شم الهمم، وما على المدرس إذا أراد أن يرضي الناظر إلا أن ينجح تلاميذه في امتحانات السنة الدراسية، فيصبح له المكان السامق الرفيع، أما إذا أراد أن يرضي ضميره، فهو سيغضب المفتش والناظر جميعاً، وما أظننا نقسو عليه فنطالبه بإرضاء ضميره المستخفي في أغوار نفسه، ليغاضب الرؤساء، ويغاضب بعضهم عيشه وحياته.
البقية في العدد القادم
ثروت أباظة