الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 984/السيدة زبيدة

مجلة الرسالة/العدد 984/السيدة زبيدة

بتاريخ: 12 - 05 - 1952


للأستاذ عبد الواحد باش أعيان

لينحن التاريخ برأسه إجلالا لكثير من النساء النوابغ اللواتي سجلن أعظم الأعمال والمفاخر في صحائفه، وللمرأة العربية نصيب كبير في مفاخر التاريخ وروائعه، فمنهن الملكات الحازمات اللائى رفعن ممالكهن للسؤود والرفعة، ومنهن المحاربات البواسل، ومنهن الشواعر والأديبات، ومنهن من سجلن أعمال الخير والإصلاح في كثير من مرافق الحياة.

من أشهر هؤلاء النساء النوابغ وأعظمهن أعمالا للخير واهتماما في الإصلاح والتعمير هي الملكة العباسية الهاشمية السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد وأم الأمين وبنت جعفر بن (أبي جعفر المنصور).

ولدت سنة 165 هجرية في أحضان العز ومهد الدلال، وترعاها قلوب بني العباس ويحيطها حبهم ورعايتهم ولا سيما جدها الخليفة الحازم أبو جعفر المنصور وكان يؤثرها بعنايته وحبه.

وهو الذي سماها زبيدة لما رأى من نعومتها وبياض بشرتها، وقد كانت تجمع إلى الجمال الباهر والأدب العباسي السامي عقلا كبيراً وذكاء نادراً وعلماً وأدباً كبيرين.

وفي خلافة عمها المهدي زفت إلى ابن عمها هارون الرشيد فكانت ليلة زفافها من الليالي المشهورة في بغداد يوم ذاك بالروعة والبهاء والفرح، وقد نثرت اللآلئ في جنبات طريقها على البسط الموشاة بأسلاك الذهب. وقد ألقى عليها من غالي الجواهر واللؤلؤ ما أثقلها وعاقها عن السير، فكانت عند زوجها وقد استأثرت بقلبه وخلص لها من دون جواربه وسراريه اللواتي يملأن قصره، وقد شغف بها الرشيد واطمأن إلى رأيها وتدبيرها وكمال عقلها حين أصبح خليفة، فأخذ يسترشد برأيها في حل المعضلات من أمور الدولة الإمبراطورية الإسلامية في ذلك العصر الذهبي، وأطلق يديها في بيت المال تنفق ما تشاء، وقد أنفقت أموالا عظيمة في الإصلاح والخيرات، تلك الأعمال التي خلدت اسمها بين أعظم نساء العالم كرماً وخلقاً وشرفاً، وسبقت من تقدمها من نساء الإسلام في الأعمال. ولقد قيل إنها أنفقت فيما ابتنت في طريق مكة من مساجد ومنازل ومشارب مليونا وسبعمائة ألف دينار زيادة على ما أنفقته (ويقدر بأكثر من مليون دينار) حين أوصلت الماء إلى مك في الحجاز من العين المعروفة بعين زبيدة، فقد كان المكيون والحجاج ينقلون الماء من مسافات بعيدة مضنية لشربهم وريهم وسقي حيواناتهم، وكان يتكلفون بذلك ويجهدهم فلما حجت الملكة المصلحة السيدة زبيدة أمرت بإحضار المهندسين والعمال وأن يقدروا كلفة العمل وما يتطلبه من المال فبلغ مبلغاً كبيراً استثقله خازنها فقالت كلمتها الخالدة (اصرف ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً) فلم تزل حتى تم لها ما أرادت ووصل الماء إلى مكة من مسافة اثني عشر ميلا في أرض وعرة المسالك. ولا زال منذ عهدها إلى اليوم. ولها أعمال أخرى لا تقل عما تقدم فخراً ومنفعة؛ فقد ابتنت المساجد الكبيرة الواسعة في أطراف بغداد ليتعبد فيها المسلمون فابتنت مسجداً قبالة دار الخلافة يسمى مسجد زبيدة وآخر في أراضيها وأملاكها الخاصة المعروفة بقطيعة أم جعفر وثالث بين باب خراسان ودار الرقيق ورابعاً البيت الذي ولد فيه الرسول بمكة ويسمى دار ابن يوسف، وكانت إلى كل هذا توزع العطايا والهبات على الفقراء والمحتاجين والأيامى كما كانت لا تتردد في مساعدة ذوي الحاجة من كبار رجال الدولة والمملكة.

ولقد كانت أما رؤوما تحنو على ابنها الوحيد محمد الأمين وتعني به عناية كبرى وتحبه حبا جما، فمن ذلك ما رواه خلف الأحمر وكان قد دعاه الرشيد لتدريس ابنه الأمين يقول: جاءتني جارية يوماً برسالة من أم جعفر (زبيدة) تعزم علي بالكف عن معاملته بالشدة في تعليمه وتأديبه وأن أجعل له وقتاً لاستجمام بدنه فقلت: الأمير قد عظم قدره وبعد صيته. وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير ولا يقبل منه الخطل ولا يرضى منه الزلل في النطق والجهل بالشرائع والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة (فقالت صدقت غير أنها والدة لا تملك نفسها ولا تقدر على كف إشفاقها).

وعلى ذكر ابنها الأمين، فإنه لم يكن بين خلفاء الإسلام من كان أبوه وأمه من بني هاشم غير علي بن أبي طالب وابنه الحسن والأمين بن الرشيد وفي ذلك يقول أبو الهذيل الشاعر:

ملك أبوه وأمه من نبعة ... منها سراج الأمة الوهاج

شربت بمكة من ذرى بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج ولقد ماتت للأمين بنت اسمها (أم موسى) كان شديد الكلف والحب لها فجزع عليها جزعاً شديداً فسمعت بذلك زبيدة فقدمت إليه وعزته ببلاغتها

نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف

عوضت موسى فهانت كل مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف

وكان لها قصور عديدة جميلة تتناسب مع مكانة الملكة الشابة، منها قصر السلام وقصر القرار وغيرها في ضيعاتها وأملاكها الواسعة. وكانت على جانب كبير من الكرم والسخاء فيقول المسعودي (كتبت مرة تسأل أبا يوسف (رئيس القضاة في بغداد) تستفتيه في مسألة فأفتاها بما أوجبت الشريعة وكان يوافق مرادها فأكرمته بحق من فضة فيه ألوان من الطيب (الروائح) وجام ذهب فيه دراهم وجام فضة فيه دنانير وغلمان وتخت فيه ثياب وحمار وبغل. . . الخ).

وذكر بعض المؤرخين أن لزبيدة يدا كبرى في نكبة البرامكة، فقد كانت تخشى من جعفر البرمكي على ابنها الأمين وكان يقوم بأمر المأمون في ولاية العهد. ولكن في وصيتها التاريخية لقائد جيش الأمين علي بن عيسى حين خرج بجيشه يريد محاربة المأمون وأسره، ففي تلك الوصية الخالدة تظهر النفس الكبيرة التي تتنزه عن الدنايا والقسوة الأحقاد وقد قالت له (يا علي إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي فإنني على عبد الله (المأمون) مستعطفة مشفقة لما يحده عليه من مكروه وأذى وإنما ولدي ملك نافس أخاه في السلطان، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته، ولا تساوه في المسير ولا تركب قبله إذا ركب وإذا شتمك فاحتمل).

وكانت على جانب كبير من الآداب والأخلاق كما كانت أديبة بارعة وشاعرة حساسة، وإليك أبياتا رقيقة باكية ترثي بها ولدها الأمين حين سمعت بقتله:

أودى بألفين من لم يترك الناسا ... فامنح فؤادك عن مقتلك الباسا

لما رأيت المنايا قد قصدن له ... أصبن منه سواد القلب والراسا

فبت متكئاً أرعى النجوم له ... أخال سنته في الليل قرطاسا

والموت كان به، والهم قارنه ... حتى سقاه التي أودى بها الكاسا

رزئته حين باهيت الرجال به ... وقد بنيت به للدهر أساسا فليس من مات مردودا لنا أبدا ... حتى يرد علينا قبله ناسا

هذه لمحة من سلسلة أعمال جليلة خلدتها تلك الملكة العباسية الطاهرة، وتلمس منها تدبيرها وأخلاقها وأعمالها الجبارة الباقية على مدى الدهر.

ولقد انطوت حياة هذه الملكة الكريمة سنة 216 هـ في بغداد بعد حياة كلها خير وجلال وسؤدد.

البصرة - العراق

عبد الواحد باش أعيان العباسي