مجلة الرسالة/العدد 983/الأصناف والحروف الإسلامية
→ حسن البنا الرجل القرآني | مجلة الرسالة - العدد 983 الأصناف والحروف الإسلامية [[مؤلف:|]] |
زكي مبارك ← |
بتاريخ: 05 - 05 - 1952 |
للدكتور عبد العزيز الدوري
تقديم
إن الناحية الاقتصادية من تاريخ المسلمين ناحية جديرة بالعناية والبحث لفهم ذلك التاريخ وما خلفه لنا من تراث. وهى على خطورتها لم تلق الاهتمام الذي تستحقه، نتيجة حداثة هذا الفرع من فروع البحث التاريخي من جهة، ونتيجة اعتقاد الكثيرين - حتى في الغرب - بأن ليس لدى المسلمين ما يدرس في هذه الناحية
ومن الطريف نواحي الحياة الاقتصادية تنظيمات العامة وتوجيه العمل في الحرف ولأصناف، فهي دليل حيوية اجتماعية، وظاهرة للشعور بالكيان مع رغبة في التعاون وإعلاء مستوى الصناعة وشأن أصحابها
وليس لي إلا أن أقدم الخطوط الأساسية، عارضاً فيها ما توصلت إليه ببحثي - خاصة في نشأة الأصناف والنقابات، مستفيداً في نفس الوقت من البحوث من سلف
وخلاصة رأيي الذي أعرضه هو أن تنظيم العمل كان نتيجة لظروف المجتمع الإسلامي، وأن أثر الحضارات القديمة هو في التراث الاجتماعي العام، وأن أوليات تنظيم العمل جاءت في اتجاهين: اتجاه سلمي هادئ يتمثل في حركات العيارين والشطار التي وسمت نفسها بالفتوة. وتلى ذلك اتصال الاتجاهين بدعايات الصوفية والقرامطة وبتشكيلات الفتوه وتطور الكل في اتجاه شامل
هذا ومن أراد التوسع أمكنه الرجوع إلى بعض البحوث خاصة تلك التي أثبتها في آخر الحديث
إن تنظيم العمل سواء كان ذاتياً أم صادراً عن جهة خارجية وثيق الصلة بأهميته في المجتمع وبأتساع نطاقه وبالأوضاع العامة المحيطة به. اجتماعية واقتصادية وسياسية
ولقد كان تنظيم العمل لدى المسلمين ذاتيا قام به أصحاب الحرف ووجهوه في مصلحتهم، فبدءوا بالتكتل ثم كونوا الأصناف والنقابات وساروا بها خطوات بعيده. ولكن هذه الناحية من تاريخ المسلمين لا تزال في إطار الفرضيات لغموض أولياتها، ولورود المعلومات عنها بعد أن قطعت مراحلها الأولى ويبدأ اختلاف الرأي في نشأتها؛ فهناك من يرى أن النقابات الإسلامية هي استمرار للنقابات البيزنطية (أو الساسانية) القديمة، فقد كانت في الهلال الخصيب ومصر نقابات عند الفتح ولا ينتظر أن يقضى العرب عليها إذ أن سياستهم العامة كانت إبقاء التنظيمات القديمة في البدء على الأقل
وهذا رأى يصعب البت فيه لأننا ليست لدينا إشارات تذكر عن النقابات قبل القرن الرابع الهجري وهي في هذه الأخبار تختلف عن النقابات القديمة
ويرى الأستاذ ماسنيون في بحث له أن الحركة الإسماعيلية هي التي خلقت النقابات الإسلامية وأكسبتها صفاتها المميزة لها ويعتقد أن النقابات الإسلامية كانت قبل كل شيء سلاحاً شهرة الدعاة القرامطة في كفاحهم لضم الطبقات لعاملة في العالم الإسلامي لتكوين قوة تضرب نظام الخلافة فخم إذن أوجدوا النقابات وسيطروا عليها لاستغلال أصحاب الحرف. (أنظر كتابه عن الحلاج)
ويعطى ماسنيون رأياً أقرب للقبول في بحثه في دائرة معارف العلوم الاجتماعية، فيبين أن النقابات نشأت في البلاد الإسلامية في القرن التاسع الميلادي، وأنها لم تظهر نتيجة لمطالب الشريعة، بل كانت نمواً طبيعياً للتطور الاقتصادي العجيب الذي حصل في هذه الفترة في المدن الكبيرة: بغداد أولاً ثم البصرة وحلب ودمشق والإسكندرية والقاهرة والري. ويرى أن التطور الاقتصادي يتمثل في تمركز رأس المال نتيجة ظهور أصحاب المصارف (الذين كانوا يمدون الدولة بالنقد) وبتمركز العمل نتيجة اصطياد الرقيق الاستعمارية التي كان يمولها أصحاب المصارف ثم يبين أن الأصناف الإسلامية كانت لها مميزاتها منذ البدء ومع أنها كانت متأثرة بالنقابات المحلية القديمة ببيزنطية وساسانية إلا أنها لم تكن مجرد بعث لتلك؛ بل كانت بالأحرى مظهر رد فعل اجتماعي عنيف لجماعات العمال وأهل الحرف والفلاحين ضد الطبقة الحاكمة التي جمعتهم واستبعدتهم. وينتهي إلى أن تاريخ النقابات وثيق الصلة بالحركة القرمطية التي تمثل اجتماعية اقتصادية دينية سياسية زلزلت العالم الإسلامي بين القرن التاسع والقرن الثني عشر والتي تطورت ووسعت التنظيم النقابي
ويذهب الدكتور لويس إلى هيكل النقابات الإسلامية موروث من العالم اليوناني الروماني، مع أنه لا يستطيع تحديد أصول تشكيلات النقابات وفيما إذا كانت بيزنطية أم لا ثم يرى أن الحركة القرمطية لعبت دوراً كبيراً في تطور النقابات وتركت أثراً عميقاً في تشكيلاتها. يذهب الدكتور لويس إلى تأييد الملاحظة الأخيرة ببعض الشواهد. فهناك اهتمام الإسماعيلية الخاص بالحرف وتخصيص فصل كامل في رسائل إخوان الصفا التي يتمثل فيها الميل الإسماعيلي لموضوع العمل فتقول الرسائل إن بعض الناس، (لا يعمل ولا يتعلم لكله وثقل طبيعة عن الحركة ويرضى بالذل والهوان في طلب معاشه كالمجدين السؤال. وأما من استولى عليه القمر لا يعمل من أجل مهانته واسترخاء طبيعته وقلة فهمه مثل النساء وأمثالهن من الرجال) وهذا تمجيد واضح للعمل
ويذكر تأييدا آخر في رأيه وهو أن النقابات كانت مضطهدة ومقيدة بقيود لا تعد في الخلافة العباسية وخاضعة لمراقبة المحتسب الذي كانت مهمته الأساسية (في رأيه) قتل أية محاولة للعمل المستقل فيها في بثها بينما كانت النقابات مرفهة وتتمتع برخاء عظيم ولها كيان حسن وامتيازات كبيرة عند الفاطميين
ويعتقد لويس بوجود آثار إسماعيلية في تنظيم الأصناف مثل فكرة المهدى المنتظر وفكرة التنشئة المتدرجة وضم أفراد من طوائف مختلفة في النقابات الواحدة.
ولكن التدقيق في بحوث من ذكرنا يشير إلى أن الأوليات لم تبحث كما يجب ولا بد من توضيح الجذور قبل بحث التنظيم
لقد كان في المجتمع الإسلامي صنفان من العمال: الأحرار والرقيق. أما الأحرار فهم أصحاب الصناعات في المدن ويلحق بهم أهل الحرف البسيطة كالزياتين وهؤلاء يكونون جمهور الطبقة العاملة
وكان مورد العمال بسيطا آنئذ ويصف حالهم أبو الفضل الدمشقي (وأما الصنائع العملية وهى المهن فقد قيل قديما: الصناعة في الكف أمان من الفقر وأمان من الغنى. وذلك أن الصانع بيده لا يكاد كسنه يقصر عن إقامة ما لابد له منه ولا يكاد كسبه يتسع لإقامة ضيعة أو عقد نعمة.) ويقول (وأيضا فإنه مع ذلك إذا ميز الناس دخل في أدون طبقاتهم)
أما طبقة العبيد فهي أوطأ طبقة وهي تشتغل في الحقول أو البيوت وأحياناً في الجيش.
وليس قلة مورد العمال بالأمر الجديد ولكن تطورات اقتصادية حصلت؛ فالمجتمع انتقل من طور زراعي إقطاعي في العصر الأموي الأول طور تجاري زراعي في العصر العباسي. وقد أدى توسع التجارة الأول تضخم رؤوس الأموال والى الزراعة الكثيفة والى توسع الصناعة وإنشاء المعامل الكبيرة.
ولذا نشهد ظهور طبقة رأسمالية تضم كبار التجار وأصحاب المعمل وكبار الموظفين. وزاد في قوة هذه الطبقة وتوسع فعالياتها ظهور طبقة من أصحاب المصارف الذين هم تجار في الأصل أخذوا يتاجرون بالنقود
ثم نلحظ بسبب توسع المعامل وتكتلهم أكثر من فبل حتى صرنا نرى الألوف يشتغلون في محل واحد أو بقعة واحدة وهذا قوى الشعور بالمصلحة المشتركة وبالأهمية بقعة واحدة ز وهذا قوى الشعور بالمصلحة المشتركة والأهمية والقوة. ولابد أن نشير هنا الأول فكرة وضع الحرف والأصناف في أماكن معينة لكل سوقها وهذه واضحة في تخطيط بغداد عند بنائها وفي تنظيم القيروان وفي بناء سامراء. وهذه الفكرة الطبقية هي فكرة موروثة وأن كان المجتمع القديم قبل الأزهر من اثر فهو في تخليد هذه الفكرة. وهناك ما يشير الأول حصول ارتفاع في المستوى المعيشة وغلاء في الأسعار في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري دون حصول ارتفاع مقابل في الأجور. يضاف الأجور ذلك الفوضى العامة التي أحدثتها سيطرة الجند التركي مما عرقل الأعمال الحرة واضر بأصحاب الحرف قبل غيرهم. فأثر ذلك في خلق البطالة وروح التمرد والنقمة خاصة على الطبقات الغنية والحاكمة وبعد ملاحة هذه الأسس نستطيع ملاحظة موقف الحرف وأصحاب المهن
وتشير البوادر الأولى إلى اتجاهين في التنظيم الأول: تنظيم داخلي سلمي فيه حاول العمال تنظيم أنفسهم فنرى لكل حرفة سوق ورئيس تختاره الحكومة. ونلاحظ وجود تدرج في الحرفة فترى طبقتين: الأستاذة والصناع. وهذا واضح منذ النصف الأول للقرن الثالث الهجري. ولا يوجد سامرا الاقتصادي اضطهاد الحكومة للعمل في هذه الفترة؛ بل أن الحكومة كانت تراقب حركات الأعراب الذين يرتادون الأسواق لأسباب سياسية. ويجدر بالذكر أن وظيفة المحتسب لم تظهر إلا بعد انتهاء الفترة الأولى للفوضى التركية. إذ أن أول إشارة لوظيفة المحتسب تعود لخلافة المعتضد (279 - 289). وان نظرنا الاقتصادي مناشير الحكومة في القرن الرابع الهجري (حتى بعد انتشار الدعاية القرمطية) نراها تجعل عمل المحتسب منع الغش في الصناعة والإنتاج منع الحيلة والتدليس في المعاملات والتأكد من صحة الموازين والمكاييل
ولكن يظهر أن الدعاية القرمطية أثرت في قسم من العمال خلال الفرن الخامس الهجري وأواخر الرابع الهجري وتوجد بوادر تشير الاقتصادي اتهام بعض فعالياتهم
والاتجاه الثاني كان اتجاهاً عنيفاً يدعو للثورة على أصحاب الأموال والخروج على السلطة وهذا يظهر في التكتلات العيارين والشطار. وأول إشارة وصلتنا الاقتصادي هذا التكتل وردت في التوخي وتعود للفرن الثالث وفيها يلاحظ شعائر الجماعة واضحة؛ فلهم ناد خاص سري يجتمعون فيه وشعارهم من الملابس نشر الأزرار على الكتف ولف المئزر في الوسط؛ كما أن الانتماء يتم بمراسيم أبرزها شد المئزر وشرب كأس من النبيذ. وكان أعضاء الجمعية يعملون ويسرقون أحيانا ويقتسمون الأرباح وعلاقتهم عدائية مع الحكومة. وكان هؤلاء يسمون أنفسهم الفتيان. ويجلب الانتباه أن العيارين والشطار كانوا يدعون أنفسهم بالفتيان
ظهر هذا التنظيم في مجتمع مادي ومما زاد قوة التكتل وشدته الدعايات الاجتماعية التي جاءت باسم الدين ولكنها ساعدت على تحسين الحال وتغير الأوضاع الاجتماعية. وتجلت في حركة الزنج وبصورة أقوى في حركة لإسماعيلية والقرامطة الذين تطرفوا في استغلال التذمر فقالوا بان الأنبياء والسلاطين أنزلوا العامة الاقتصادي مستوى العبودية الاجتماعية والشقاء المادي، وأعلنوا أنهم يريدون إرجاع العدل الاجتماعي وتحقيق الرفاه المادي. وهناك إخوان الصفا ووهم جمعية سرية إسماعيلية الميول اشتغلت ضد الخلافة وسعت لتهذيب العامة لتجعل ذلك وسيلة لأحداث ثورة سياسية دينية عامة.
ويظهر أن الطبقة العامة في العراق على الأقل لم تبق راكدة بل حاولت تحسين كيانها وتأثرت بالدعايات، فبعضهم انضم للحركة القرمطية ولحركة الزنج في ثورات عسكرية دامت نصف قرن، والبعض الآخر سعى بطرق علمية تعاونية لتحسين الوضع وكان لفوضى الجند التركي اثر مباشر في ذلك
ويظهر أيضاً أن حركة أصحاب الحرف التي ظهرت لدى العيارين والشطار والفتيان تأثرت بالاتجاهات الصوفية في القرن لخامس الهجري وأواخر اقرن الرابع الهجري، فنجد القشري يشير الاقتصادي خلق سام للفتوة فيه إطاعة للشريعة والرأفة بالناس والعفو عن المسيء والكرم حتى مع المشركين والأمانة والصدق والتواضع، ويفهم من القشري أن حركة الفتيان انتشرت في العراق والشام وإيران لها اتباع من الطبقة المتوسطة إضافة الاقتصادي الطبقة الفقيرة
ولا يخفي أن الصلة بالصوفية حصلت في دور لا تزال الدعاية الإسماعيلية فيه قائمة، وهذا يجعل من الصلابة بمكان فبول رأى لويس من أن النقابات تحرج وضعها بعد اختفاء الحركة القرمطية وأنها لذلك اتجهت نحو ميول دينية كالتصوف. فنشاط الصوفية كان موازيا للنشاط الإسماعيلي.
ويظهر أن الفتوة تأكدت لديها الناحية العسكرية تدريجياً. وقد انتشرت تشكيلات الفتوة في جميع البلاد أفق خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد. وصارت جمعية الفتوة وخاصة بعد أن تبناها الناصر لدين الله مجموعة فتيان يربطهم دستور ديني أخلاقي له واجبات وشعائر منظمة، وينتظر منهم التحلي ببعض الفضائل والقيام بخدمة عسكرية للإسلام
وبعد الفتح المغولي زادت صلة الفتوة العسكرية بالطرائق الصوفية وبنقابات الحرف. وقد بدأ ذلك في الأناضول وانتشرت في العالم الإسلامي حتى صارت كلمتا (نقابة) و (فتوة) تشيران الاقتصادي مدلول واحد، وقد لعب هذا الاتجاه دوراً خاصاً في تطور التاريخ الإسلامي العام
ولابد هنا من ذكر الآراء عن نشأة الفتوة؛ فالأستاذ تيشنر يرى ثلاثة أدوار للفتوة تمثل خطوات انحلال اجتماعي مطرد. فهو يرى أن الحركة الفتوة بدأت كحركة فروسية أرستقراطية؛ ثم تحولت فصارت حركة الطبقة المتوسطة في القرن الثالث عشر الميلادي وأخيراً هبطت في القرن الخامس عشر الاقتصادي أكثر من ذلك وأصبحت حركة العوام، وهكذا اندمج الفتيان بنقابات الحرف
ويرى تورنبخ أن الصوفية والنقابات لم يضموا جمعيات الفتوة بل قلدوها مقتبسين شعائرها ومثلها العليا وأخيراً اسمها
للكلام بقية عبد العزيز الدوري.