مجلة الرسالة/العدد 982/حسن البنا الرجل القرآني
→ لا بد للإسلام من مؤتمر | مجلة الرسالة - العدد 982 حسن البنا الرجل القرآني [[مؤلف:|]] |
كلمة أخرى ← |
بتاريخ: 28 - 04 - 1952 |
للأستاذ أنور الجندي
(أشهد أنني لم أغير شيئا من (روح) كتابات (روبيرجا كون)
- الكاتب الأمريكي الذي التقى بالمغفور له الأستاذ حسن البنا
سنة 1946 واجتمع به طويلاً - ولكني أخذت (معالم) كتاباته
وملاحظاته وخطوط بحثه، كما أرسلها إلى صديق يطلب العلم
في (واشنطن)، وأضيفت عليها من الأسلوب الأدبي ما يجعلها
قريبة من مستوى (الرسالة)
(أ. ج)
لم أكن أظن أن الوقت قد حان بعد للكتابة عن رجل هز تاريخ مصر والشرق الحديث هزة قوية، تركت فيه آثاراً حية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو الغض من قدرها، هي تلاميذه وحواريوه الذين لا يزالون على درجة من القوة والفاعلية
كنت أظن أم أمر هذا الرجل سيظل إلى وقت ما مبهما، يراه بعض الناس قديسا من القديسين، ويراه غيرهم طاغية من الطغاة؛ ولكن الحوادث في مصر قد أسرعت فأعادت إلى (الإخوان) مظهرهم الذي تجلى في صورة من القوة، أعادت إلى الأذهان أثرهم المعروف في توجيه الحياة السياسية والاجتماعية في مصر
وقد أختلف الناس في أمر كل (عظيم) وعبقري ونابغة، ولم يجتمعوا على رأي فيه ما دام حيا، ولكن الموت يحسم الأمر دائما، ويصرف عن صدور الناس أوهامها ويردها إلى شيء من الحق، فتحكم متجردة عن الهوى
وكان ضرورياً أن يختلف الناس في هذا الرجل، وكان حتما أن تفيض بعض النفوس بضروب من الحقد والحسد نحو رجل استطاع أن يجمع حوله الناس، وأن يؤلف بين طائفة ضخمة من الأتباع، بسحر حديثه، وجمال منطقه، وروعة بيانه، فتنصرف هذه المجموعة الضخمة من حول الأحزاب، والجماعات، والفرق الصوفية، وتنضوي تحت لوائه، وتطمئ له وتثق به
وكان هذا مثار حسد الناس، وثار حقد بعض ذوي الرأي، وكان خليقاً بهم أن ينقموا وأن يحسدوا هذا الرجل المتجرد الفقير، على أنه استطاع أن يجمع الناس إليه بوسائل غاية في البساطة واليسر، وهي لباقته وحسن حديثه. . فيرفعهم فوق المطامع المادية، التي يجتمع عليها الناس عادة
وكان طبيعياً أن يتنكر له بعض الناس، وأن يذيعوا عنه بعض المرجفات، فليس أشد وقعاً في نفوسهم من أن يسلبهم أحد سلطاناً كان لهم. وليس أبعد أثرا في نفوسهم أن يجئ رجل من صميم الشعب ليجمع الناس حوله باسم القرآن، ويقول لهم أن الله قد سوى بين الناس بالحق، وجعل فضيلتهم عنده على أساس العمل والتقوى
خيل إليَ بعد أن انطوت حياة الرجل على هذه الصورة العجيبة، وثار حولها ذلك الغبار الكثيف، أن وقتاً طويلاً يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ الحق كلمته، ويروي المؤرخ النزيه قصته
غير أن الظروف السياسية في مصر سرعان ما تغيرت، وأمكن أن يكشف التحقيق في بعض القضايا بطلان كثير مما وصمت به دعوة الإخوان من إدعاءات، وأن يبرأ جانب هذا الرجل بالذات فيبدو نقيا طاهراً
وكنت قد التقيت بالرجل في القاهرة سنة 1946، ثم عدت إلى القاهرة مرة أخرى سنة 1949 بعد أن قضى، وحاولت أن أتصل ببعض الدوائر التي تعرفه فسمعت الكثير مما صدق نظرتي الأولى إليه
فقد علمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت، وكان الكثير من محبيه ينصحه بالهجرة أو الفرار، أو اللياذ بتقية أو خفية، فكان يبتسم للذين يقصون هذه القصة وينشد لهم شعراً قديماً:
أي يومي من الموت أفر ... يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجوا الحذر
وكان لايني لحظة عن محاولة استخلاص أنصاره من الأسر، وكان يبلغ به الأمر مبلغه، فسيتيقظ في الليل، ويضع كلتا يديه على أذنيه، ويقول: إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقلات
إن تاريخ جهاد (الرجل القرآني) طويل. . ولكن أخصب سنواته أيام الحرب. . منذ أن خرج من المعتقل عام 1939، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها، عن الأحزاب، وعن السياسة، وعن كل شئ، كان الرجل لا ينام، كان يسعى ويطوف ويذهب إلى كل قرية، وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ، ويتصل بالعظماء والعلماء، ويومها بهر الوزراء، وأعلن بعضهم الانضمام إلى لوائه الخفاق، وجيشه الجرار
وحاول الإنجليز أن يقدموا عروضا سخية. . فرفضها الرجل في إباء. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ
لقد كان يحب فكرته حباً يفوق الوصف، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة. كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء! لا يجهده السهر، ولا يتعبه السفر، وقد أوتي ذلك العقل العجيب، الذي يصرف الأمور في يسر، ويقضي في المشاكل بسرعة، ويفضها في بساطة، ويذهب عنها التعقيد
كان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر، كأنما لديه أطراف كل أمر، فما أن تلقى إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد، بل أحياناً كان يجهر بما تريد أن تقول له، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه
كان نفاذ البصيرة، نقادها، يرى ما وراء الأشباح، فيه من ذلك السر الإلهي الصادق قبس
كان يلتهم كل شئ، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون، أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب، لم يقرأها ولم يلم بها، ولم يحاول أن يفيد منها لدعوته وفكرته
ولم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب، في القديم أو في الحديث. . لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها، وحظوظهم من النجاح أو الفشل، أو يحمل منها ما يصلح لتجاربه وأعماله
وكان يقول كل شئ، ولا تحس أنه جرح أو أساء. . وكان يوجه النقد في ثوب الرواية أو المثل، وكان يضع الخطوط ويترك لأتباعه التفاصيل
كان قديراً على أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلى طريقته، وفي حدود هواه، وعلى الوتر الذي يحس به، وعلى (الجرح) الذي يثيره
يعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء وفي مصر الوسطى والعليا، وتقاليدها، بل أنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم وفنهم
بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطرق والقتلة، وقد ألقى إليهم مرة حديثاً
وهو يستمد موضوع حديثه - أثناء سياحته في الأقاليم وفي كل بلد - من مشاكلها ووقائعها وخلافاتها، ويربطه في لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجئ كلامه عجبا. . يأخذ بالألباب
كان يقول للفلاحين في الريف (عندنا زرعتان. . إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن)
لم يعتمد يوماً على الخطابة، ولا تهويشها ولا إثارة العواطف على طريقة الصياح والهياج. . ولكنه يعتمد على الحقائق، وهو يستثير العاطفة بإقناع العقل، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ، وبالهدوء لا بالثورة، وبالحجة لا بالتهويش
ويعد (الحديث) عند بعض الناس آيته الكبرى، غير أنني علمت من بعض المتصلين به. . أنها آخر مواهبه، فقد كان أبلغ مواهبه القدرة على الإقناع، وكسب (الفرد) بعد (الفرد) فيربطه به برابط لا نفصم، فيراه صاحبه صديقاً خاصاً، وتقوم بينه وبين كل فرد يعرفه صداقة خاصة خالصة، يكون معها في بعض الأحيان مناجاة، وتنتقل بالتعرف على شؤون الوظيفة والعمل والأسرة والأطفال
وهذه أقوى مظاهر عظمته، فهو قد كسب هؤلاء الأتباع فرداً فرداً، وأصاب منابع أرواحهم هدفاً هدفاً، وإن لم يكسبها جملة ولا على صفة جماعية، وقد استطاع بحصافته وقوته وجبروته أن ينقلها من عقائدها وأفكارها، سواء أكانت سياسية أم دينية، إلى مذهبه وفكرته. . فتنسى ذلك الماضي، بل وتستغفر الله عنه، وتراه كأنما كان إثماً أو خطأ
ومن أبرز أعمال هذا الرجل، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فأعلى قدر الوطن وأعز قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقاً وليس إحساناً، وبين الرئيس والمرءوس صلة وتعاوناً وليس سيادة، وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطاً
وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو على صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل.
يتبع
أنور الجندي